انتخابات عبثية في مناخ من اللامبالاة

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

المهدي مبروك

 

 

لم يعد يفصل التونسيين عن الانتخابات سوى أقل من أسبوع، يفترض أن تفتح الخلوات قريبا، حتى يذهبوا الأحد المقبل إلى صناديق الاقتراع. مع ذلك، لا شيء يوحي بأنّ الناس معنيون بها أصلاً… ثمّة إنهاك نفسي جسيم يجعلهم يُعرضون عنها، وذلك بقطع النظر عن الشروط القانونية التي صاغتها ومناخها السياسي. يشعر التونسيون بأنّ أصواتهم لم تعد تقرّر مصيرهم، وأن إرادتهم جرى السطو عليها وتشويهها.

حين يدرك الناس أن مواقفهم الانتخابية التي سيعبّرون عنها لا معنى لها، ولا أثر لها في حياتهم، فذلك ينفّرهم من أداء هذا الذي يُعد واجباً. كان الخوف في دولة بن علي ومختلف أشكال المراقبة والمعاقبة هما ما يدفعان التونسيين إلى الذهاب إلى الانتخابات، فترتفع، حقاً أو تزييفاً، نسب المشاركة. أما مع الثورة، فإنّ الأمل غيّر تماماً تلك المواقف، كان الناس يشعرون بأن صوتهم يجسد إرادتهم، وأنّ التغيير يمكن أن يكون من صندوق الاقتراع الذي حرّروه فأصبح خزّاناً لإرادتهم السياسية. حدا الناس أملٌ عريضٌ في أن تكون السياسة تعبيراً عن إرادتهم الحرّة، أقبلوا بكثافة على الانتخابات، على أمل أن يروا بلدهم يتغيّر نحو ما وعد به الناخبون وما تطلعوا إليه. ثم أشياء عديدة تحققت لهؤلاء المؤمنين بصناديق الاقتراع، على اختلاف توجهاتهم وميولاتهم، ورأينا مجالس تشريعية تشبه ناخبيها كثيراً، إلّا أنّ مجريات الأمور تغيرت إلى حد كبير، حتى إذا وصل الناس إلى انتخابات 2014، كان العزوف النسبي بائناً، سواء في أوساط الشباب أو لدى كهول الناخبين. الصراعات السياسية الحادّة وانغلاق النخبة السياسية على ذاتها وإهمالها نبض الشارع، فضلاً عن أن استمرار المعضلات الاقتصادية الحادّة، على غرار البطالة والتهميش، وتردّي الخدمات الاجتماعية والصحية، دفع فئات عديدة إلى هجر السياسة، تحديداً الانتخابات، حتى قارب عدد المسجّلين ما يناهز نصف الجسم الانتخابي عند انتخابات 2019. إنّه مجتمع آخر يستقر خارج الحقل الانتخابي بلا مأوى يتنقل من فضاء إلى آخر متسكّعاً.

في سياقات معقدة، تلاعب سعيّد بإرادة الشعب التونسي، وطوّعها كما شاء

كان يفترض في ديمقراطية تونس الناشئة أن توسّع دوائر المشاركة، وهذا ما حدث، في بداية الثورة، غير أنّ الأمر تراجع بشكل حادّ. لا تعنينا تحوّلات المواقف الانتخابية من هذا الحزب أو ذاك، وهو جوهر الديمقراطية التي تتيح التداول السلمي على السلطة ومعاقبة الأحزاب عبر الصندوق ذاته، لكن ما يعنينا هو ذلك الانجراف الحادّ الذي ألقى بنصف الجسم الانتخابي خارج السياسة تماماً. وهو جسمٌ اشتغلت عليه الأطروحات الشعبوية الأكثر عبثاً من أجل تجييشه، وقد أفلحت في شيطنة النخب. ومع ذلك كله، فإنّ هؤلاء الناخبين ذاتهم هم الذين اختاروا الرئيس قيس سعيّد، وهو الذي كان يردّد في أثناء حملته الانتخابية (يرفض تسميتها كذلك، معتبراً أنّها لقاءات تفسيرية لأطروحاته ومقارباته!) أن لا برنامج له، وأنّ الشعب هو من يختار برنامجه…
في سياقات معقدة، تلاعب الرئيس سعيّد بإرادة هذا الشعب، وطوّعها كما شاء. مع ذلك، لم يصمد التلاعب طويلاً، وبالسرعة ذاتها انفضّ الناس، والناخبون تحديداً، من حوله، حين دعاهم إلى الاستفتاء الإلكتروني، فلم يقبل سوى ما يناهز 4% عن تلك المنصّات التي انتصبت، من دون أي ضابط قانوني أو أخلاقي، وتكرّر السلوك نفسه عند الاستفتاء على الدستور الذي فرضه فرضاً على شعبه المختار. لم يتوجّه منذ أشهر قليلة مضت سوى ما يناهز الربع من الجسم الانتخابي، رغم كل الضغوط التي مورست على الناخبين، وتوظيف موارد الدولة والقصف الإعلامي على الذين دعوا إلى مقاطعة تلك المهزلة.

الاستبداد إذا طال التهم الحدّ الأدنى من عقلانية السياسة. ولسنا في تونس بعيدين عن هذا القاع

يمضي سعيّد في طريقه السريع الذي لا يواجه فيه أي إشارات مرور أو حواجز تذكر، وقد دشّنه منذ الانقلاب، معولا على مخزون مشاعر الكراهية والخوف والتخوين التي غدت سمة راسخة في الثقافة السياسية للتونسيين، بعيدا عن أي شكل من العقلانية. لم تعد لنا كائنات سياسية وأجسام انتخابية نراها بملامحها السياسية الواضحة: أحجام وأوزان وأطروحات وأولويات، بل لنا “ذوات” فردية هلامية، لا سند لها سوى حنين إلى قبائل وعشائر وأحياء وروابط متخيلة، يتوهم بعضهم أنها ملاذات وخزانات انتخابية، وقد ضاقت السياسة بما رحبت.
أما حصص “التعبير الحر” التي تعوّض ما تعارف الناس عليه بالحملات الانتخابية، فقد كانت فرصة ثمينة ليكتشف الناس فقر الجملة السياسية لهؤلاء المترشّحين، وقد حُرّمت على بعض منهم قانونيا الإشارة حتى إلى أحزابهم، وعجز آخرون عن صياغة فقرة في برنامج انتخابي يليق بشعبٍ أنجز ثورة يتم تبديدها بشكل مهين في ذكراها الثانية عشرة.

مزاج التونسيين عكر هذه الأيام: نهاية سنة مثقلة بالارتفاع الجنوني في الأسعار، وافتقاد مواد غذائية، الحليب والسكر مثلاً، علاوة على إضرابات في قطاعات النقل والمختبرات والصحة وغيرها. كان الناس قد وجدوا في كأس العالم ملاذا لنسيان كل تلك الخيبات، وإذا بالفريق الوطني يغادر مبكرا ليضيف لهم خيبة أخرى. لا شيء يسلّيهم سوى هذا العبث الذي يتراكم ويتعمّم بشكل ينذر بنسف أبجديات الثقافة السياسية: الأحزاب، الانتخابات، فصل السلطات، وظائف البرلمان… ثمّة تجارب قريبة ومجاورة تثبت أن الاستبداد إذا طال التهم الحدّ الأدنى من عقلانية السياسة. لسنا في تونس بعيدين عن هذا القاع، وقد صعدنا “علواً شاهقاً” مع الرئيس سعيّد.

 


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...