النهوض باللغة العربية.. هل تكفي الترجمة؟

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

*بسام بركة

 

 

من المعروف عالمياً أن الحضارة العربية الإسلامية في العصر العباسي قد بدأت فعلياً تتجذّر وتنتشر انطلاقاً من حركة الترجمة في عهد الخليفة المأمون (813 – 833 للميلاد). كذلك، انطلقت النهضة الأوروبية في القرن الخامس عشر، بعد قرون من ترجمة المؤلّفات الفلسفية والعِلمية من اليونانية والعربية إلى اللاتينية التي كانت آنذاك لغة العلم والمعرفة. فتاريخ الفكر البشري يشهد على أنّ الشعوب تسمو بفكرها وفنونها عندما تسنح لها فرصة التلاقح مع شعوب أخرى والتعرف إلى آخر ما توصلت إليه في مجالات العلوم والفلسفة والآداب. وذلك لا يحصل إلا باعتماد سياسة النقل والترجمة على نطاقٍ واسع.

واليوم، نتساءل عن واقع الترجمة في العالم العربي، وعن دورها في النهوض باللغة العربية، على غرار ما حصل إبان الأعمال الكبيرة المترجمة التي انتقلت من بغداد في عصر المأمون، وبعده إلى رحاب الأندلس، مروراً بحواضر كثيرة مثل القاهرة والقيروان وفاس. هذه المدن وغيرها شهدت ولادة كبار العلماء والفلاسفة في التاريخ البشري، ممّا أدى بالعربية آنذاك إلى أن تكون اللغة الأولى التي يتحدّثها كلّ إنسان متحضّر، في آسيا وأفريقيا وأوروبا.

نقد الترجمة هو المعيار الأول الذي يحدّد مدى تلقّيها

سنحاول أن نجيب عن مثل هذه التساؤلات التي يطرحها كلُّ مثقف عربي في أيامنا هذه، وهي تتلخّص في معرفة ما إذا كانت الترجمة إلى العربية قد بلغت الحدّ الذي يجعلها كفيلة بالنهوض باللغة العربية ودفعها إلى تبوّؤ مكانتها التي تستحقّها بين لغات العالم.

جوانب مضيئة وواعدة

إنّ من يتتبّع حركة الترجمة في العالم العربي، يكتشف أنها تشهدُ منذ السنوات الأُولى من القرن الحالي ازدهاراً كبيراً وتعزيزاً متصاعداً على المستويات كافة. فهناك مراكز ومنظّمات أُسّست لخدمة الترجمة أو/ والتأليف خلال السنوات العشرين الماضية. ونكتفي بذكر بعضها، مثل: “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات” (الدوحة)، و”المنظمة العربية للترجمة” (بيروت)، و”المركز الوطني للترجمة” (تونس)، و”المركز القومي للترجمة” (القاهرة)، و”مؤسسة الفكر العربي” (بيروت)، وكذلك “المرصد السعودي في الترجمة” (الرياض)، و”المرصد العربي للترجمة” (“هيئة الأدب والنشر والترجمة”، الرياض)، وكلها ترعى وتراقب وتتابع حركة النشر في العالم العربي، كما أنها تنشر أعمالاً مترجَمة من لغات العالم، وخصوصاً من الإنكليزية والفرنسية، وكلّ كتبها المنشورة تتمتّع بمستوى عالٍ من الدقة والجودة.

وإذا عُدنا إلى الأسباب المُعلنة عند تأسيس هذه المراكز لرَأينا أنها تهدف كلّها إلى نشر المعرفة، وخلق التواصل بين المثقفين العرب، وتنسيق الجهود العربية في مجال الترجمة ودعم مسيرتها، وتشجيع الحوار بين المفكّرين العرب أنفسهم وبينهم وبين المراكز الفكرية والبحثية في العالم، وهي تشترك كلها في أمرٍ أساسي تُجمع عليه كذلك وهو أنّ هدفها عموماً تفعيل التبادل المعرفي والثقافي، وعلى وجه الخصوص تعزيز اللغة العربية والنشر بها وتشجيع التداول بواسطتها.

بالإضافة إلى ذلك، ما يشهد على الاهتمام العربي الشديد بالترجمة تأسيس مراصد لحركات النقل بين اللغات الأجنبية والعربية، وتأسيس أقسام لتعليم الترجمة على كلّ المستويات الأكاديمية في معظم جامعات العالم العربي، بل إن جامعة الدول العربية نفسها اهتمّت من خلال منظمة “الألكسو”، بتأسيس مكتب تنسيق التعريب في الرباط، الذي يعمل على وضع علمٍ مصطلحي على مستوى العالم العربي، وقد أصدر حتى الآن العديد من المعاجم المتخصّصة المتعدّدة اللغات، و”المركز العربي للتعريب والترجمة والتأليف والنشر” في دمشق، كما اهتمّت بعد ذلك بتأسيس “المعهد العالي العربي للترجمة” (الجزائر) الذي يحضّر الطلاب للماستر في الترجمة، ولديه مشاريع ضخمة في ترجمة الفكر العالمي إلى لغة الضاد، ووضع معاجم للمصطلحات متعدّدة اللغات وفي مختلف المعارف المعاصرة. كل ذلك من أجل تطوير استعمال اللغة العربية في المجالات كافة، وتعزيز انتشارها في الأوساط الأكاديمية والعلمية. كذلك، لا بدّ من التنويه بالمراكز التي تدعم مالياً أعمال الترجمة، وتلك التي تقدّم الجوائز السخية للمترجمين المُميّزين.

لا تفعيل للترجمة من غير إيمان بدور اللغة الأم ومكانتها

إذن، يُمكننا القول إنّ وضع الترجمة في العالم العربي ليس سيئاً، فالترجمة تسير في الاتجاه الصحيح الذي يهدف إلى التوسّع والانتشار والشمولية مع الاحتفاظ بمستوى عالٍ من الدقة والأكاديمية والأمانة في إطار النقل من اللغات الأخرى، كما في إطار استعمال اللغة العربية السليمة. لكن، هل تكفي الترجمة في أوضاعها الحالية والمرتقبة للوصول إلى حركة فعلية تنهض باللغة العربية وتحملها إلى أن تصبح من أُولى اللغات العالمية انتشاراً واستعمالاً؟ الواقع يدلّ على أن هذا الأمر لا يزال بعيد المنال، وأنه لا بد من بذل جهود جبارة ومستدامة للوصول -ربما- إلى مثل هذا الهدف. وسنبيّن لماذا.

النهضة العربية في القرن التاسع عشر

من المعروف أن عصر النهضة في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، شهد حركة كبيرة من التلاقُح بين العربية واللغات الأُخرى، عبر إرسال وفود الطلاب للدراسة في الجامعات الكبرى في الدول الغربية، وكذلك عن طريق ترجمة الكتب الفرنسية والإنكليزية إلى العربية وتعليمها في الدول العربية باللغة الأم. وقد كانت لبنان ومصر -آنذاك- من أهم المحطات العربية التي أسهمت في إرساء قواعد النقل إلى العربية، كما في وضع المعاجم اللغوية العربية والمتعددة اللغات. ومن أهم سِمات حركة الترجمة في هذه الحقبة أنها ساهمت في تطوير مفردات اللغة العربية وتحديثها، وذلك عندما قام روّادها بوضع المصطلحات الجديدة للمفاهيم المستحدثة والطارئة على الفكر العربي.

فالاطلاع على المعارف الغربية، مباشرة أو عبر الترجمة، دفع المفكّرين واللغويين العرب إلى وضع الموسوعات والمعاجم والقواميس باللغة العربية، إنْ من أجل شرح المفاهيم والمعارف الحديثة (الموسوعات)، أو من أجل تقعيد اللغة العربية وتطوير معاجمها التراثية (معاجم اللغة العربية)، كما أنها دفعتِ اللغويين العرب إلى وضع المعاجم ثنائية اللغة، التي تُساعد المترجم في نقل النصوص من اللغات الأجنبية إلى العربية وبالعكس.

هل تكفي الترجمة للنهوض باللغة العربية؟

مما لا شك فيه أن الترجمة وسيلة أساسية لنقل المعرفة وطريق مهم للتمكّن من مواكبة العصر، والتعرّف على أحدث إنتاجاته الحضارية، لكنها تبقى مُقيّدة بما أدّى إلى وجودها، أي بالنص الأصلي. فالحبل السري لا ينقطع بعد ولادة العمل المترجم، ويبقى مرتبطاً بالعمل الأصلي ورهن تداعياته النصية. فكما هو معروف، كلّ خطاب يتفاعل عندما يقرأه القارئ مع نصوص أخرى أدّت إلى ولادته، وساهمت في تكوّن مضامينه الدلالية، وهذا ما يُطلَق عليه اسم التناصية. إلا أن هذه العلاقات لا تحصل ضمن إطار اللغة المترجَم إليها، بقدر ما تحصل في مجال نصوص الثقافة الأُخرى التي وُلد الخطاب الأول في كنفها.

من ناحية أُخرى، يُجمع علماء الترجمة المحدثون، على أن الترجمة ليست مجرّد نقل نص من لغة إلى أُخرى، أو مجرد عاملٍ يتوسط بين مؤلّف في لغة أولى وقارئٍ في لغة أخرى، بل هي أداة تزاوجٍ وتلاقح بين ثقافتين، ولا بد للتزاوج من أن يؤدّي إلى ولادة ثقافة جديدة تحتفظ بالأسس الثابتة للثقافة الأصيلة، ولكنها تجلب أدوات أُخرى غير معروفة، يمكن أن تستخدمها من أجل أن تتطورّ، وأن تدخل في ركاب الفكر المعاصر والبعد الزمني الحالي.

لكنّ كل تلك الأدوات المعرفية الجديدة تبقى من دون فائدة تُذكر، إن لم يكن هناك “كائنٌ بشري ملتزم” يتبنّاها ويستعملها من أجل تطوير الذات والآخَر. لذلك، نقول إنّ العنصر البشري المؤمن بدور لغته الأم في بناء حياته ومستقبل أولاده هو العامل الأساس في تفعيل الترجمة وتحفيزها على القيام بدورها.

كيف تُسهم الترجمة في النهوض بالعربية؟

أخيراً، يمكننا القول إنه لا يمكن للترجمة أن تكون بمفردها العامل الوحيد في تطوير الفكر وبناء الهوية والثقافة. إنما هي عامل من عوامل التطوير والتقدم في مجال الفكر والمعرفة، أي إنها يمكن أن تكون بمثابة انطلاقة لوضع لبنة من لبنات البناء الفكري والثقافي في المجتمع الذي يتلقّاها. من ناحية أُخرى، يتوجّب على أبناء الأمة أن “يحملوا” الأعمال المترجمة وأن “يتدبّروها”. ونستعمل هنا هاتين الكلمتين بمعنى أنه عليهم أن يستوعبوا مضامينها وينقدوها، ويُخضعوها للبحث والتفسير حتى تدخلَ في سياق منظومتهم الفكرية، مما يجعلها تتلاءم مع إطارهم الثقافي، وتتلاحم مع شبكة الأفكار الراسخة في سياق التيارات الاجتماعية والفلسفية والحضارية المعاصرة لعمليات الترجمة التي يتلقّونها.

* باحث ومترجِم وأستاذ جامعي لبناني، أمين عام “اتحاد المترجمين العرب”

 


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...