«نجيب محفوظ وسردياته العجائبية»: التحليل النفسي لعالمه وشخصياته

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

 

محمد عبد الرحيم

 

 

 تمر هذه الأيام الذكرى السادسة عشرة لرحيل نجيب محفوظ (11 ديسمبر/كانون الأول 1911 ــ 30 أغسطس/آب 2006). ومع كل عام يمر، سواء على ميلاده أو رحيله، يدور الحديث عن الرجل وعالمه الإبداعي. هناك الكثير من التكرار، خاصة ما يخص مواقف محفوظ من القضايا العامة، أو مواقف حياتية شهدها بعض الأصدقاء. لكن اللافت والأهم هو مقدرة النصوص التي كتبها ـ روايات أو مجموعات قصصية ـ على قابليتها التي لا تنفد إلى التأويل، واستخدام المناهج النقدية الحديثة عليها، كاشفة بذلك من جهة أخرى عن وعي هذه النصوص وصاحبها، وأن ما روته لم ينته فكرة ورؤية وأسلوبا. وبخلاف الأصوات النقدية المعهودة التي تناولت أعمال نجيب محفوظ، أو حاورته، هناك أصوات أخرى تحاول تقديم رؤية مختلفة لهذه الأعمال، ومنها كتاب «نجيب محفوظ وسردياته العجائبية» للأكاديمي المصري خالد عبد الغني، ومن وجهة نظر التحليل النفسي بالأساس.

السيرة الذاتية في «الحرافيش»

تحت هذا العنوان يحاول الكاتب عقد مقارنة بين شخصية نجيب محفوظ و(عاشور الناجي) ذلك من خلال التنبؤ والاستبصار بالمستقبل. فالرواية تم إصدارها عام 1977، والمقارنات التي يعقدها الكاتب تمتد حتى رحيل نجيب محفوظ، وهذا ما أطلق عليه الاستبصار بالمستقبل. وتبدو بعض أشكال من سيرة محفوظ نفسه في بعض أعماله.. شخصية (كمال عبد الجواد) في الثلاثية، و(عامر وجدي) في «ميرامار». وتجربة محفوظ تحمل الكثير من الفكر والتصوف والبحث الدائم عن العدالة في ظل ظروف سياسية معروفة. لكن المقارنة بين محفوظ والناجي، والبحث عن أوجه تشابه يمكن أن نفهمها من أن يتحدث الناجي بلسان محفوظ، خاصة وهو يحاول إرساء قيم العدل والخير للحارة. لكن أن يصبح اسم (نجيب محفوظ) اسما مُركباً، وبالتالي لا يقترن معه اسم الأب (عبد العزيز) فيكون نفسه اسما لـ(عاشور الناجي) دون اسم الأب، فهو مغالاة لإيجاد التشابه. هذا بداية من الاسم، وتستمر التشابهات، فعاشور ينجو من الوباء، ومحفوظ ينجو من حادث القتل/وباء التطرف. وعاشور يحوز الثروة والشهرة، ثم يُسجن بعدها، ومحفوظ ينال (نوبل) ويُسجن بعدها ـ معنوياً ـ في تهمة التطبيع والخروج عن تعاليم الإسلام، كما اتهمه البعض في «أولاد حارتنا» وأشاعوا أنها سبب فوزه بنوبل. وفي الأخير.. عاشور الذي اختفى، فلم يتأكد موته، والبعض يحلم بعودته، كصورة من صور المهدي المنتظر، ومحفوظ الذي رحل بالجسد فقط، لكنه حيّ بما ترك من أعمال، ستظل طريقاً ومرشداً لمن سيأتي من بعده.

سعيد مهران وأوديب

ويعقد الكاتب مقارنة أخرى بين شخصية (سعيد مهران) في رواية «اللص والكلاب» و(أوديب) سوفوكليس، على مستوى الشخصيات والمصير المشترك. فيقارن مثلاً بين شخصيتي (الشيخ) و(العراف) فكلاهما يحاول أن يوضح لسعيد وأوديب الطريق، لكنهما لم يقتنعا، وواصلا المسير نحو المحتوم. فلم يع سعيد كلمات الشيخ وضاق بها، وسخر أوديب من العراف الأعمى، فكان مصيره العمى، وبإرادته هذه المرّة. هذا (العمى) يراه علماء النفس بديلاً عن عملية (الإخصاء) التي كان يجب أن يقوم بها أوديب بعد معرفته الحقيقة ـ زواجه من أمه ـ هذا الإخصاء نفسه يراه الكاتب متحققاً في سلاح سعيد مهران الانتقامي (المسدس) هذا السلاح الذي لم تصب منه رصاصة هدفها، فقط رصاصات طائشة وقتلى بالخطأ، إلا أن المبالغة أيضاً تصاحب الكاتب، عندما يؤول اسم الجريدة التي يعمل فيها (رؤوف علوان) والتي تستعدي الرأي العام على سعيد مهران، بأن اسمها (أبو الهول) وهي التي تتماس مع الوحش الأسطوري الذي قابله أوديب عند أبواب المدينة، واستطاع أن يحل اللغز ويقتل الوحش (سفنكس). إلا أن نجيب محفوظ استخدم هذا الاسم بديلاً عن جريدة (الأهرام). وأظن أنه استخدمه في رواية «الطريق» أيضاً.

أوركسترا قُطّاع الطرق

ينقل الكاتب أحد أحلام نجيب محفوظ، الذي لم يُصغ أدبياً، لكنه حكاه إلى محمد سلماوي، الذي نشر في مجلة «الثقافة الجديدة» المصرية، عدد يناير/كانون الثاني 2009. تحت عنوان «محمد سلماوي يروي الحلم الأخير لنجيب محفوظ». يحلم محفوظ قائلاً.. «كنتُ سائراً في أحد الشوارع وكان ينتابني خوف بسبب وجود بعض قطاع الطرق، الذين يهاجمون المارة ويسرقونهم، وقد يصيبونهم بأذى أيضاً بالمطاوى والسكاكين التي يحملونها. ووسط خوفي هذا قابلت بالمصادفة صديقي المرحوم حسين فوزي، الذي أصبح الآن يظهر بشكل متكرر في أحلامي، وما أن رأيته حتى قصصت عليه قصة هؤلاء المجرمين الخارجين على القانون، الذين يتربصون بالناس في الطريق العام. فقال لي حسين فوزي على الفور: ده أنا أمنيتي أن أقابلهم.. الحقني بهم. فدهشت لذلك، لكني أخذته إلى حيث يوجدون، وتركته ومضيت إلى حالي. وبعد فترة جاءني الدكتور حسين فوزي يقول: تعإلى بقى شوف الحرامية بتوعك! فذهبت معه وأنا ما بين الخوف وحب الاستطلاع، فوجدت المجرمين الذين كنت أخافهم وقد ارتدوا البدل السموكنج السوداء مثل عازفي الأوركسترا السيمفوني، وكل منهم أمامه النوتة وفي يده آلته. وهنا قال لي حسين فوزي: حاسمّعك دلوقت سيمفونية بيتهوفن الخامسة. وبالفعل عزفت لي أوركسترا قُطاع الطرق السيمفونية الخامسة لبيتهوفن».

ويحلل المؤلف هذا الحلم الذي لم يُنشر ضمن أحلام نجيب محفوظ، بأنه يُعبّر عن أعراض ضغوط ما بعد الصدمة. كما أنه لا يتمنى عقاب المجرمين، بل هدايتهم وإصلاحهم ـ وهو ما حدث بالفعل من طلبه العفو عمن حاولوا قتله ــ ثم نأتي إلى بيتهوفن، الذي كان مصاباً بالصمم عند تأليفة هذه السيمفونية، وكذلك محفوظ الذي اقترب من الصمم في سنواته الأخيرة، ورغم ذلك أبدع أصداء السيرة الذاتية وأحلام فترة النقاهة. وفي الأخير.. هناك إيمان كبير بالقدر.

إيطاليا تلغراف


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...