رمضان فرصة ثمينة وعملية للتغيير

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

*سري سمور

 

 

لا بد أنك تعمد أحيانا إلى إعادة ضبط الهاتف المحمول بعد استخدامه بكثافة أو تثبيت تطبيقات جديدة عليه أو وجود ضعف في سرعته وأدائه أو ما شابه، وبالتأكيد قمت بعمل “إعادة ضبط” لجهاز “الراوتر” بناء على طلب موظف الشركة المزوِّدة بالإنترنت أو باجتهاد شخصي منك، لتحسين الأداء أو لتمكين الاتصال والتحميل وغير ذلك.

وهناك أجهزة وأمور كثيرة نقوم بعمل إعادة ضبط لها بما في ذلك أجسادنا، مثلا نقوم بإغماض العينين وفتحهما بعد مجهود بصري، ونقوم بعمل حركات معينة لتنشيط الأعضاء، أو نغسل وجوهنا أو نأخذ حماما باردا أو ساخنا لتجديد النشاط.

وبهذا الاعتبار يمكن أن ننظر إلى شهر رمضان المبارك، فهو بمثابة إعادة تجديد أو إعادة ضبط لأمور حياتنا الروحية والجسدية والعقلية وصولا إلى الأمور الاقتصادية والتعليمية.

أعلم أن هناك آلافا مؤلفة من الكتب والدراسات والمقالات والمواد المرئية والمسموعة حول الصيام وحول شهر رمضان، وهي زاخرة بالفوائد المختلفة، سواء التي تتناول الصيام وهذا الشهر من الناحية الفقهية أو الوعظية، أو الطبية والصحية، أو التاريخية (رمضان شهر الانتصارات والفتوحات المشهودة عند المسلمين).

وفي هذه السطور لا مجال لكثير من التفصيلات، أو لإعادة حرفية لما سبق الحديث عنه، ولكن لأبدأ بعملية إعادة الضبط الرمضانية وماذا قصدت بذلك التشبيه أو الوصف.

يتناول المسلم الصائم السحور في وقت يسبق طلوع الفجر الصادق (الأذان الثاني)، وهذا يعني أن عليه الإفاقة من النوم، وربما يكون قد امتنع عن النوم حتى يتناول وجبة السحور ويصلي الفجر، ويفترض بالمسلم في رمضان أن يحرص على أداء الفروض الخمسة في المسجد جماعة، وأن يلتزم بصلاة التراويح بعد العشاء، وأن يجتهد في قراءة القرآن الكريم وختمه مرة على الأقل، مع ما يتطلبه ركن الصوم من امتناع عن المفطرات، ونتحدث عن عموم المسلمين وليس أصحاب الأعذار الصحية أو الاجتماعية أو المهنية أو الدراسية أو غيرها.

هذه عملية إنعاش للطاقات أو إعادة ضبط تجعل ما بقي من شهور السنة حتى رمضان الذي يليه إذا قدّر للمرء أن يكون من الأحياء أسهل وأكثر اعتيادا.

وكأن شهر رمضان هو دورة تدريبية مكثفة لمن أراد أن يجعله كذلك، فأنت في غير أيامه لست مضطرا لأن تفيق قبل الفجر الصادق، وهذا يعني أن أداءك فريضة الفجر في وقتها أسهل لو اتخذت رمضان محطة تجديد وشحن للطاقة، وسيسهل عليك أن تؤدي ما استطعت من فروض الجماعة في المسجد فقد كنت تجتهد في ذلك في الشهر الكريم، أما قراءتك للقرآن الكريم فليس أقل من صفحة في اليوم بعدما ختمته مرة وأكثر في رمضان، ولن تستثقل فريضة العشاء وقد كنت تؤديها وتمكث بعدها ما شاء الله حسب المسجد الذي تصلي فيه وطبيعة الإمام الذي يصلي بك صلاة التراويح.

هي أيام معدودات لا شك أنها “شاحن” للطاقة وفرصة لتعزيز الهمة ومحطة تنشيطية لا مثيل لها، ويحضرني مثل آخر على أسلوب الشحن والتجديد، إذ إن أحد المدرسين كان يضع أسئلة امتحانات لطلبته الذين كانوا يستعدون لتقديم امتحانات الثانوية العامة، وكانت أسئلته أصعب من التي جاءتهم عند امتحان الثانوية العامة، فسأله بعضهم عن الأمر وأضاف أنه عند مراجعة حتى أسئلة السنوات السابقة تبين أن أسئلتك يا أستاذنا أصعب منها، لماذا؟ فأجاب بثقة: نعم، أعرف هذا وقد تعمدت حتى تعتادوا على نمط أسئلتي وحين تأتيكم أسئلة الامتحان العام ترونها سهلة ولا تأخذ منكم وقتا أو جهدا، هل منا من نظر إلى شهر رمضان بهذه الطريقة؟ فليواصل من فعل، وليحاول ويجرب ويجتهد من لم يفعل.

ورمضان أيضا فرصة كبيرة سانحة لتجديد العهد مع الله ونيل المغفرة، وفي الحديث الذي أخرجه الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم “رَغِمَ أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يُغفر له”.

وكأن سهولة الحصول على العفو والمغفرة والعتق من النار أشبه ما تكون بتحصيل حاصل لمن عقد النية وعزم على أن يتعرض لنفحات الله في هذا الشهر المبارك.

أجواء مميزة
مغتربون في دول غربية يصرحون دوما أنهم لا يغبطون أهل بلادنا العربية والإسلامية إلا في شهر رمضان والعيدين، ويتحدثون بحسرة عن فقدانهم أجواء رمضان، فيما قد يشعرون براحة في غيره في غربتهم لأسباب عدة، هذا مع كل محاولاتهم في الغربة أن يحصّلوا بعضا من أجواء رمضان، والسبب كما هو معروف أن البلاد الغربية تظل فيها وتيرة وروتين ومظاهر الحياة على حالها.

وهذا ما يدفع بعضهم إلى ترتيب إجازته تزامنا مع رمضان كي يقضيها في وطنه وبين أهله وأقاربه، بل بعضهم قال إنه تعمد السفر إلى مدن عربية عريقة في أجوائها الرمضانية وأقام في نُزُل أو بيت مستأجر دون أن يكون له أقارب أو أعمال، فقط كي يستمتع بأجواء رمضان متنقلا بين المساجد وموائد الإفطار والأسواق.

أجواء رمضان من معالم الوحدة بين المسلمين، صحيح أن موعد بدء الشهر والخروج منه قد تختلف فيهما بعض الدول ولكن بعد اليوم الأول ومثلا عند نشر هذه المقالة كل الدول الإسلامية تنتشر فيها الأجواء الرمضانية، ويفطر المسلمون مع أذان المغرب ويمسكون مع الفجر، وصلاة التراويح تجمعهم يوميا وكأنها مثل يوم الجمعة أسبوعيا، وفي موضوع المأكولات صار لكل دولة طبقها الخاص بالشهر الفضيل وكأنه جزء من الهوية والثقافة، مما يجعل هذا الشهر نسيجا وناظما لمكوناتها المختلفة من شرقها إلى غربها.

الفوانيس والأضواء لم نكن نعرفها في طفولتنا، وأعني في بلدي ومحيطي وجيلي، ولا أعمم على الأجيال والمناطق الأخرى، وحاليا صارت كل البيوت تزدان بها، وحين أرى فرحة أولادي بها أحرص على تعليقها على النافذة مثلي مثل الجيران.

قد ينظر إلى هذا المظهر على أنه ليس من سنة السلف وفيه إسراف، قلت: الإسراف في هذا ليس موجودا، فهذه أسعارها بسيطة مقارنة بأشياء أخرى، ويمكن أن تظل لعدة سنوات تعلق في رمضان، وأيضا ثمة أمر لا يقل أهمية، وهو أننا في زمن صار الناس والنشء يطّلعون على الثقافات الأخرى بسهولة، وقد لاحظنا ذلك الاهتمام من كثير من المسلمين بشجرة عيد الميلاد، لدرجة أنه تم تداول طرفة عبر مواقع التواصل تظهر فيها صورة يتجمع المسلمون حول الشجرة وقد كتب عليها تعليق “ينقص الشجرة وحفل عيد الميلاد حضور إخوتنا في الوطن من المسيحيين!”.

ونحن نقرأ في تاريخ القدس كيف أن عاملي الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان لفتوا نظره إلى تأثر أو إعجاب بعض المسلمين بعمارة وزخارف كنائس النصارى، فكان هذا سببا لبناء التحفة المعمارية التي يعرفها كل العالم، أي قبة الصخرة، فهل كان بناء القبة الرائعة إسرافا لا داعي له؟ ونحن نرى كيف أنها صارت من عناوين وأيقونات الرباط والجهاد والتضحية.

فأطفالنا يجب أن يكون لديهم شعور بالبهجة بأشياء محسوسة كالأضواء والفوانيس في رمضان، ومن الأشياء الخاطئة رجاء وأمنيات أن يكون إقبال الناس على الخير وصلاة الجماعة في غير رمضان كمثله، وهذه أمنية أو نقد لا يخلو من جهل، فإن لله نفحات منها نفحات الشهر المبارك، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان أجود الناس وأجود ما يكون في رمضان كما في حديث البخاري عن ابن عباس.

وكان جبريل -عليه السلام- يتدارس معه القرآن في رمضان، فهذا شهر مميز عن بقية الشهور بأيامه ولياليه، وقد ورد عن الإمام الشافعي -رحمه الله- أنه كان يختم القرآن الكريم في رمضان 60 مرة، فالنبي والصحابة والتابعون والأئمة والعلماء والصالحون كانت عبادتهم وتطوعهم للخير في رمضان أكثر من غيره.

لكن النقد وصولا إلى الغضب هو من هجران القرآن بعد رمضان ولو أن يقرأ المسلم صفحة واحدة، وترك صلاة الجماعة عدا الجمعة ولو أن يصلي بضعة فروض في الأسبوع في المسجد، وغير ذلك من أعمال الخير والاجتهاد في العبادات والطاعات التي يحرص الناس عليها في رمضان، فإذا هلّ هلال شوال وما بعده تركوها وهجروها، هؤلاء لم تنجح معهم عملية “إعادة الضبط” هدانا وإياهم الله، هنا وجه النقد واللوم والتحذير، وليس أن نطلب ما لن يكون من وجود كل أوجه الخير في غير رمضان، وإلا فبمَ تتميز مواسم الخير، ومنها شهر رمضان؟

دعوة من جديد
في رمضان 1441 هـ (2019 م) كتبت هنا مقالة بعنوان “رمضان بنكهة فاكهة الطنطاوي وظلال سيّد ومجموعة الشريف”، وربما العنوان يعطي فكرة عنها لمن لا يريد مراجعتها، وهذا العام وفي رمضان الحالي حتى كتابة هذه السطور فقط أتابع حلقات الشيخ علي الطنطاوي، وقد بدأت ذلك في الثالث من رمضان وكأنني لأول مرة أراها، وفيها من الكنوز المفيدة ما لا يسعني شرحه، فأكرر دعوتي وأجددها لمتابعتها على يوتيوب أو غيره، إضافة بالطبع إلى مجموعة مقالات الشريف وظلال سيّد حسب وقت وظرف كل إنسان، نسأل الله أن يتقبل منا صلاتنا وصيامنا، وأن ينسلخ رمضان وقد غُفر لنا ما تقدم من ذنبنا.

*كاتب ومدون فلسطيني

إيطاليا تلغراف


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...