ضياع الذاكرة الغذائيّة: الاقتصاد الثقافي للتمور في مجتمع الواحات

إيطاليا تلغراف

 

 

 

*الدكتور عَبْدُ اللَّه شَنْفَار

 

 

أولًا: تحولات في قطاع إنتاج التمور: بين الاقتصاد الثقافي والاستدامة الاستراتيجية
  شهد قطاع التمور في المغرب تحولاً جذرياً في بنيته العميقة، إذ انتقل من منطق الاكتفاء الذاتي والتنوع المحلي إلى منطق التسويق العابر للحدود. هذا التحول لم يكن مجرد تغيير تقني أو اقتصادي، بل هو تجلٍّ لانتقال جوهري في العلاقة بين المجتمع وموارده التقليدية، يطرح أسئلة أساسية حول التوازن بين متطلبات السوق العالمية وحماية الموروث الثقافي. وما هي الكلفة الخفية حين تتحول التمور من مكون أساسي للذاكرة الغذائية إلى سلعة في سلسلة التصدير العالمية؟
ثانيًا: ارتدادات التحول على التشكيلة الزراعية: تفكيك النسيج الوراثي والثقافي
  هيمنة الأصناف التجاريّة، وعلى رأسها صنف: “المجهول”، أفرزت إشكاليات متعددة الأبعاد. فهي تلبي متطلبات الجودة الشكلية لأسواق التصدير، لكنها تفرض نمطاً استهلاكياً موحداً يهدد القطيعة مع التنوع الغوي المحلي والذاكرة الغذائية المجتمعية. فقد كانت الأصناف التقليدية روابط حية بين الإنسان ومحيطه البيئي والثقافي، وهي اليوم مهددة بالتلاشي تحت ضغط المنطق التجاري.
ثالثًا: التنوع الوراثي: بين الربح الفوري وقواعد المرونة البيئية
  تراجع الأصناف التقليدية يضعف الرصيد الوراثي للنخيل، ما يزيد هشاشة المنظومة الزراعية أمام التغيرات المناخية والمخاطر المرضيّة (مثل مرض البيوض الذي يصيب النخيل ومختلف الفطريات).
هنا يبرز سؤال استراتيجي: هل يمكن تبرير التضحية بالتنوع البيولوجي، الذي تكيّف مع خصوصيات البيئة المحلية عبر قرون، لمصلحة أصناف تجارية قد تثبت هشاشتها أمام متغيرات المستقبل؟
إن هذا التحدي يوضح أن الربحية الآنية لا يمكن أن تُعوض عن الاستدامة طويلة المدى.
رابعًا: الأمن الغذائي بين سيادة القرار وتقلبات السوق
  كشف القرار التونسي الأخير بمنع تصدير التمور إلى المغرب هشاشة النموذج القائم على التبعية للسوق الخارجي.
هذا الواقع يفرض إعادة التفكير في أولويات السياسات الزراعية الوطنية: هل لا يستدعي الأمن الغذائي تعزيز السيادة على القرار الاستهلاكي وبناء مخزون استراتيجي يوازن بين التصدير وتلبية الحاجيات المحلية؟
خامسًا: استشراف آفاق متوازنة: نحو سياسات جيو-ثقافية للقطاع
  لا يمكن اختزال إشكالية قطاع التمور في بعد اقتصادي ضيق؛ بل هي قضية مركبة تتداخل فيها الأبعاد الثقافية والاجتماعية والبيئية. معالجة هذه الإشكالية تتطلب رؤية استراتيجية متكاملة، تجعل من “الاقتصاد الثقافي” للتمور إطاراً مرجعياً يحفظ التوازن بين السوق والاحتياجات المجتمعية.
  فهل يمكن صياغة نموذج لمخطط في إطار الجيل الجديد لبرامج التنمية الترابيّة الذي دعا إليه جلالة الملك محمد السادس، يحول التمور من مجرد سلعة تصديريّة؛ إلى وعاء للهوية ومصدر للقوة الناعمة، دون التضحية بالاستدامة والمرونة اللازمة لمواجهة تحديات المستقبل؟

* نبذة موجزة حول الدكتور شَنْفَار عَبْدُ اللَّه؛
مفكّر وباحث مغربي متخصّص في العلوم القانونيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، وناشط في الرصد والتحليل السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والبيئي.
له عدة إسهامات فكريّة ومقالات تحليليّة ترصد التحوّلات المجتمعيّة وتقدّم قراءات نقديّة للتحديات الراهنة في المغرب والعالم العربي والإسلامي، من أبرز مؤلفاته: الإدارة المغربية ومتطلبات التنمية (2000). الفاعلون المحليّون والسياسات العموميّة المحليّة (2015)، والفاعلون في السياسات العموميّة الترابيّة (2020).

إيطاليا تلغراف


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...