أضحية العيد ما بين فِقْه القَطْعِيّات وفِقْه الظنيّات والقيّم المجتمعيّة: جدلية الاجتهاد والتكيف مع الواقع..
* الدُّكتُور عَبْدُ اللَّهِ شَنْفَار
أضحية العيد تدخل في فقه الظنيّات وليس فقه القطعيات، لأن وجوبها محل خلاف بين الفقهاء، ولم يثبت فيها دليل قطعي الدلالة والثبوت.
ليس من شِيِّم العلماء وأهل الحِكمة احتكار الرأي أو الصواب. لكن بعض أنماط التفكير والوثوقيّة يدعي أصحابها التّفرّد بامتلاك الطبعة الأصليّة للحقيقة؛ في حين الآخرين لديهم النسخة المزيفة فقط.
قال الإمام الشافعي؛ رحمه الله: «رأيي صَوابٌ يَحتَمِلُ الخَطأ. ورأيُ غَيري خَطأ يَحتَمِلُ الصَّوابَ.» وقد اتخذ الفقهاء من هذا القول قاعدة أصولية يطبقونها على فقه الظنيّات؛ والتي يبقى باب الاجتهاد فيه مفتوحًا غير موصد.
فقه الظنيات، يشمل الأحكام التي لم يرد فيها دليل قطعي، بل تعتمد على الاجتهاد في فهم النصوص، وهذا ينطبق على الأضحية، لأنها محل اجتهاد فقهي واختلاف في الوجوب والاستحباب. والاجتهاد الفقهي يكون في مجال فقه الظنيَّات؛ أمَّا في مجال فقه القطعيَّات، فهي تحصيل حاصل ليست موضوع اجتهاد، حيث يشمل الأحكام التي ثبتت بأدلة قطعية في الثبوت والدلالة.
عندما يكون حل المسائل ضعيفًا؛ فهو يُشبه إلى حد ما، القياس بمسطرة عوْجَاء؛ تُعطيك قراءات قياس خاطئة لنفس الحالة. لكن الخطير في الأمر؛ هو لما يتشبث البعض بسلامة المسطرة على الرغم من اعوجاجها؛ ويبحث عن عشرات الطرق المُلتويّة؛ ليبرِّر تلك القراءات الخاطئة.
ويفترض طرح أسئلة وجوديّة حول القِيّم المجتمعية:
1. هل هي من الضروريّات الأساسيّة التي بدونها ينهار ويهلك ويفسد المجتمع إذا لم يأخذ بها؟
2. هل هي من الحاجيات التي يبحث عنها البشر؛ حيث يتعب من أجل الوصول إليها وتحقيقها؛ ولكن بدونها لن ينهار المجتمع وحياة الناس ستستمر وستسير؟
3. أو هي تدخل في خانة التحسينيات؛ فعلها من عدم فعلها؛ تحققت أو لم تتحقق؛ فهي خير؟
أعتقد هناك من يختزل صيرورة القيّم في أفكار متجاوزة جدًا لا تسمن ولا تغني من تنمية وبناء حضارة وعمران في شيء.
تحليل القيّم المجتمعية وفق هذا التقسيم الثلاثي الأبعاد:
1. الضروريات؛
2. الحاجيات؛
3. والتحسينيات؛
هي مقاربة عقلانية تساعد في تحديد موقعها في البناء الحضاري. لكن الإشكال يكمن في اختزال القيّم إلى مستويات معياريّة دون النظر إلى تفاعلها الدينامي مع الواقع.
– القيم المجتمعيّة في مساراتها وصيرورتها تشمل:
* الضروريات: بعض القيم تشكل أساس المجتمع، مثل العدل، الأمان، والانتماء، لأنها تؤطر العلاقات وتحمي الأفراد من الفوضى والانهيار. وبدونها، قد تنهار المجتمعات أو تدخل في صراعات مدمرة.
* الحاجيات: توجد قيّم ليست ضروريّة للبقاء، لكنها مهمة لجودة الحياة، مثل التعايش، الإبداع، والمشاركة السياسيّة. وغيابها لا يؤدي إلى انهيار المجتمع مباشرة، لكنه يجعله هشًا ومتخلفًا.
* التحسينيات: بعض القيّم تدخل في مجال التحسين والتزيين، مثل الآداب الاجتماعيّة والذوق العام، وهي تكمل الصورة لكنها ليست ضروريّة للحياة أو الاستقرار.
– نقد اختزال القيم:
المشكلة ليست في القيّم ذاتها، بل في الجمود الذي يحولها إلى مجرد شعارات منفصلة عن واقع المجتمع. فالقيم ليست ثابتة؛ بل هي متجددة، تتغير بحسب حاجات المجتمع ومسارات تطوره. والحضارة لا تُبنى بالشعارات التقليديّة، بل بقدرة القيّم على الاستجابة للتحديات الجديدة.
العلاقة بين فقه الظنيات والقيّم المجتمعيّة هي في جدلية اعتماد وعلاقة تفاعل متبادل، حيث تؤثر القيّم في تشكيل فهم الفقه، كما يؤثر الفقه في توجيه القيّم المجتمعيّة. هذا التفاعل يقوم على ثلاثة مستويات:
1. التأويل؛
2. والاجتهاد؛
3. والتكيف مع الواقع.
– القيّم المجتمعيّة كإطار لفهم فقه الظنيَّات:
فقه الظنيات يعتمد على الاجتهاد في فهم النصوص، وهو بذلك يتأثر بالسياقات الاجتماعيّة والثقافيّة التي تعيشها الأمة. والقيّم المجتمعيّة تُحدد طبيعة الأسئلة المطروحة على الفقهاء، وتُوجه طريقة تفسيرهم للنصوص.
ونضرب مثال ليتضح القول:
في المجتمعات التقليديّة، كان يُنظر إلى العبوديّة كظاهرة مقبولة اجتماعيًا، ولذلك جاءت اجتهادات فقهيّة تتعامل معها. لكن مع تطور القيّم والكرامة الوجوديّة الإنسانيّة، أصبح تحريم العبوديّة أمرًا محسومًا، ولم يعد هناك مجال لاجتهاد فقهي يبررها.
في مسائل مثل دور المرأة في الحياة العامة، نجد أن القيّم المجتمعيّة أثرت في فهم النصوص، حيث تطور الفقه من رؤية مقيدة لدور المرأة إلى اجتهادات أكثر انفتاحًا مع تغير المجتمعات.
– الفقه كأداة لإعادة تشكيل القيم المجتمعية:
في المقابل، الفقه ليس مجرد انعكاس للقيّم المجتمعيّة، بل يُسهم في إعادة توجيهها وتشكيلها. من خلال الاجتهادات الفقهيّة، ويمكن ضبط مسلسل ومسار القيّم المجتمعيّة، بحيث تبقى متوازنة بين التطور والالتزام بالمبادئ الدينية.
ونضرب مثال ليتضح القول:
في القضايا الاقتصادية، عندما ظهرت البنوك الإسلامية، كان هناك اجتهاد فقهي لضبط المعاملات المالية وفق الشريعة، مما أثر على القيم الاقتصادية للمجتمعات الإسلامية، وخلق وعيًا جديدًا حول مفهوم “التمويل الإسلامي”.
في مجال الحريات الفردية، توجد اجتهادات حديثة في مجالات فقه المواطنة والتعدديّة التي تحاول ضبط العلاقة بين قيّم الحداثة (حقوق الإنسان وحريّة المعتقد) وبين المبادئ الفقهيّة، مما يعيد تشكيل القيّم الاجتماعية بطريقة متوازنة.
الاجتهاد بين الثوابت والمتغيرات: كيف تتكيف القيّم والفقه مع الواقع؟
التحدي الأكبر في العلاقة بين الفقه الظني والقيّم المجتمعيّة هو التمييز بين الثوابت والمتغيرات.
بعض القيم ذات طبيعة ثابتة، مثل العدل والأمان، وهي تتطابق مع فقه القطعيات.
بعض القيم ذات طبيعة متغيرة، مثل أنماط اللباس، والعلاقات الاجتماعية، وهذه تقع ضمن فقه الظنيات، حيث يتغير الاجتهاد الفقهي بتغير الزمن والمكان.
ومن خلال مثال تطبيقي يمكن فهم هذا القول:
في الماضي، كانت الأعراف القبليّة تؤثر في الأحكام الفقهيّة المتعلقة بالقضاء والشهادة والميراث. أما اليوم، فقد تغيرت هذه القيّم مع ظهور الدولة الحديثة، مما أدى إلى اجتهادات جديدة تتناسب مع النظام القانوني المعاصر.
– تكامل وليس صراعًا:
العلاقة بين فقه الظنيات والقيم المجتمعية ليست علاقة صراع أو تناقض، بل هي علاقة تكامل وتفاعل. الفقه الظني يساعد في ضبط القيم المجتمعية، بينما القيم المجتمعية توفر سياقًا لفهم النصوص الفقهية وتطوير الاجتهادات. الفهم العميق لهذه العلاقة يسمح ببناء اجتهادات فقهية مرنة، تُراعي روح الشريعة ومتطلبات العصر، دون تفريط أو جمود.
* الخلاصة:
السؤال الأهم ليس فقط في تصنيف القيّم، بل كيف نعيد إنتاجها وتصريفها وتنزيلها في الواقع، بحيث تصبح فاعلة ومؤثرة في التنمية والعمران، بدلاً من أن تبقى مجرد أفكار متجاوزة لا تضيف شيئًا إلى الواقع.
وبالتالي؛ فإن الخوض في مقاصد الشريعة؛ يتطلب تفكيرًا متماسكًا، يجمع بين التحليل الفقهي والتأمل في دور القيّم المجتمعيّة في البناء الحضاري.





