في استدعاء “حماس” البراغماتية في السياق السوري

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

أسامة أبو ارشيد

 

 

في خضم الجدل الذي ثار الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الأول) بشأن زيارة وفد من حركة حماس دمشق والتقاء رئيس النظام السوري بشار الأسد، وإعلان رئيس الوفد، خليل الحيّة، “استعادة علاقتنا مع سورية العزيزة.. (واتفاقنا) على طيِّ صفحة الماضي”، لم تكن الأطراف المتشاكسة تسمع بعضها بعضاً، بل إنها لم تكن تبحث عن الحقيقة والموضوعية، ولا حتى المصلحة الكبرى المشتركة. كان المهم هو الانتصار للموقف المنحاز الذي ينطلق منه كل طرف. ولا أريد هنا أن أجترَّ النقاشات التي جرت في الموضوع، وكنتُ ممن شاركوا فيها واشتبكوا معها بشكل مباشر، وبالتالي، كنت، كغيري من أطراف النقاش، عرضةً للنهش والتشكيك، بل وحتى تلميحات لا تخطئها عين من بعض قياديين رفيعي المستوى في الحركة بأني قد أكون عميلاً، سواء لإسرائيل أم للولايات المتحدة التي أقيم فيها وأحمل جنسيتها. كان هذا حالي، أنا من يعدني بعضٌ قريباً، فما بالكم بالبعيد؟ لكن، ما لفت انتباهي خلال التراشق بين مؤيدي قرار استعادة العلاقة مع نظام الأسد ومعارضيه أن شريحة واسعة من قاعدة “حماس” التنظيمية أشهرت في وجه خصومها شعار “البراغماتية” pragmatism ضد من نعتوهم بالمثاليين أو الدوغمائيين.

مبدئياً، لست ضد البراغماتية بالإطلاق، غير أن ثمَّة مفارقتين لافتتين برزتا في هذا السياق. الأولى، أن من تسربلوا بما عدّوها “براغماتية” هم أكبر خصومها فعليّاً، ضمن تكييفاتهم الدينية والأخلاقية والأيديولوجية والسياسية، كما في موقفهم من “السلام” مع إسرائيل. أما الثانية، فهي أن استدعاء “البراغماتية” كان يتم بخفّة ورعونة، حيث إنها تحولت إلى النقيض والضد في الصدد الذي نحن بشأنه، وإليك بعض تفصيل.

البراغماتية مدرسة فلسفية عميقة لها تعريفاتها ومبادئها وسياقاتها التي تطوّرت على أيدي فلاسفة ومدارس متعدّدة على مدى قرن ونصف القرن، تقريباً، منذ نحت مصطلحها الفيلسوف الأميركي، تشارلز ساندرز برس، عام 1878، وهي مشتقّة من كلمة pragma اليونانية، والتي تعني “فِعْلا” أو “علاقة”. وكان المؤرّخ اليوناني بوليبيوس (توفي عام 118 قبل الميلاد) وصف كتاباته بأنها “براغماتية” pragmatic، بمعنى أنها كانت تهدف إلى أن تكون مفيدة لقرّائه.

ليس من أهداف هذا العجالة أن تنبش في معنى البراغماتية ومدلولاتها، ولا أن تسبر أغوارها بعمق. يكفينا أن نعلم أن البراغماتية، في العموم، تفترض التعامل مع الأمور بواقعية بناء على أسسٍ عملية لا نظرية. وهي تركّز على النتائج العملية باعتبارها تشكل المعيار الأساس في تحديد المعنى أو الحقيقة أو القيمة. أي أنها ترفض أيا من أشكال الأحكام المطلقة، والمبادئ الدينية والأيديولوجية والأخلاقية التي تراها جامدة ومتشنّجة، فكل شيء نسبي وخاضع للنقاش، وقابل للنقد، وحتى النقض. هنا تدخل مفردةٌ أخرى تقدّمها هذه المدرسة، وهي “الأخلاق البراغماتية” pragmatic ethics، والتي يرى أصحابها أن المبادئ والقيم والأخلاق في حالة صيرورة وحركة دائبة، وهي قابلة للتطوّر، زمانياً ومكانياً، بل وحتى التغيير جذرياً، تماماً كما الحقائق العلمية أو التاريخية، بناءً على التجربة والمعلومات والمعطيات التي تستجدّ، بمعنى أنها ليست معيارية في حد ذاتها. أما بوصلة التطوير أو التغيير فهي واحدة، سمّها المصلحة، أو المنفعة، أو الانتهازية إذا شئت، فإذا ما فشلت المبادئ والأخلاق في امتحان المصالح، حينها ينبغي تجاوزها ودوسها.

تداعيات البروز بمظهر المتحلّل من القيم والأخلاق والمبادئ والمعايير الناظمة، لأسبابٍ تبدو انتهازية بالدرجة الأولى، تكون وخيمة

الآن، إذا أخذنا بجزءٍ من التوصيف الذي يُقَدَّمُ للشخص البراغماتي على أنه الذي يهتم بمعطيات الواقع والمصالح المباشرة، أكثر مما يهتم بما يمكن أو ينبغي أن يكون عليه الحال، وسحبنا ذلك على مقاربة حركة تحرّر وطني وحركة مقاومة وحركة إسلامية كـ”حماس”، فكيف ستكون صورتها في الوعي والضمير الجمعيِّ لجماهيرها؟ مثلاً، هل يمكن أن تصل “حماس” يوماً إلى أن تغيّر مبادئها ومعاييرها القيمية والأخلاقية وتفكر بالتعامل مع إسرائيل والاعتراف بها، وتكون بذلك تسير على خطى القيادة المتنفذة فلسطينياً؟ حسب المنطق الضمني لمن أشهروا في أوجه ناقديهم ورقة “البراغماتية”، ذلك أمر قابل للحدوث. أعلم طبعاً أنه ليس في واردهم ذلك بعد، ولكن ما لا يدركه هؤلاء أن “الفهلوة” والخفّة في مثل هذه المواقف قد تكونان مقدّمة لمنزلقات خطيرة.

قدّمت الفقرة السابقة جزءاً فقط من توصيف البراغماتي، ذلك أني تعمّدت تأخير الجزء الثاني الذي لا يقلّ أهمية، وهو أن البراغماتي واقعيٌّ تستغرق النتائج والعواقب حساباته. ضمن هذا المعطى، ماذا لو أعلن جزء من المعارضة السورية أنه لا يرى مشكلة في العمل مع إسرائيل ضد “العدو الإيراني” المشترك، ومن أجل إسقاط النظام السوري؟ ماذا سيكون موقف “حماس”؟ التذكير بالمبادئ والقيم والثوابت؟ أعلم أن شخصيات في المعارضة السورية وتياراتها حاولوا ذلك من قبل، ولا زال جزء منهم يمنّي نفسَه أن تقبل تل أبيب أو واشنطن أن تتساوقا معهما. لكن السؤال، ماذا قلنا عنهم، وماذا سنقول عنهم لو عادوا لفعلتهم تلك؟

ذكرت آنفاً أني، من ناحيةٍ مبدئية، لستُ ضد البراغماتية ممارسة، فثمَّة إكراهاتُ وثمَّة ضروراتُ ومصالح كبرى قد تطغى، مؤقتاً واستثنائياً، على بعض المبادئ والقيم والمعايير الأخلاقية. هذه حقيقة وثابت في صيرورة الكائنات الحيَّةِ وليس البشر فحسب. لكن عندما يقارب بعضهم البراغماتية على أنها انتهازية، أو يمارسها بخفّة ورعونة، من دون حساباتٍ سليمة، أو عندما يكون ثمن عواقبها ونتائجها أكبر بكثير من عوائدها، حينها لا تكون هذه براغماتية، بل تكون من أشكال الانتحار. وفي حالة “حماس”، أو أي تيار أيديولوجي يدّعي المبدئية، فإن تداعيات البروز بمظهر المتحلّل من القيم والأخلاق والمبادئ والمعايير الناظمة، لأسبابٍ تبدو انتهازية بالدرجة الأولى، تكون وخيمة، ويكفي أن نذكر هنا أن النقاش الأشرس بشأن قرار استعادة العلاقة مع نظام الأسد لم يكن بين قواعد الحركة وخصومها، بل بين صفوف مؤيديها ومحبّيها بالدرجة الأولى. ذروة البراغماتية في حالة “حماس” ومثيلاتها أن تدرك أن جزءاً كبيراً من جماهيريتها تتأتّى من المبادئ التي تقول إنها تمثلها، وخسارة هذه الميزة ليس من البراغماتية في شيء.

من تسربلوا بما عدّوها “براغماتية” هم أكبر خصومها فعليّاً، ضمن تكييفاتهم الدينية والأخلاقية والأيديولوجية والسياسية

من ثمَّ، كان من المستغرب ذلك التشنّج وتلك الدوغمائية اللذين طغيا في تصريحات بعض قادة “حماس” عند هجومهم على من ناقش قرارهم في السياق السوري، ذلك أنهم سعوا إلى البروز بصورة البراغماتي مع من ألجأتهم الظروف إلى العمل معهم والقبول بهم، وتحديداً إيران وحزب الله ونظام الأسد، في حين أنهم يضيقون بقلق وغيرة وهواجس قواعدهم ومحبّيهم وأنصارهم. تُرى، ماذا لو تغيّرت حسابات التحالف وأسسه في الغد، من منطلق أن البراغماتية تفترض أن لا شيء ثابت؟ هل ستكون العودة إلى أحضان الجماهير والمحبّين سهلة؟ أليس من البراغماتية أيضاً ما تزعمه القيادة الفلسطينية المتنفذة أن تفرّدها واحتكارها واقع المشروع الوطني الفلسطيني ومستقبله حقٌّ خالص لها، لا يجوز لأحد أن يتدخل فيه؟ ماذا يفرق إصرار كثير من أبناء “حماس” على أن قرارها بالاعتذار لنظام المجرم بشار الأسد عن تركها سورية عام 2012، على خلفية الثورة الشعبية ضدّه، لا يعني أحداً غيرها؟ الحقيقة أنه لا فرق هنا، فكلا المنطقين وكلتا الممارستين ترتب نتائج على القضية الفلسطينية ككل، في حين يُصادر حقّ الفلسطينيين في التعبير عن رأيهم وموقفهم.

باختصار، لا تسعى هذه السطور إلى إعادة فتق جُرح، هو أصلاً ما زال نازفاً، بقدر ما تريد الإشارة إلى كيفية التعامل مع المصطلحات وحمولاتها، وضرورة التنبّه إلى كيفية إدارة القرارات المصيرية والمفصلية الكبرى بحذر كبير، وضمن حساباتٍ دقيقةٍ للمكاسب والخسائر. يشمل ذلك الإيماءات والملامح وحركات الوجوه والمفردات ولغة الخطاب والتفسيرات والشروح التي تقدّم، والسعي إلى الحفاظ على الحلفاء والمحبّين الصادقين، لا استعدائهم في سياق تحقيق منجز غير ثابت وقد يتغير غداً. إذن، خلافنا ليس على إكراهات البراغماتية وضروراتها، ولكن في مفهومها وحدودها وكيفيتها، بحيث لا تنحرف عن تحقيق المصالح العامة الكبرى، وتنتهي بحصد الخسائر الاستراتيجية. وكما سبقت الإشارة، من البراغماتية في حالة “حماس” أن تبقى صورتها دائماً ناصعة كحركة تحرّر مبدئية وأخلاقية، تخوض، باسم القضية المركزية للأمة، صراعاً ضد عدوّها الأكثر شراسة وخطورة، فذلك جزءٌ من رصيدها. بعد ذلك، يكون النظر في كيفية إدارة التحالفات الحساسة، المبدئية أو الاضطرارية، وكيفية تهيئة الرأي العام المؤيد لها وتقديمها بشكل سليم، بحيث لا تجعل قضية فلسطين في حالة تناقضٍ مع جراحات الأمة الأخرى، أو على حسابها.

 


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...