* الدُّكتُور عَبْدُ اللَّهِ شَنْفَار
– مفهوم “الكثرة” أو الأكثريّة ومكانتها في الوعي الجمعي..
في مشاهد متكررة من ذاكرة الوعظ والإرشاد والسياسة والفن؛ نسمع ونرى الآلاف يحتشدون لسماع خطب هذا الشيخ أو الهتاف بحياة جمال عبد الناصر، أو التماهي مع فنانين وفنانات.
وفي الظاهر، قد تبدو هذه الكثرة مؤشراً على القبول والنجاح، وربما حتى على “الحقّانية” الجماهيريّة.
لكن، هل الكثرة دليل صواب؟ وهل العدد يحسم المعنى؟
1. الكثرة ليست حجة: تأملات في شعبويّة العدد ومقاييس الفعل الحضاري..
نجد في المقابل، حين يلقي مفكر استراتيجي محاضرة، أو يتحدث أحد العلماء العقلانيّين، فإن قاعة المحاضرات غالباً ما تكاد تكون شبه فارغة، أو لا يتجاوز الحضور أصابع اليد.
هنا تبدأ المفارقة الكبرى: قلة لا تعني بالضرورة ضعف الرسالة، كما أن الكثرة لا تُزكّي مضمونًا.
2. الكثرة ليست معيارًا للصواب، بل مرآة للتشابه فقط..
الصحيح أن الكثرة أو القلة ليستا معيارًا للحقيقة أو الخطأ، بل هما انعكاس لدرجة مدى انسجام الخطاب مع ذوق الجمهور والاتباع ووعيهم. فالاتباع والجماهير، تميل غالبًا لمن يشبهها في اللغة والانفعال والسرديّة، وليس لمن يُشاكلها في التفكير والتأمل والوعي الحضاري.
وقد يكون الخطاب الحق عميقًا في مغزاه، صعبًا على الذوق الشعبي، فلا يُستقبل بكثافة، بل يُهاجره الناس كما هاجروا كثيرًا من الأنبياء والرسل؛ واعتبروهم سحرة وكذابين (وَعَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ؛ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَٰذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ.)
3. القرآن وحقيقة الكثرة:
نعث القرآن الكريم الأكثريّة بصفات سلبيّة متكررة، منها: لا يعلمون؛ لا يسمعون؛ لا يعقلون؛ لا يؤمنون! لا يشكرون! ضالُّون؛ غافلون! يبغون! معرضون؛ مشركين! يجهلون! مشركون؛ يظنون! للحق كارهون! أضلُّ السبيل! (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ.)
فهي كثرة لا قيمة لها، لأنها تفتقد البوصلة، وتضل الطريق، وتُعرِض عن المعنى وتستهين بالعمق.
4. من الكثرة إلى الفاعلية النوعية:
ولذلك، فإن المطلوب ليس مجرد تجميع الحشود من الاتباع والجمهور، بل المطلوب هو صناعة “الكم الفاعل”؛ الفئة القليلة التي تحمل الوعي وتزرع البصيرة وتحدث الأثر.
هؤلاء هم الذين يصنعون التحول في الحضارة ويصنعون التاريخ. هم الذين يُحدثون الفرق، وليس الجماهير التي تهتف اليوم وتنسى غدًا.
* خلاصة: لا تغترّ بالعدد، بل قم بفحص وتشخيص المضمون:
لا تجعل الكثرة غايتك ولا معيارك، فإن طريق الحق وعرٌ وصعب، ولا تسلكه الجموع. وليكن سؤالك دائمًا: ما هو مضمون الخطاب؟ وما أثره وجدواه الحضاري؟ لا: كم عدد الحاضرين؟ ولا: من الأكثر شهرةً؟ فـ”الحق لا يُعرف بالرجال، ولكن يُعرف الرجال بالحق”.





