*ذ. أحمد براو
مقولة “ما ترك الحق لي صديقا” لسان حال الصادقين في هذا الزمان وفي كل زمان، كلمة ربما قالها الفاروق عمر أو أبا ذرّ الغفاري رضي الله عنهما، لأن الصادقَ منبوذ ومكروه، ولا أحد يحبه إلا المتقون المخلصون وقليل ماهم. قد لا تكاد تجد أحدهم إلا نادرا لأن قول الحق ثقيل ومحرج، قلة هم سالكو طريقه الموحش، وأصبح لدى الكثيرين منا شيئا مخجلا، لأن من يقول بالصدق يسبَح عكس التيار، بعيدا عما اعتاده الناس من المجاملة والمداهنة، بدعوى اللباقة والتقية، وأصبح الكذب مدنية وتحضر ومن متطلبات العصر، بعضهم يهمس قائلا: “خلّي عنك ما يقلقك حتى تُمشّي أمورك وتسلّكها”، أو يريد نصحك وهو مُغفّل: “اتركها على الله”، وقد ينسى أن الله سبحانه يعاقب على ذلك، ولا يدري أنه ليس من المروءة أو الشهامة، ولا البطولة أو الشجاعة أن تستبدل قول الصدق والحق بالباطل والكذب والبهتان.
ولأن الناس تريد النفاق والتظاهر وإخفاء العيوب، وتفضّل من يتملق لها ويجاريها ويخدعها بلحن القول، وتحب فقط من يوافق هواها ومبتغاها، ولا بأس عندها بذلك إذا كانت الأمور لا تمشي إلا بالكذب والنفاق، ويكره كثيرٌ من الناس الحقيقة لأسبابٍ مختلفة ، فمنهم من يكرهها لذاتها لأنها تتناقض مع ما يؤمن به وما يفعله في سره وعلانيته ، ومنهم من يكرهها لأنها تفضح عيوبَه وتكشف سوء ممارساته ومعاملاته التي اعتاد عليها أمام الناس والمجتمع ، ومنهم من يكرهها لأنها تتسبّبُ بضرر نفسي قد يلحق به، أو جراء معرفة حقيقته التي لا تساعده على قضاء مآربه.
نحن نكره الحقيقة دوما، لأنها مرآة عاكسة لكل ما هو واضح وجليّ في حياتنا وأخلاقنا وممارساتنا ومعاملاتنا، وما دأبنا عليه من عادات وأعراف، نكرهها أشد الكُره لأنها تفرض علينا أن نطَّلع على سوءاتِنا وعيوبنا وتدفعنا راغمين ومكرهين إلى إصلاح أحوالنا والإبتعاد عن كل ما يدنس إنسانيتنا، إذا نحن أردنا أن نكون في توافق مع ذواتنا وفطرتنا وفي حالة مساكنة وتوافق مع جميع الخلق، تجمعنا معا المحبة والإخاء والود والصفاء.
خُلق الصدق علقم كالحنظل والحقيقة أشد مرارة وقساوة، وفي الدنيا غالبا من اَلتزم الصدق وقول الحق لا ينفعه ذلك، وربما يضره، ولكن الصدق ينفع صاحبه يوم الدين ويوم الحساب، قال تعالى سبحانه: “قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم، لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، رضي الله عنهم ورضوا عنه، ذلك الفوز العظيم”، هذا يوم مُشارٌ إليه بإسم إشارة للتعظيم وللإختصاص ولجذب الإنتباه وللتوقيت، متى ينفع الصادقين صدقهم؟ الجواب هو يوم الدين ويوم القيامة ويوم الحساب، يوم لا يغني مولى عن مولى، لا والد عن ولده ولا مولود عن والده، ولكن في العاجلة لابد للصادقين من تحمّل الأذى وكل الأهوال والأمور المخيفة التي توجد في الدنيا، لا تهولهم لأن صدقهم ليس من أجل مصلحة آنية بل ابتغاء مرضاة الله والدار الآخرة، فهم ابتداءا صدّقوا كلام الله وصدَقوا الله وعده، ويعلمون حق اليقين أن صدقَهم ينفعهم يوم الدين، لأن ذلك اليوم يكون فيه الملك للواحد القهار حصرا ومحضا، أما في هذه الدنيا فهنا يكون الملك حتى للناس شكلا ولو أنه قابلا للزوال، “ياقوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض”، هذا في الدنيا ولكن ليس يوم القيامة، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من كان صادقا وقلبه صافيا سليما من الكذب والنفاق.
يقول الصّدّيق أبوبكر(ض) في حق سيد الخلق(ص): “إن كان قالها فقد صدق”، يعلم بأنه الصادق الأمين قبل الرسالة فكيف لا يصدُق بعدها. وضرب بذلك عرض الحائط كل أمانيهم بأن قصة الإسراء والمعراج كذبة اختلقت، لكنه صدقها قبل سماعها من حبيبه المصطفى(ص) لأنه يعلم أنه ما ينطق عن الهوى ولا يقول إلا بالحق.
إن هذا الأمر بالغ الأهمية في هذا العصر الذي نعيش فيه لأنه يمس حياتنا اليومية داخل بيوتنا عند تربية أبنائنا، في معاملاتنا وأشغالنا وتجارتنا وجميع علائقنا، وفي كل ناحية من نواحي هذه الحياة، أحيانا نخاف على أهلنا وأحبابنا وأصدقائنا فنجانب الصدق ونتحرّى الكذب، رقة بهم ورأفة ورحمة لينًا لهم، بل أحيانا لا نصدُق حتى مع أنفسنا. لأن الصدق قد يضر فعلا، وقد لا يجلب لنا منفعة في الحياة الدنيا، والصادق لا يمكن أن ينتظر جزاء الصدق فيها، فهو مؤمن حق الإيمان بجزاء الأعمال، مؤمن بيوم يوَفّى فيه كل واحد حسابه، إن أحسن فله وإن أساء فعليه.
إذا كنت صادقا يكرهك البعض لأنك تقول كلمة الحق لا يهمك لوم اللوامين، ويعادونك لأنك تُخالف هواهم ومعتقداتهم وما اقتنعوا به واستأنسوا به، ويلجأون إلى شتمك وسبّك واختلاق الأباطيل عنك، يتهمونك ليفسدوا سمعتك بين الناس، لأنهم عاجزون عن المواجهة والإقناع بالحجة والبرهان ، ويزداد حسّادك وأعدائك ويقِلُّ تعداد أصدقائك ، ويَكثُر الشاكون في أمرك ، ويقل العارفون بقدرك ، وتشعر أنك أصبحت منبوذا وتدرك أنك وحيدا فريدا، وأن قول الحق لم يدع لك صاحبا.
إن حرصك لتكون صادقاً وتقول الحقيقه دائما شيئ صعبٌ جدا وليس باليسير، والتمسك به في هذا الزمان يصعب على الكثير، والناسُ عرضة للخطأ أكثر من الصواب ، طبعا بقولك الحق ستكون ممقوتاً عند الآخرين لا صاحب لك ولا رفيق ولا صديق، ولكن عزاؤك في هذا هو أن الحق دامغ يعلو، والباطل زهوق يخفت، ومراجعة الحق خيرٌ من التمادي في الباطل، وأن غدا لناظره قريب.
*كاتب وباحث من ايطاليا