حداثة الكتابة عند صلاح بوسريف

إيطاليا تلغراف

 

 

 

*محمد الديهاجي

 

 

أتصور أن الحديث عن مشروع الكتابة في الشعر، بما هو حداثة حقة وفعلية، أي بما هو قفز بهذا الكائن المارد من الشفاهة إلى الكتابة، حديث فيه نقاش. فالكثير من القراء والنقاد يعتقدون أن هذا المشروع، ارتبط في الوطن العربي بأدونيس (علي أحمد سعيد) ومن سار على خطاه، في المشرق والمغرب العربيين. والحق أن أدونيس، بوصفه أبا روحيا للحداثة العربية، ظل أسير غنائية/شفاهية خفية، رغم محاولاته الماكرة لإظهار عكس ما يُضمر كما سيتبين.. فالمتأمل لهذا المشروع (الأدونيسي) على المستوى الإبداعي، وليس النقدي/التنظيري، سيجد الرجل في جل ما كتبه من شعر مرتبطا، بشكل أو بآخر، بالصوت كمحدد أساس للشعرية العربية الشفاهية. وعلى العكس من ذلك، أجد في مشروع الشاعر والناقد المغربي صلاح بوسريف، نزوعا حقيقيا نحو القطع النهائي مع الشفاهي، الذي ظل مبطنا في مشروع الكتابة عند أدونيس.

أولا ـ الشعر جامع أنواع وأجناس

إن المتتبع لكل ما كتبه صلاح بوسريف، منذ أربعة عقود ونيف، إبداعا ونقدا ونظرا، في إمكانه أن يقطع الشك باليقين، بخصوص ما ذهبتُ إليه قبل قليل. ولتقريب القارئ العربي من هذا المشروع الرائد، الذي يؤسس لشعرية عربية مختلفة ومغايرة، شعرية لا تحقق وجودها من الخطاب الشعري الشفاهي، وإنما هي شعرية تتحقق في النص وبالنص، أي إبّان الكتابة ولحظة حدوثها، قلت لتقريب القارئ من هذا المشروع، سأقف عند كتابٍ واحدٍ، من ضمن مجموعة من الكتب النقدية والتنظيرية، التي خاضت في موضوع «حداثة الكتابة» بقلم صلاح بوسريف، لما رأينا فيه من اختزال وتلخيص لطبوغرافية كل ما كتبه الرجل، ما يجعل هذا الكتاب مدخلا حقيقيا للمشروع البوسريفي. يتعلق الأمر بكتاب «السهم والوتر/بيانات في حداثة الكتابة». وقد صدر عن دار خطوط وظلال للنشر والتوزيع في الأردن سنة 2021. يقع الكتاب في 164صفحة من الحجم المتوسط، ويضم اثني عشر بيانا ومدخلا عنونه الكاتب بـ»ما قبل البيانات، ما بعدها: الاستعارة الكونية الكبرى».

في هذا الاستهلال انتهى بوسريف إلى أنه في الشعر، لا وجود لأي يقين، فلا يقين في الغابة كما يقول. إن الشعر منذ ظهوره، كان» قلقا، وكان سؤال وجود وكينونة، ليدرك الشاعر، في ما بعد، أن الوجود بالشعر، كما سيدرك الفلاسفة والمفكرون، لاحقا، هو وجود الإنسان على الأرض، وهو جوهر الزمن وعصارته». وعلى هذا الأساس، فإن أصل الشعر، كما يبدو، هو الابتداع لا الاتباع، وهو الاختراق، لا التقليد والتكرار؛ ومن ثم فإن حداثة الكتابة «هي الشعر في هذا الامتداد الواسع، في هذه الزرقة اللانهائية، وهي في جوهرها، هذه الاستعارة الكبرى، وهي تنصت لكينونة الإنسان، ولقلقه الوجودي، وما اعتراه من حمى الكتابة ورعشاتها». لقد كانت أولى المحاولات للخروج بالشعر من سياق بنية القصيدة العمودية، مع رواد الشعر الحر في العراق، حيث امتد هذا التحرر، إلى جل ربوع البلاد العربية. إلا أن هذا الخروج أو بالأحرى التحديث، ظل مرتبطا بالقصيدة ومحدداتها الكبرى، أي أنه ظل يتبطن شعرية ديدنها الشفاهة، ما جعل بوسريف ينعتها ب»حداثة القصيدة». أما حداثة الكتابة، حسب صاحبنا، وعلى العكس من الأولى، فهي قفز بالشعر من الشفاهة إلى الكتابة، ومن بنية القصيدة إلى اللا شكل؛ لذلك فإنها تنأى بنفسها عن أي تجنيس، إنها « جامع أجناس وأنواع. كل الأشكال تتنادى وتتجاوب في حداثة الكتابة».

ثانيا ـ الشعر والإقامة في الترحل

في بيانه الأول، يعرف صلاح بوسريف الشعر قائلا: «يتوهم من يظن أن الشعر هو اللغة، ويتوهم من يعتقد أن الوزن أو (النظم) وفق العروض الكمي، أو حتى التفاعيل الصافية، هي الشعر، الشعر، هو ذلك العراء الذي ألقت بما فيه أوهامنا هذه التي بها نحيا، وكأننا نحن الأبد، ولا أبد غير ما توهمناه من أبد». على هذا الأساس يمكن القول، إن الشعر، كما جاء في البيان الثاني، هو الإقامة بين النظم والنثر، كما قال أبو حيان التوحيدي بصياغة أخرى، وأن الكونشيرتو الشعري ما هو إلا ماء في مجرى ماء. للأسف، حسب بوسريف دائما، إننا لم نخرج بعد من زمن القصيدة، التي جعلت من الشفاهية مصدر معرفتنا ووعينا. أدونيس نفسه، كما أسلفت، ظل أسير التصادي الإنشادي/الشفاهي رغم ما بدا منه من مكر كتابي جعل فيه «البناء المكاني، يعلو على البناء الزماني، ما يجعل الحداثة هنا تبدو معطوبة» (البيان الثالث).

في بيانه الرابع وقف صلاح عند شعرية الاستثناء، التي قامت على التأويل في الثقافة العربية، وشعرية البداهة والارتجال، التي تنبني على الإيضاح. إلا أن القاسم المشترك بينهما، والذي جعل القصيدة تبقى مهيمنة، هو الشفاهة. وعيٌ شفاهي ما يزال مستمرا إلى وقتنا هذا، لدرجة أن النقد نفسه لم يستطع أن «يخرج من القصيدة، أي من قديم الشعر»(البيان الخامس) وهذا مطب آخر. أما في البيان السادس، فيطرح صلاح مفهوم الإقامة في الترحل، بدل الإقامة في الشعر، لأن هذه الأخيرة تدعو إلى الثبات، فيما الأولى صيرورة ودينامية لا تنقطع. لذلك فحداثة الكتابة هي إقامة في الترحل والتيه وهذا «هو القلق الوجودي الذي به يتسم الشعر ويتسمى». هذه الإقامة، هي التي جعلت من زمن الشعر يقيم في اللانهائي. والحاصل إن الشعر، من منظور حداثة الكتابة، هو الأبد، وهو الوجود وقد تحرر من كل الجهات. «وحين يكون الشعر بهذا المعنى، فهو يكون أوسع من القصيدة بما هي شفاهة اختزلت الشعرية العربية القديمة في الوزن والقافية والمعنى»(البيان السابع).

ثالثا ـ الغموض والتفكير بالشعر

في حداثة الكتابة، لم يعد الشاعر معنيا بمفهوم القصيدة، بل أصبح النص أو العمل هو ما يشغله، لأن القصيدة لم تعد تزعجه، أو تبعث في نفسه القلق، وإذا كانت المنبرية والإيقاع الإنشادي هما ما يحكم بناء القصيدة، فإن ما يحكم شعرية النص/العمل، في المقابل، هو عمل اليد لا اللسان، اليد المحمومة المصابة بالارتعاش والتحيّر بتعبير هايدغر؛ ومن ثم «أصبح الشعر مزعجا للقارئ، مزعجا لما كان عليه من طمأنينة واستجمام. في حداثة الكتابة، النص بات مثل قطعة بلور، متعدد الجهات والأضلاع، كثير في واحد» (البيان الثامن). لم يعد الشعر، والحالة هذه، يقيم سوى في شعريته المترحّلة باستمرار.

هي شعرية متشظية، ودوالها متنافرة، إذ لا مكان للتطابق.. شعرية مباغتة تقوم على الاختراق المستمر، ما يجعلها تتأسس على النقصان واللا اكتمال، كما جاء في البيان التاسع. وفي هذا السياق يقول صلاح بوسريف في بيانه العاشر: « لا تزعم حداثة الكتابة، أنها بداية أو شروعا، كما لا تزعم أنها النهاية أو الختم»؛ وهي بهذا المعنى، كتاب متاه، يكتب الوجود بلغة عارية. ولئن كان الوجود غامضا بطبيعته، فإن كتابته تزداد غموضا. وهذا ما يجعل حداثة الكتابة، غامضة في شكلها، الذي لا يستقر في تجربة الشاعر الواحد (البيان الحادي عشر). إنها كتابة كما يبدو، وكما جاء في البيان الثاني عشر، تراهن على الـ»هناك البعيد» لا الـ»هنا»؛ لأن شعريتها آتية من المستقبل، ولأنها عطفا على ذلك، شعرية لا تفصل بين الفلسفة والمسرح والشعر، ولا تقيم أي حدود بينها. حدث هذا مع النصوص الأولى المؤسسة لفهم الإنسان وإدراكه لهذا الوجود. هذا يعني أن شعرية حداثة الكتابة، هي أيضا تفكير بالشعر.

تلكم بعض الومضات، من كتاب «السهم والوتر» عن حداثة الكتابة كما تصورها الشاعر والناقد صلاح بوسريف، والتي تختزل مشروعه برمته؛ إذ هو نعتبره مشروعا رائدا في الوطن العربي، ويحتاج إلى اهتمام ورعاية، خصوصا من طرف المؤسسات الأكاديمية والفاعلية النقدية العربية، لأننا نرى فيه تغييرا لمجرى نهر الشعرية العربية برمتها.

*شاعر وكاتب مغربي

 


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...