في إنجازات معركة القدس وتحدّياتها

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

 

 

أمجد أحمد جبريل

 

 

على الرغم من الانعكاسات السلبية لتصاعد التطبيع العربي والإقليمي مع إسرائيل، على الحالة الفلسطينية عمومًا، والمقدسية خصوصًا، فإن ثمّة مؤشرات على إمكانية نهوض/ تماسك العامل الذاتي الفلسطيني، لمواجهة هذه الانعكاسات، سيما مع تكثيف إسرائيل مستويات الصراع الرمزي والخطابي والنفسي والدعائي ضد الشعب الفلسطيني، بسبب استعجال قوى اليمين الصهيوني الديني وغلاة المستوطنين في حسم الصراع، والمبالغة في استفزاز الفلسطينيين، عبر تشديد حصار القدس والمسجد الأقصى وكنيسة القيامة، واستهداف الرموز الفلسطينية، سواء السياسية أم الإعلامية أم الدينية، بالتوازي مع استمرار سياسات الإعدام الميداني والاعتقال والإبعاد وسحب الهويات وزيادة الحواجز العسكرية وهدم المنازل في القدس والتضييق على تشييع جنازات الشهداء والتهديد المتكرّر باغتيال قيادات المقاومة الفلسطينية .. إلخ.

وفي هذا الإطار، ثمّة عاملان يفسّران النجاح في معركة القدس والأقصى، في شهر رمضان الماضي خصوصًا؛ أحدهما انتقال مركز ثقل “المقاومة الشاملة” إلى القدس والضفة الغربية، بدون تدخل فعلي أو مباشر من فصائل غزة التي أظهرت “تريثًا محمودًا” لمنع صرف الأنظار عن تفاقم الانتهاكات الإسرائيلية في القدس، على نحوٍ سيؤدّي إلى استعادة المسار الصحيح للنضال الوطني، بحيث تعود قضية القدس إلى مكانتها المحورية/ المركزية، بوصفها محور “الهوية الوطنية”، ونقطة الارتكاز الأساسية في توحيد الصف الفلسطيني، تمهيدًا لتصعيد المقاومة ضد الاحتلال.

يتعلق العامل الآخر بتأثير دخول جيل من الشباب الفلسطيني إلى ساحة النضال (من مواليد ما بعد اتفاق أوسلو 1993)؛ إذ يتميزون، مقارنةً بجيليْ نكبة 1948 ونكسة 1967، بالإرادة وعدم الخوف من إسرائيل، فضلًا عن معرفةٍ دقيقةٍ بنقاط ضعفها، وكيفية اختراق الأنظمة الأمنية، حتى في أثناء إغلاق الضفة الغربية وتشديد الإجراءات الأمنية، كما اتضح من سلسلة العمليات الفلسطينية الفدائية الفردية (على مدار شهري مارس/ آذار وأبريل/ نيسان الماضيين)، ما كشف تآكل “الردع الإسرائيلي” في أعين هؤلاء الشباب؛ إذ باتوا ينظرون إلى دولة الاحتلال بوصفها “نمرًا من ورق”، بعد تراكم الثقة بالذات، استلهامًا من تجارب الصمود الفلسطيني في مدن الضفة الغربية ومخيماتها في مواجهة الاجتياحات والاقتحامات المتكرّرة منذ عام 2002. ويبدو واضحًا تصميم الشباب على تحدّي حكومة نفتالي بينت الإسرائيلية، وقدرتهم على توجيه ضربات موجعة تُظهر هشاشتها، على الرغم من تصعيد القمع والاعتقالات، ضمن ما سمّيت حملة “كاسر الأمواج”، في الضفة الغربية.

حاجة مُلحّة للعمل على تصعيد الأداء النضالي، لتحويل معركة القدس رافعةً للحالة الفلسطينية

وفي سياق هذه المعطيات، يبدو ممكنًا دخول قضية فلسطين مرحلة جديدة من “المقاومة الشاملة” وإحياء الانتفاضات والهبّات الشعبية، نتيجة تعزيز شعور “الامتلاء الذاتي” و”إنعاش الذاكرة الوطنية” والثقة بإمكانية الإنجاز، على الرغم من ضغوط البيئتيْن، الإقليمية والدولية، كما ظهر في الصمود الشعبي والرباط، دفاعًا عن المسجد الأقصى، على مدار الأسابيع الماضية، والنجاح الواضح في تحشيد الجماهير في المناسبات الوطنية (منذ ذكرى يوم الأرض 30 مارس/ آذار، وصولًا إلى الذكرى الرابعة والسبعين لنكبة فلسطين 15 مايو/ أيار)، فضلًا عن التحشيد في جنازات تشييع الشهداء، التي باتت تلعب دورًا مهمًا في معالجة آثار الانقسام السياسي الطويل، بين حركتي فتح وحماس.

وعلى الرغم من هذه الإنجازات المعنوية والإدراكية والسياسية المهمّة في معركة القدس، ثمّة حاجة مُلحّة للعمل على تصعيد الأداء النضالي، لتحويل معركة القدس رافعةً للحالة الفلسطينية، بحيث يجري تجاوز سلبيات مرحلة الانقسام وافتقاد الاستراتيجية الشاملة، بغية تمتين العامل الذاتي الفلسطيني، عبر مساريْن متكاملين؛ أحدهما تعزيز الرهان على الفعل الشعبي الفلسطيني، خصوصًا أدوار الشباب والمرأة والنقابات والجامعات، في تفعيل الشبكات الاجتماعية القادرة على إسناد “انتفاضة شعبية شاملة” تستمر عدة سنوات، لكي تتمكّن الحالة الوطنية من إعادة بناء الذات الفلسطينية وتحقيق قدر من “الاستقلالية المجتمعية”، وإبراز حيوية “الذاكرة الجمعية الفلسطينية”، وتأكيد القدرة الوطنية على التصدّي لعمليات الإخضاع الكونيالية الإسرائيلية بمكوناتها الأربعة (القمع السياسي، والاستغلال الاقتصادي، وتدمير المؤسسات الفلسطينية، والاضطهاد العقائدي والثقافي). ويتعلق المسار الآخر بأهمية تفعيل الجهد الدبلوماسي/ القانوني الفلسطيني وحسم مسألة التوجّه نحو محكمة الجنايات الدولية، وعدم المساومة على الحراك الشعبي الفلسطيني، واستثماره لرفع الحالة الفلسطينية إجمالًا.

ستدفع عودة قضية القدس إلى الواجهة إسرائيل إلى محاولة طمسها واختزالها في “حرية العبادة”

والمؤكد أن تحويل إنجازات “معركة القدس” إلى رافعةٍ لقضية فلسطين، يستوجب التصدّي لتحدّي عدم السقوط في فخ التسوية الأميركية/ الإسرائيلية مجدّدًا، التي يتوقع إحياؤها في الزيارة المرتقبة للرئيس الأميركي، جو بايدن، الشرق الأوسط، في يونيو/ حزيران المقبل؛ فعلى السلطة الفلسطينية التخلص تدريجيًّا من التزامات أوسلو، سيما الاعتراف بإسرائيل، والتحرّك نحو عزلها ومقاطعتها فلسطينيا وعربيا ودوليا، واستثمار تداعيات اغتيال الصحافية المقدسية، شيرين أبو عاقلة، للدفع نحو محاكمة مجرمي الحرب الإسرائيليين أمام محكمة الجنايات الدولية، والعمل على الخروج من الإطار التفاوضي الثنائي مع إسرائيل، واستعادة مرجعية القانون الدولي بوصفه أساسًا لأية تسوية لقضية فلسطين، واستثمار تداعيات الأزمة الأوكرانية لفضح ازدواجية المعايير الغربية في دعم كييف، والتنكّر لحقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرّف، على ضوء وجود فرصة نادرة لبناء ائتلاف دبلوماسي عربي/ إقليمي/ دولي مناصر لقضية القدس، والبناء على مواقف روسيا والصين والفاتيكان والأردن وقطر وتركيا وإيران وباكستان وماليزيا وإندونيسيا.

وستدفع عودة قضية القدس إلى الواجهة إسرائيل إلى محاولة طمسها واختزالها في “حرية العبادة”، وتغييب أي حديث سياسي يتعلق بـ”حقوق السيادة”، كما تجلّى في خطوتين؛ إحداهما اقتراح الرئيس الإسرائيلي، يتسحاق هيرتزوغ، تشكيل لجنة مشتركة للتنسيق حول المسجد الأقصى وإدارة شؤون الأماكن المقدسة في القدس، بين إسرائيل والدول العربية مصر والأردن والإمارات والبحرين والمغرب. والأخرى زعم رئيس الوزراء، بينت، في 8 مايو/ أيار الجاري، إن “إسرائيل صاحبة السيادة على مدينة القدس والمسجد الأقصى، من دون أي اهتمام باعتبارات خارجية”.

أهم إنجازات “معركة القدس” كشف انسداد أفق عملية التسوية مع إسرائيل، وعجز الحلول “الترقيعية”

وغنيٌّ عن البيان أن إسرائيل لم تدّخر وسعًا، منذ زيارة الرئيس المصري، أنور السادات نوفمبر/ تشرين الثاني 1977، وخطابه أمام الكنيست في القدس الغربية، في التنظير القانوني للعبث بمفهوم “السيادة على القدس”، بغية “تقويض مفهوم السيادة المطلقة أو الإقليمية” التي يطالب بها الفلسطينيون، عبر إدخال مفاهيم ملتبسة، والترويج أن القدس بشطريها ستكون مفتوحة، ما يؤدي إلى ازدهارها ورفاهية سكانها من اليهود والعرب، بالإضافة إلى مفهوم “السيادة السماوية أو الإلهية” على القدس، وكذا التمييز بين “السيادة فوق المسجد الأقصى، وتحته”، التي رفضها جميعًا الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات في مفاوضات كامب ديفيد الثانية (يوليو/ تموز 2000)، التي أعقبها اقتحام زعيم حزب الليكود، أرييل شارون، باحات الأقصى بحماية أكثر من ألفي شرطي إسرائيلي، التي أشعلت شرارة انتفاضة الأقصى أواخر سبتمبر/ أيلول 2000.

يبقى القول إن أهم إنجازات “معركة القدس” كشف انسداد أفق عملية التسوية مع إسرائيل، وعجز الحلول “الترقيعية” (مثل أوسلو) عن تأسيس دولة فلسطينية ذات سيادة، ناهيك عن التصدّي لجوهر المشروع الصهيوني الاستيطاني، الذي يرفض أي مصالحة حقيقية مع الشعوب العربية، إلا إذا كانت تكرّس هيمنته ومصالحه الأمنية على حساب الفلسطينيين والعرب دائمًا، ما يؤكد الحاجة إلى استراتيجية واضحة لمواجهة إسرائيل، تنطلق من مبدأ أن “القدس هي القضية”، وهي المدخل الأنسب لتوحيد القوى المؤيدة للسلام والعدالة والحرية في فلسطين.

باختصار، ستبقى قضية القدس معضلة التسوية مع إسرائيل، ومفتاح السلام الدائم في الشرق الأوسط، ما يستوجب خوض معركة بناء “الوعي التراكمي” بأهمية الهبّات الشعبية في ترميم الهوية الفلسطينية، تمهيدًا لصناعة “انتفاضة شاملة” تفرز قياداتها وأيقوناتها على نحو سيغير، شيئًا فشيئًا، من ديناميكيات الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، في المديين، المنظور والمتوسط، وصولًا إلى انتصار السردية الفلسطينية على نظيرتها الإسرائيلية.

إيطاليا تلغراف

 


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...