*د.خالد حنفي
الأضحية اسم لما يذبح من الأنعام يوم النحر وأيام التشريق بنية التقرب إلى الله تبارك وتعالى، وقد أجمع المسلمون على مشروعيتها لقوله تعالى: ﴿فصل لربك وانحر﴾ [الكوثر: 2]، ولما أخرجه البخاري في صحيحه عن أنس رضي الله عنه قال: “ضحى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين، ذبحهما بيده، وسمى وكبر” والأضحية تذبح عن المضحي ومن يلزمه الإنفاق عليهم مهما بلغ عددهم، والشاة تجزئ عن واحد، والبقرة والبدنة عن سبعة.
حكمها
ذهب الحنفية والليث بن سعد، والأوزاعي وربيعة الرأي، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، إلى أن الأضحية واجبة على المقيم الموسر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضحي كل عام، فحملوا فعله على الوجوب، وقالوا: إن الأمر للوجوب كما في سورة الكوثر، والراجح رأي الجمهور أن الأضحية سنة مؤكدة للقادر عليها لجملة من الأحاديث الظاهرة في عدم وجوبها كحديث أم سلمة رضي الله عنها: “إذا دخلت العشر الأول وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمس من شعره ولا من بشره شيئا” أخرجه مسلم. فقوله صلى الله عليه وسلم وأراد تنفي الوجوب.
فضلها وثوابها
ورد في فضل الأضحية وثوابها أحاديث كثيرة أغلبها بين ضعيف وموضوع، ولعل أصح هذه الأحاديث ما أخرجه الترمذي عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “ما عمل آدمي من عمل يوم النحر أحب إلى الله من إهراق الدم، وإنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأشعارها وأظلافها، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع من الأرض، فطيبوا بها نفسا”.
حكمتها
القصد الأعظم من الأضحية هو إحياء سنة أبينا إبراهيم عليه السلام في امتثاله لأمر الله وعزمه على تنفيذ الرؤيا بذبح ولده قال تعالى: ﴿وفديناه بذبح عظيم ﴾ [الصافات: 107] والمسلمون حين يضحون يتمثلون معاني الفداء والتضحية لهذا الدين، والاستسلام والانقياد لأمر الله، عقلوا الحكمة منه أو لم يعقلوها، قال الحكيم الترمذي: “وأما علة الأضحية فإنه لما جنى العبد على نفسه وأذنب فكأنه أحل القتل بنفسه، فأمر بالفداء كما أمر الله تعالى خليله عليه الصلاة السلام بذبح ابنه ثم فداه بكبش ونجاه من القتل، وهذه ملة خليل الله إبراهيم منّ بها علينا، فلما أذنب العبد استوجب النار، وهو القتل الأعظم فأمر بفداء نفسه” إثبات العلل للحكيم الترمذي ص 208. ومن حكم الأضحية: الربط والاتصال بين الحاج الذي يذبح الهدي في الحرم، وغير الحاج الذي يذبح الأضحية في الحل، فيتشاركان في القصد والمعنى والثواب والأجر، ومن حكمها: شكر الله على نعمة المال، ومن حكمها: التوسعة على الفقراء والأقارب والجيران.
شروطها وهل تصح من غير الأنعام؟
للأضحية شروط لابد من توفرها حتى تقع صحيحة وفق مراد الله تعالى، وهي:
أولا: أن تكون من بهيمة الأنعام؛ لقوله تعالى: ﴿ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام﴾ [الحج: 34]، والأنعام هي: الإبل والبقر والغنم، والمعز نوع من الغنم، والجاموس نوع من البقر، ويشمل ذلك الذكر والأنثى، ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم التضحية بغير الأنعام على كثرة ما ضحى، وإنما اختصت الأضحية بالأنعام لاشتراكها مع الزكاة في كونهما قربة.
أما ما نقل عن ابن حزم من جواز الأضحية بسائر الطيور كالديك والدجاجة فقول باطل لا يصح العمل به؛ لأنه استدل بقوله صلى الله عليه وسلم: “من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح، فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية، فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة، فكأنما قرب كبشا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة، فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة، فكأنما قرب بيضة” رواه البخاري، إذ يلزم منه جواز الأضحية بالبيضة الواردة في الحديث بعد الدجاجة ولم يقل به أحد حتى ابن حزم نفسه، ولا يتصور أن تتحقق مقاصد الأضحية ومعانيها بالقول بإجزاء ذبح الطيور والدجاج!! وعلينا أن نعظم شعائر الله كما أمرنا، قال تعالى: ﴿ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب﴾ [الحج: 32]
ثانيا: القدرة: بأن يكون صاحبها قادرا على ثمنها، بأن يكون مالكا لنصاب الزكاة فاضلا عن حوائجه الأصلية.
ثالثا: أن تكون خالية من العيوب القادحة في وفرة اللحم وجودته أو المنفرة من أكلها، كالعوراء والعرجاء والمريضة، وعلى المضحي أن يحرص على انتقاء أضحيته من أطيب وأجود الأنعام، وأن يقصد المزارع التي لا تسمن الأنعام بالأدوية والهرمونات التي تضر بالإنسان والحيوان، وأن يحب للفقير ما يحب لنفسه؛ فإن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا، والله تعالى يقول: ﴿لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون﴾ [آل عمران: 92]، ﴿يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم﴾ [البقرة: 267]
رابعا: أن يقع الذبح في الوقت المحدد شرعا، وأول وقتها بعد صلاة العيد يوم النحر العاشر من ذي الحجة، وينتهي وقتها بغروب شمس اليوم الثالث من أيام التشريق، فوقت الذبح ممتد إلى 4 أيام: يوم النحر وهو أول أيام العيد، و3 أيام للتشريق بعده.
حكم الأضحية بالخراف والعجول المسمنة إذا كانت أقل من السن المحددة شرعا
حدد الشرع سنا للأضحية حسب نوعها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تذبحوا إلا مسنة، إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن)) رواه مسلم، وقال أبو بردة بن نيار: عندي جذعة أحب إلى من شاتين، فهل تجزئ عني؟ قال: ((نعم، ولا تجزئ عن أحد بعدك)) متفق عليه. هذان النصان أصل في تحديد السن المجزئة في الأضحية، وهو على الراجح من أقوال الفقهاء: 5 سنوات للإبل، وسنتان للبقر ويلحق بهما الجاموس، وسنة للمعز، و6 أشهر للضأن.
وفي عصرنا تطورت طرائق تسمين الحيوان خاصة الخراف والعجول، فصار الحيوان يحمل من اللحم ما يحمله الذي بلغ السن وزيادة، وهو دون السن المحددة شرعا، وقد ناقشت هذه المسألة بالتفصيل في مقال سابق بعنوان: سن الأضحية بين التعبد والتقصيد، ورجحت جواز الأضحية بالأنعام المسمنة تحت السن الشرعية للأضحية وهو رجحه المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث في قراره، وفيه أن: “الأصل مراعاة اشتراط السن في الظروف العادية، ما لم يتحقق النمو المطلوب قبل السن خصوصا الضأن الذي ينمو بسرعة في أوروبا، وكذلك عجول التسمين التي تنمو في عدة شهور، سواء أكان ذلك بنمو طبيعي أم باستخدام طرق التسمين، فإن الأضحية بها جائزة تحقيقا للمقصود الشرعي من اشتراط السن، وقد أفتى بهذا بعض مشاهير المالكية”.
اجتماع الأضحية والعقيقة
جوّز الحنفية ذبح ذبيحة واحدة عن الأضحية والعقيقة؛ لاشتراكهما في كونهما قربة لله تعالى، والراجح هو ما ذهب إليه المالكية والشافعية ومن وافقهم من عدم جواز الجمع بين الأضحية والعقيقة، حيث قالوا: لابد من ذبح مستقل عن كل منهما؛ لاختلاف سببهما والقصد منهما، فالأضحية شرعت في عيد الأضحى إحياء لسنة أبينا إبراهيم، والعقيقة شرعت عن المولود شكرا للنعمة وإظهارا لشرف النسب، فلا يصح الجمع والتشريك بينهما.
الأخذ من شعر وظفر المضحي في العاشر من ذي الحجة
مع بداية شهر ذي الحجة من كل عام، ينتشر في مواقع التواصل الاجتماعي تنبيه مفاده أنه بدخول ذي الحجة يحرم قص الشعر والأظافر لمن لديه نية الأضحية. ومن الأخطاء الشائعة في هذه المسألة، اعتقاد أن المخاطب بها المضحي وأهل بيته، رغم كون المخاطب بها المضحي فقط دون أهل بيته، فلا يشملهم النهي الوارد في حديث أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من كان له ذبح يذبحه فإذا أهلّ هلال ذي الحجة فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره شيئا حتى يضحي” رواه مسلم.
والرأي الذي أرجحه وأفتي به وأراه مناسبا لعصرنا وزماننا، ومراعيا لظروف الناس وطبيعة أعمالهم خاصة في أوروبا، هو رأى الحنفية الذي يبيح قص الشعر والأظافر للمضحي دون كراهة، وذلك لأن السيدة عائشة رضي الله عنها أنكرت على أم سلمة هذا الحديث مبينة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال هذا في حق من أحرموا بالحج، وذلك لكون أهل المدينة يهلون بالحج عند طلوع هلال ذي الحجة، قالت: ولقد فتلت قلائد هدى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يمتنع من شيء كان مباحا أي لا من الطيب ولا من النساء، ولا غير ذلك من شعره وأظفاره.
والقول بحرمة القص للشعر والظفر على المضحى يخالف القياس والمعقول، لأن المحرم بالحج يمتنع فترة يسيرة من الوقت أقل من المضحي في غالب الأحوال، كما أن التشبه بالمحرم يقتضي امتناعه عن الطيب والنساء أيضا، وهو مالم يقل به أحد حتى أم سلمة نفسها.
ومن كانت له سعة ويقدر على الامتناع من الأخذ من شعره وظفره حتى يذبح أضحيته فليفعل ذلك، استحبابا وندبا لا إيجابا وحتما. وهو ما يفهم من رأى المالكية والشافعية الذين قالوا بالكراهة التنزيهية، ومعلوم أن الكراهة تزول لأدني حاجة.
مسلمو أوروبا والتوكيل في ذبح الأضاحي داخل وخارج القارة
من الشعائر الظاهرة التي ترسخ هوية المسلمين في الغرب شعيرة الأضحية، واستمساك المسلمين بها وحرصهم عليها في الغرب مما يعمق هويتهم وانتماءهم لدينهم وأمتهم، كما تعكس شعيرة الأضحية وذبحها حيث يقيم المسلم هناك قيمة المواطنة والموازنة المنضبطة بين الانتماء للدين وللمجتمع الذي يعيش فيه، ومن الظواهر الآخذة في الانتشار بصورة كبيرة بين مسلمي أوروبا، التوسع في التوكيل بذبح الأضحية خارج القارة إما في بلدانهم الأصلية بواسطة أقاربهم، أو في البلدان الأكثر فقرا وحاجة بواسطة المؤسسات الإغاثية، ويرجع ذلك إلى جملة من الأسباب أهمها:
قلة الفقراء والمحتاجين في أوروبا، مقارنة بخارجها، والاعتقاد بأن المقصد الأعظم من الأضحية هو مساعدة الفقراء. التفريق في النظر إلى تخدير ذبيحة الأضحية والذبائح على مدار العام، وهذا خطأ لأنه إذا صح أكل الحيوان المسبوق ذبحه بالتخدير في غير الأضحية صح ذبحه وجاز أكله بالتخدير في الأضحية. والأصل أن تذبح الذبيحة دون تخدير أو صعق إذا سمح بذلك القانون في بلد المضحي، أما إذا لم يسمح القانون بالذبح دون تخدير فيجب الالتزام بالقانون، والذبح صحيح ما لم تمت الذبيحة من التخدير. عدم توفر الوقت للذبح إذا وافق يوم العيد يوم عمل، وميل أغلب الناس للذبح يوم العيد، رغم صحته حتى رابع أيام العيد.
ومع استمرار الكوارث واتساع رقعة الفقر وكثرة المعوزين في العالم العربي والإسلامي لا يكاد ينتهي سبب التوكيل خارج أوروبا في الأضحية؛ لهذا أدعو المسلمين، والأئمة والمراكز الإسلامية في أوروبا، إلى الذبح حيث يقيمون مع رعاية الشروط الصحية والقانونية في الذبح قدر الإمكان، وحث الناس على التصدق بالمال في بلادهم والبلدان الفقيرة أو الجمع بين الأضحية في أوروبا والبلد الأصلي أو الأشد حاجة، وذلك لما يلي:
الأصل في الأضحية أن يذبحها المضحى بنفسه وألا يوكل غيره بذبحها إلا استثناء، وما يحدث في أوروبا الآن هو تحول الاستثناء إلى أصل، وقاعدة التوسع في التوكيل بذبح الأضاحي خارج البلاد يترتب عليه اختفاء الشعيرة فى الجماعة المسلمة، ونشوء أجيال لا تعرف هذه الشعيرة ولا تحرص عليها، بل تتأفف من الذبح وتنفر من الدم، وهو مآل واقع لا متوقع. والقصد الأعظم من الأضحية هو إحياء الشعيرة والاقتداء بسيدنا إبراهيم عليه السلام وليس التصدق على الفقراء، ولعل أرجح الأقوال في المسألة رأى الحنفية والمالكية الذين ذهبوا إلى أن التصدق من الأضحية مستحب وليس بواجب الاستمرار في التوكيل بالأضحية، خارج أوروبا يفوت مقاصد الأضحية وشعيرتها الكلية والجزئية. التوكيل في الأضحية خارج بلد المضحي يفوت مقصد التواصل مع الجيران من المسلمين وغير المسلمين وإعطائهم من الأضحية وإظهار قيم التسامح والتعاون والبر والصلة، ومحو الصور السلبية والأحكام المسبقة عن المسلمين. وفي التوكيل بالذبح خارج أوروبا إخلال بمبدأ التوطين والمواطنة، وتثبيت العيش والتفكير خارج الوطن وإن أقيم فيه بالجسد.
وظني أنه بوسع أغلب المسلمين في أوروبا أن يجمعوا بين الأضحية والصدقة، وكل ما ذكرت لا ينفي صحة التوكيل في ذبح الأضحية خارج أوروبا بشرط ألا يؤدي تكراره كل عام إلى ذهاب الشعيرة وانعدام المضحين في هذه القارة رغم يسارهم.
كيفية توزيعها وحكم الادخار في ظل الأوضاع الاقتصادية
أوسط الأقوال وأعدلها في تقسيم الأضحية وتوزيعها أن يقسمها أثلاثا: ثلث للفقراء، وثلث للأقارب والجيران، وثلث لنفسه، والتصدق بأكثرها أو كلها أكمل وأفضل، فإن الأكل منها مستحب لا واجب، وقد ثبت نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ادخار اللحوم في سنة من السنوات من أجل وفود من الفقراء أو اللاجئين باللغة المعاصرة ففي الحديث: ((إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت عليكم. فكلوا، وتصدقوا، وادخروا)) رواه مسلم. وقال العلماء: فإذا عاد سبب النهي، عاد النهي عن الادخار. وهو ما ينطبق على كثير من البلدان اليوم مع زيادة معدلات التضخم وارتفاع أسعار اللحوم والتي ربما لا يجدها الفقير إلا أيام العيد، وهو ما يجعلنا نرجح عدم تخزين أو ادخار شيء من لحوم الأضاحي هذا العام أو الاقتصار على أقل القليل وتوزيع أكثرها على الفقراء والمحتاجين.
إعطاء غير المسلم منها
ويجوز بل يحسن إعطاء غير المسلم منها ما لم يكن محاربا معاديا للمسلمين، خاصة إذا كان جارا للمضحي أو فقيرا محتاجا، والمسلمون في الغرب أحق الناس بهذا العطاء وهذا البر مع غير المسلمين الذين يبدؤون عادة بالإحسان إليهم؛ لعموم قوله تعالى: ﴿لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين﴾ (الممتحنة – 8). وإهداؤه من لحم الأضحية داخل في البر، وعن مجاهد: “أن عبد الله بن عمرو ذبحت له شاة في أهله، فلما جاء قال: أهديتم لجارنا اليهودي؟ أهديتم لجارنا اليهودي؟ (فإني) سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)) رواه الترمذي.
*أستاذ جامعى متخصص في أصول الفقه، عميد الكلية الأوروبية للعلوم الإنسانية، ورئيس لجنة الفتوى بألمانيا