بين السلطان أردوغان والملك تشارلز

إيطاليا تلغراف

 

 

 

حلمي الأسمر

 

 

أيام قليلة تفصلنا عن حدث عظيم، لا يقل في أثره، ربما، عن الحرب العالمية الثانية. هذه ليست مبالغة، بل ربما تكون نتيجته سبباً رئيساً في إعادة تشكيل خريطة إقليمنا، ويمتد تأثيره إلى أصقاع كثيرة في هذا العالم، وإن لم يكن كذلك، فلمَ شغل كبريات صحف العالم، وتصدّر أغلفتها؟

الغريب أنه ترافق تقريباً مع حدثٍ آخر في الجهة الأخرى من العالم: تتويج ملك بريطانيا الجديد، حيث تقاطر زعماء العالم من أركانه الأربعة للمشاركة والمباركة، وأفسحت له وسائل الإعلام، مقروءة ومسموعة ومرئية، مكانة “تليق” بزعيمة الاستعمار الحديث، ومؤسِّسة أكثر القصص توحشاً في تاريخ استعباد الشعوب. مع هذا، كان “الحدث” احتفالياً في الإعلام، غربيه وشرقيه. أما حين تعلّق الأمر بمن يسمّونه السلطان العثماني الجديد، فالأمر احتوى على قدر غير قليل من التحريض والهجاء وحتى الشتم، من لدن صحافة يفترض بها أنها “موضوعية” وحيادية، وتلك كذبة لا تنطلي إلّا على بسطاء الناس، وطلاب كليات الإعلام المستجدّين، فلا حياد في الإعلام، كونه العنصر الأكثر تأثيراً في حياتنا، وهو القوة الناعمة التي تستعملها الدول، ليس لصناعة الرأي العام فقط، وغسل أدمغة العامة، بل تسويق سياسات و”مبادئ” القتلة الكبار الذين يمولونها، ويمدّونها بأسباب الحياة كي تبيع “وهمهم” للمستهلك البائس.

احتفل العالم كله تقريباً بتشارلز، ملك بريطانيا الجديد، أما “السلطان” العثماني، فنال حظه من الهجاء والتآمر، حتى قيل إن ما فشلت فيه محاولة الانقلاب العسكري عليه في صيف 2016، ستحاول “الأطراف” المتضرّرة تحقيقه في الانقلاب “الديمقراطي”.

يحاول أعداء أردوغان أن يتقرّبوا للشعب بما حاربوه فيه في ما مضى

تركيا، بالمعيار الغربي، بلد ديمقراطي متعدّد الأحزاب، وليس فيه “مجلس شورى!” يعيّنه الحاكم، أو مجلس نواب صوري مستلب الإرادة. بلد فيه انتخابات حقيقية، لم يجرؤ أحدٌ، فيما أعلم، على النيْل من نزاهتها، وهو نظامٌ أقرب ما يكون للنموذج الغربي. ومع هذا يُرمى بكل تهمة ممكنة، للنّيل منه، فقط لأنه “تمخّض” عن حزبٍ وزعيم أعادا لتركيا وجهها الحقيقي وهويتها التي كادت تندثر، ونقلا هذا البلد من الهامش إلى المركز، وكل ذنبه أنه بلدٌ مسلمٌ، سنّي تحديداً، وتلك “خطيئة” كبرى في عُرف المجمع العسكري الذي يحكم العالم، ويقرّر أين تقوم الحروب، وكم تستمر، وعدد من سيموتون فيها، والوقت الذي يكفي لتجربة كفاءة أسلحته الجديدة، وأي زعيم يرفع رأسه ومتى، وأي زعيم تتعيّن “تصفيته” مباشرة أو بانقلاب أو حتى بانتخابات(!).

ليس أردوغان خليفة المسلمين، وهو حاكم براغماتي ذكي، لعب سياسةً بمهارة، وربما يكون خلط عملاً جيداً بآخر سيئ، مجاراة للإرث الذي غرقت فيه بلاده التي استبدلت “دينها” الإسلامي على أيدي الحكّام الذين سبقوه بدين جديد هو العلمانية، فمشى في حقلٍ من الألغام، وغيّر البلاد على نار هادئة، ونقلها من حالٍ إلى حال. مثلاً، طرد البرلمان العلماني، قبل نحو ربع قرن، سيدة تركية من أصل أردني تُدعى مروة قاوقجي من تحت قبته بسبب ارتدائها الحجاب، وأسقطت عنها الجنسية، وجرى حل حزبها. وبعد سنوات قليلة، أعيد الاعتبار لها، وعينت سفيرة لبلادها في ماليزيا، وابنتها اليوم المترجمة الخاصة لأردوغان. منذ ربع قرن تغير الكثير في تركيا، سياسياً وعسكرياً واقتصادياً وأيديولوجياً، أصبح “الحجاب” الممنوع رسمياً “حقاً” طبيعياً لنساء تركيا. ربع قرن دار الزمان دورة أصابت من يرقب تركيا بالدوار، ولم يدّخر هذا المصاب جهداً في الكيد لمن أدار هذه العجلة، من فوق الطاولة وعلانية ومن تحتها، ومرّت لحظات تأرجح فيها “السلطان” على عرشه، وذاق شعبُه مرارة العنت في “ليرته” لإقناعه بالتخلي عن خياره، لكنّ السلطان صمد، واضطر إلى مدّ يده بالسلام لأكثر أعداء الأمة شراسة، فصالح وتسامح وربما “طلب الصفح”، بعد أن وصل “سكّين” التآمر إلى العصب الحي، فهادن أعداء الأمس، لأنه يعلم أنّ أمامه معركة شرسة لا ينفع معها عناد، ولا تمسّك بـ”شعارات” أطلقها ربما في ساعة نشوة بالانتصار.

يقف أردوغان اليوم في مواجهة طيف واسع من “الخصوم”

يقف أردوغان اليوم في مواجهة طيف واسع من “الخصوم”، كان بعضهم حتى بالأمس من خاصة خاصته، وبدأ بعضهم بالتمسح بالدين والإسلام، أملاً في استدرار عطف الجمهور الذي رفع أردوغان، وتلك مفارقة لافتة، فمنافسه الرئيس ينافس أردوغان في عدد مرّات ارتياده المساجد(!)، وقد كان هو وقبيله من قبل ممن شنّوا حرباً شعواء على الأئمة ومساجدهم. يحاول أعداؤه اليوم أن يتقرّبوا للشعب بما حاربوه فيه في ما مضى، بعلمانيّتهم، ولا يتعرّض هؤلاء بالطبع للنقد من صحافة الغرب وإعلامه، فالمهم هزيمة السلطان، وتبديد شمل البلد الذي جمع حوله قلوب ملايين المسلمين في بقاع الأرض، وأعاد، على نحو أو آخر، إحياء ما مات من أملٍ في العقل الجمعي المسلم، السنّي تحديداً.

مرّت تقريباً مائة عام على تفكيك “خلافة” بني عثمان، وإن نجا وريثُها مما يُحاك له داخلياً وخارجياً، ونرجو ذلك، فربما ترسم النتيجة التي ستُسفر عنها المعركة التي سينطلق أوارها بعد أيام لون المائة المقبلة من السنوات وشكلها.

 


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...