تونس … السيادة الوطنية أم الولاء للرئيس؟

إيطاليا تلغراف

 

 

 

أنور الجمعاوي

 

 

يعدّ مصطلح السيادة دارجا في فقه القانون والعلاقات الدولية قديما وحديثا. والمراد بالسيادة لغة العظمة والشرف والهيمنة وعلوّ المكانة. وجاء في “لسان العرب” لابن منظور أنّ “السؤدد الشرف … والسيّد من ساد غيره، ويُطلق على الرب والمالك … والرئيس”، فالسيادة لغويا تتمحّض للدلالة على النفوذ والسيطرة وإحكام الهيمنة. أمّا في السياق التداولي السياسي والقانوني، فاقترنت السيادة بالدولة باعتبارها أحد أركان كينونتها وأحد أسباب استمرارها. وعرّفها أرسطو في كتابه “السياسة” بأنّها “السلطة العليا للدولة”. وذهب جان بودان في مصنّفه “كُتُب الجمهورية الستة” إلى أنّ “السيادة سلطة الدولة العليا المطلقة والأبدية والحازمة والدائمة التي يخضع لها جميع الأفراد على سبيل الرضا أو الإكراه”. وقد يكون صاحب السيادة فردا أو هيئة أو “عصبيّة قاهرة”، على حدّ تعبير ابن خلدون. ويدّعي صاحب السيادة تمثيل الشعب ويمارس سلطته بناءً على منظومة تشريعية وضعية أو دينية.

ويتجلّى مفهوم السيادة في مستويين. الأوّل، داخلي يتعلّق بقدرة الدولة على بسط نفوذها على مجالها الجغرافي، وتحديد نظامها السياسي، وترتيب العلاقة بين سلطاتها التشريعية والقضائية والتنفيذية، وإدارة مواردها، وحكم مواطنيها، وتسيير شؤونهم، وتوفير حاجياتهم، وتأمين حقوقهم وواجباتهم فضلا عن احتكارها سلطة الردع الشرعي والقوّة المسلّحة. والثاني، خارجي يتمثّل في استقلال قرارها، وعدم ارتهانها لسلطةٍ خارجية، وقدرتها على الفعل في المجال الدولي، ومدّ جسور التواصل والتعاون مع دول أخرى في كنف الحرّية والاحترام المتبادل.

ويمكن التمييز بين شكلين من السيادة. الأوّل ما يعرف بالسيادة المطلقة/ المغلقة وهي سيادة كلاسيكية، تقليدية، انعزالية ميّالة إلى تركيز هيمنة النظام الحاكم على الفضاء العام داخليا، واعتماد سياسة الانطواء والمناكفة في علاقة بالخارج، وترويج فكرة المؤامرة ووجود خطر داهم يهدّد بنية الدولة وكينونتها، ويتمّ في ظلّ ذلك بثّ خطاب قومجي، مشحون بالاعتداد بالذات ونبذ الآخر. أمّا الثاني، فيعرف بالسيادة المقيّدة/ المفتوحة، وهي سيادة ديناميكية، ناعمة، لا يمارسها فاعلٌ واحدٌ في الدولة. بل تمارسها هيئات الدولة السيادية والرقابية وهياكلها المؤسسية ومكوّنات المجتمع المدني في كنف الشفافية والاحتكام إلى القانون. وتتقيّد سيادة الدولة ههنا باحترام الشرعية الدولية والمواثيق الأممية المتعلّقة باحترام حقوق الإنسان، واتفاقيات العمل العالمية، وعدم إنتاج أسلحة الدمار الشامل. كما تلتزم باحترام بنود الشراكة مع حلفائها الإقليميين والدوليين. والملاحظ في تونس بعد أحداث 25/07/2021 تزايد محاولات تركيز ما تسمّى السيادة المطلقة داخليا وخارجيا. ولذلك تجلّيات ودلالات عدّة.

الإشكال بعد عامين من ظهور مسار 25 يوليو (2021) أنّ معركة مكافحة الفساد ظلّت انتقائية، بطيئة، ولم تطاول كثيرين

يتبيّن المتابع لتصريحات الرئيس قيس سعيّد، خصوصا بعد ذلك اليوم كثافة المعجم التعبيري المتعلّق بمسألة السيادة الوطنية من قبيل: “سيادة تونس خط أحمر”، “الأمن القومي فوق كلّ اعتبار”، “معركة تطهير البلاد من الخونة، والعملاء”، “تونس ليست مستعمرة”، “لن نتنازل عن سيادتنا”. وتُخبر هذه الكثافة اللغوية بأنّ سيادة البلاد على المحكّ، وأنّها مدار تهديد داخلي أو خارجي، وأنّ الرئيس قيس سعيّد نذَر نفسه للذّود عنها، وهو القائل إنّه وأنصاره بصدد خوض حرب تحرير وطني للدفاع عن وحدة البلاد وسيادتها، وضمان مِنْعتها واستقلال قرارها. ويستحضر سعيّد باستخدامه مصطلح “التحرير الوطني” السردية البورقيبية القائمة على استجماع الزعيم الراحل القوى الوطنية لدحر المستعمر الفرنسي، وخوض معركتي الجلاء العسكري والزراعي لتحقيق السيادة على الأرض ونيْل الاستقلال. واكتسبت معركة التحرير مشروعيتها وقتها من قيامها ضدّ هيمنة المحتلّ وممارساته الغاشمة. وساهمت في تحشيد الدعم الشعبي للحبيب بورقيبة وتصعيده قائدا للجمهورية. لكن الزمان حاليا يبدو غير الزمان والمقام غير المقام، فتونس ليست واقعة تحت الاحتلال المباشر لبلدٍ ما.

المرجّح من مراجعة خطابات قيس سعيّد أنّ إعلاء نبرة الخطاب السيادوي وإعلان حرب تحرير جديدة يستهدف داخليا طرفين بارزين، هما بارونات الفساد ورموز المعارضين لسياساته. ومعلوم أنّ تحرير البلاد من المفسدين معركة سيادية مشروعة في حال انبنت على الشفافية، والنجاعة، والمحاكمة العادلة، وهي تجد تأييدا في الشارع التونسي، وزادت نسبيا من شعبية الرئيس. لكنّ الإشكال بعد عامين من ظهور مسار 25 يوليو/ تموز (2021) أنّ معركة مكافحة الفساد ظلّت انتقائية، بطيئة، ولم تطاول كثيرين. فما انفكّت البلاد رهينة بارونات الاحتكار والفساد المالي والإداري. كما انتشرت ظواهر الهجرة غير الشرعية، والاتجار بالبشر، والجريمة المنظمة بشكل مريع. وبدا واضحا أنّ المنظومة الحاكمة الجديدة لم تنجح بالقدر المأمول في السيطرة على مسالك التوزيع والتهريب، وتوفير القدر الكافي من الغذاء والدواء. ومعلومٌ أنّ سيادة البلد من قدرته على تحقيق الاكتفاء الذاتي، وتوفير خدمات القرب لمواطنيه.

تحتاج تونس في هذا الزمن الدولي، الشبكي، المُعوْلم إلى اعتماد نموذج سيادة ديناميكية، رصينة، ومنفتحة. وإن لم يكن، فإنّ عزلة البلد ستزيد

أمّا زعم تثبيت السيادة بتحرير البلاد من المعارضين، فتبدّى في حملات شيطنتهم، ونعتهم من الرئيس وأشياعه بنعوتٍ دنيّة من قبيل “عملاء، خونة، مرتزقة”، وتشبيههم بـ”الحشرات والخلايا السرطانية”، واتّهمهم سعيّد “بالتكالب على السلطة”، و”العمل على تفجير الدولة من الداخل، وتفكيك المجتمع”، و”الاستقواء بالأجنبي لضرب السيادة الوطنية”. وبلغ التحشيد ضدّ المعارضة أوجه باعتقال أبرز رموزها في إطار ما يعرف بقضية التآمر على أمن الدولة، وهي قضية ذات خلفية سياسية، بحسب محاميهم وأتباعهم، ولا تستند إلى أدلّة إدانة واضحة.

وبناء عليه، يذهب مراقبون إلى أنّ الجهاز الدعائي للنظام الحاكم يعمد إلى تلبيس السيادة الوطنية بمدى الولاء لرئيس الجمهورية ومسار 25 يوليو، فمن اعتبر المسار تصحيحيا نال السلامة والرضا، ومن اعتبره انقلابا على الدستور والتجربة الديمقراطية نال الويل والثبور. ومن ثمّة يصبح فعل السيادة مؤسّسا على إقصاء الآخر السياسي. وهو خيارٌ لا يُحظى بحسب ملاحظين بمشروعية أخلاقية، ولا شرعية دستورية. فمن البديهي أن يوجد داخل دولة ترفع شعار الديمقراطية معارضون راديكاليون، يمارسون حقّهم في التنظّم، والتجمّع، والتعبير، والتظاهر، ومراقبة أداء النظام الحاكم ونقد سياساته، ومنافسته على كرسي السلطة بطرق سلمية مشروعة. واعتبار ذلك جريرةً أو جريمةً أو طعنا في السيادة الوطنية تحكيما لديماغوجيا التأسيس للذات عبر تقويض الآخر، وتكريسا لمنطق السيادة الإقصائية، المطلقة، المغلقة التي تضيق بالنقد وثقافة الاختلاف. وأدّى تحميل مقولة السيادة مطلب التضييق على المعارضين وهرسلتهم إلى إنتاج حالةٍ من الاستقطاب الثنائي الحادّ داخل الاجتماع التونسي بين أنصار قيس سعيّد وخصومه. وهو ما يُنذر، بحسب مراقبين، بتفكيك عُرى الوحدة الوطنية، ويفتح الباب واسعا لتدخّل أطراف أجنبية في الشأن التونسي.

على الصعيد الخارجي، وجّه قيس سعيّد انتقاداتٍ شديدة لوكالات التصنيف الائتماني التي أصدرت تقييمات سلبية لسيرورة الاقتصاد التونسي، وعدّ ذلك تدخّلا سافرا في الشأن الداخلي، معبّرا عن رفضه ضغوط الجهات المانحة، قائلا: “سيادة الدولة ليست في مزاد أسواق الأسهم تتقاذفها [المؤسّسات] التي يُقال إنها مانحة”. والواقع أنّ وكالات التصنيف تقوم بعملها التقييمي لاقتصاديات العالم بصفة دورية وبناءً على معطيات إحصائية وتقارير موثوقة، ولا تستهدف بالضرورة تونس. ومن المفارقات أنّ سعيّد عبّر عن رفضه شروط الصناديق المانحة، وفي الوقت نفسه، تبذل حكومته برئاسة نجلاء بودن جهدها للحصول على قرض ميسّر من صندوق النقد الدولي. وفي ذلك ازدواجية في التعامل مع مبدأ السيادة الوطنية.

يعمد الجهاز الدعائي للنظام الحاكم في تونس إلى تلبيس السيادة الوطنية بمدى الولاء لرئيس الجمهورية ومسار 25 يوليو

في مستوى آخر، صرّح الرئيس قيس سعيّد خلال اجتماع في مجلس الأمن القومي بأنّ هناك “ترتيبا إجراميا تمّ إعداده لتغيير التركيبة الديمغرافية لتونس”، وأنّ”جهات تلقت أموالاً طائلة بعد سنة 2011 من أجل توطين المهاجرين غير النظاميين من أفريقيا جنوب الصحراء في تونس”. وأنّ ذلك يعدّ تهديدا لهوية البلد ووحدته وسيادته. وساهم ذلك في تغذية أعمال عنف وكراهية ضدّ بعض أفراد الجالية الأفريقية في البلاد، وأدّى إلى تأزيم العلاقة بين تونس وبلدان الجوار الأفريقي، وعمدت دولٌ أفريقية إلى إجلاء رعاياها من تونس. فيما قاطعت أخرى البضائع التونسية. ومن ثمّة فقد وتّر الخطاب السيادوي الموغل في الاعتداد بالذات ونبذ الآخر العلاقات العامّة مع شعوب شقيقة، وساهم في وصم تونس بأنها “دولة عنصرية”.

وفي خصوص تنديد منظمات حقوقية بتراجع الحريات، وتزايد وتيرة اعتقال معارضين في تونس بعد25/07/2021، ردّ سعيّد بـ”إنّنا لا نقبل التدخّل في شؤوننا الداخلية إطلاقا”. والواقع أنّ تلك المنظمات تؤدّي دورها في رصد انتهاكات حقوق المعارضين وغيرهم والتنديد بها، وتعلم أنّ تونس صدّقت على مواثيق دولية لاحترام حقوق الإنسان، وهي معنية بالالتزام بها. كما أنّ الدول الأجنبية الوازنة، والتكتلات الاقتصادية (الاتحاد الأوروبي مثالا) تذهب إلى أنّ شراكاتها المتعدّدة مع تونس، واستثمارها في تجربة الانتقال الديمقراطي تقتضي منها توجيه النقد لسياسات النظام الحاكم، ودعوته إلى احترام محامل الشراكة الشاملة بين الطرفين.

والمراد من إعلاء نبرة الخطاب السيادي المطلق، بحسب مراقبين، إظهار رئيس الجمهورية في صورة الرجل القوي القادر على مواجهة تحدّيات الداخل وضغوط الخارج، وترويج أسطوانة وجود مؤامرة تستهدف البلد لرصّ الصفوف حول المنظومة الحاكمة، وإلهاء النّاس عن تبعات الأزمة السياسية والاقتصادية الخانقة.

ختاما، تحتاج تونس في هذا الزمن الدولي، الشبكي، المُعوْلم إلى اعتماد نموذج سيادة ديناميكية، رصينة، ومنفتحة. وإن لم يكن، فإنّ عزلة البلد ستزيد، ولذلك على حياة الناس عواقب شديدة.

 


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...