ترامب النرجسي ونتنياهو الفاشي… التحالف الأمكر

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

سوسن جميل حسن
كاتبة وروائية سورية.

 

 

غالباً ما يُوصف الرئيس الأميركي دونالد ترامب بأنه يمتلك غطرسةً مفرطةً، فتصريحاتُه المبالغ فيها، وابتهاجه غير المخفي بالإعجاب بنفسه، تجعل منه نموذجاً نمطياً للنرجسية. ومعروفٌ أن النرجسية تمتلك سماتٍ نمطيةً مثل الأنانية والغرور ونقص التعاطف، والتقليل من شأن الآخرين، وغرامه بالظهور ولفت الأنظار، ومساره الذي تميز بتصريحات مبالغ فيها، وعلاقته مع وسائل الإعلام، وغيرها. يصوّر نفسه عبقرياً لا يُنافس، ولا يتخيّل نفسه إلّا منتصراً وفائزاً. فبعد هزيمته في 2020، أصرّ قائلاً: “لقد فزت بهذه الانتخابات، وبفارق كبير”، رافضاً ومنكراً فوز غريمه جو بايدن حينها للحفاظ على صورته فائزاً. فهو مهووس بالسلطة، يرى نفسه دائماً أجمل وأكثر ذكاءً وأكثر قوة ممّا هو عليه في الواقع، ولم يتوانَ عن تصريحات مثل “أنا الوحيد القادر على حلّ كل شيء”. خلال خطاب تنصيبه (2017)، وصف الولايات المتحدة بأنها دولة “مهدّمة” سينقذها بمفرده، وهو انعكاس لرؤيته البطولية لنفسه. أمّا تبجّحه الدائم وتذكير العالم بأنه أنهى سبعة حروب (وتصريحاته أخيراً تشير إلى إنهاء تسعة، وليس سبعة فقط)، فهذا مؤشّر على رؤيته الذاتية لنفسه صانعاً للبطولات. كذلك يربط باستمرار مشكلاته القانونية بـ”الاضطهاد السياسي”، محوّلاً الإخفاقاتِ دليلاً على عظمته المضطهدة، وهذه سمة من سمات النرجسية أيضاً. لقد وصف المحكمة العليا بأنها “غير شرعية” عندما حكمت ضدّه.

يُجسّد دونالد ترامب النرجسية السياسية بأوضح صورها: يرى نفسه عبقرياً لا يُنافس، وفائزاً حتى في الهزيمة

دونالد ترامب، رئيس أقوى دولة، فاقد للتعاطف الإنساني ويتيح لنفسه سحق الآخرين من دون أيّ شعور بالذنب، فهو رجل الأرقام والبازارات والصفقات. ومنذ عودته إلى السلطة (لولاية ثانية) نرى العالم يتغيّر بطريقة متسارعة ومقلقة، وأكبر مثال كيف أديرت الحرب على غزّة وتفاقم العنف والهمجية الإسرائيلية اللتين يباركهما، فدعَم إسرائيل إلى الحدّ الذي دمّرت فيه القطاع بالكامل تقريباً، ولم يتوقّف دعمه العسكري أو السياسي، حتى وصل الأمر إلى الحدّ الذي يكاد يقضى فيه على معظم الفلسطينيين في غزّة، وازدادت المظاهرات الشعبية المناصرة غزّة التي تطالب بوقف الحرب ورفع الحصار وإيقاف التجويع، المظاهرات التي باتت تشكّل ضغطاً على حكوماتها، وتصويت مجلس الأمن على حلّ الدولتَين في لحظة فارقة، لم يبقَ فيها ما يجعل من حلّ الدولتَين أمراً ذا جدوى، خصوصاً مع تقليص مساحة الضفة الغربية وتمدّد المستوطنين فيها بتشجيع من الحكومة الحالية التي يدعمها ترامب، ومع دفع اليمين المتطرّف المستوطنين للمضي قدماً في استيلائهم على أراضي الفلسطينيين.
صانع السلام ومروّض الحروب المصاب بجنون العظمة دونالد ترامب أنهى (13 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي) جولة فخرية انتصارية استمرّت نحو 12 ساعة، حظي معها بتحية حارّة من الكنيست، بل وقف النواب الإسرائيليون له مرّات كثيرة. هتفوا باسمه، وصفّقوا له بحرارة وفرح، وهتف عشرات الآلاف باسمه في ميدان الرهائن بتل أبيب، وتلقّى تصفيقاً من حوالى 20 قائداً حضروا من أنحاء العالم إلى شرم الشيخ، وهناك أكّد: “الحرب انتهت”، لكن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قال: “لا يزال علينا كتابة التاريخ مع مراحل مقبلة عديدة، لذلك يجب التحلّي بكثير من التواضع”.
بموجب خطة ترامب “الرئيس الذي لم ينجب العالم مثله”، انسحب جيش الاحتلال من عمق محافظات قطاع غزّة إلى ما يعرف بـ”الخط الأصفر”، الذي يمنح (مؤقّتاً) إسرائيل السيطرة على ما يقرب من نصف أراضي غزّة، بالإضافة إلى معبر رفح على الحدود المصرية، لكن لم تتوقّف الانتهاكات الإسرائيلية على امتداده، ولم تستطع الكتل الصفراء الخرسانية أن توقف إطلاق النار والقصف، كما ينصّ اتفاق وقف إطلاق النار، المفترض أنه بدأ في 10 الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الثاني). إذ لا تزال غزّة تشهد مقتل نحو 20 فلسطينياً يومياً، منهم من يُقتلون بالقرب من الخطّ الأصفر، وهذا يمنع نازحين كثيرين من العودة إلى المنطقة الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية.
وفي واقع قطاع غزّة اليوم، يقدّر حجم الدمار ما بين 50 إلى 70 مليون طنّ من الركام، ونحو 20 ألف جسم متفجّر لم يُعالج بعد، إضافة إلى دمار البنى التحتية والمرافق العامة وأهمها المدارس والمشافي، وغير ذلك ممّا يعجز الوصف عن حصره، خصوصاً في هذه المقالة، ولكن يمكن القول إنّ الاحتلال يحوّل قطاع غزّة مكاناً غير قابل للعيش. واليوم ترحّل الحكومة الإسرائيلية ركام الحرب من هذه المنطقة (شرقي الخطّ الأصفر)، وترميه في المساحة الباقية من القطاع، المساحة المدمّرة التي لا تعادل أكثر من نصف مساحة القطاع قبل الحرب والتهجير. إن كان الخطّ الأصفر إجراءً مؤقتاً أنشئ كإلهام من خطّة ترامب، فإن المؤقّت لا يلبث أن يصبح دائماً بالنسبة لتاريخ الاحتلال وطرائق وذرائع سيطرته على أراضٍ فلسطينية، وأراضٍ أخرى من الدول المجاورة، كما حصل في سورية بعد 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024، وكما يحصل في جنوب لبنان. وانسحاب الجيش الإسرائيلي من الخطّ الأصفر إلى مواقع أقرب إلى حدود غزّة يعارضه الجناح اليميني في الائتلاف الحاكم لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو. ليس هذا فحسب، بل ستستمرّ المماطلة زمناً طويلاً على ما يبدو، في طيّ المرحلة الأولى والدخول في الثانية بموجب الخطّة الترامبية.

بين جنون العظمة لدى ترامب وتطرّف نتنياهو، تُطحن غزّة وتُدفن إنسانية العالم

تعمل إسرائيل على ترسيخ هذا الوضع القائم، إضافةً إلى عرقلة دخول المعدّات من أجل ترحيل الركام، عدا اختراق وقف إطلاق النار اليومي، والسيطرة على كمّية المساعدات الداخلة، ما يعني استمرار الجوع ونقص الرعاية الصحية… هذا كلّه يحاصر الباقين في قيد الحياة من الغزّيين. تؤدّي هذه الظروف القاهرة للحياة والكرامة الإنسانية، إذا ما استمرّت طويلاً، مع الزمن إلى تناقص تعداد السكّان وتراجع الولادات. هذا ما أثبتته التجارب العلمية، ومنها على سبيل المثال دراسة “الكون”، التي أجراها جون كالهون بهدف دراسة تأثير الاكتظاظ السكّاني في ظلّ موارد متناقصة وظروف عيش تضيق مع الوقت، فوضع مجموعة من الفئران في بيئة مثالية، إنما لم يدعمها أو يدعم مواردها، ما أدّى إلى سلوكيات غير طبيعية وانهيار اجتماعي، وفي النهاية إلى انقراض الفئران بسبب إحجامها عن التكاثر والولادات.
قد يبدو الكلام قاسياً، والأفق وفقاً لهذ التجربة أسود، لكن من المعروف أن الفئران هي أكثر الكائنات استخداماً في التجارب العلمية والمخبرية. ما يفعله نتنياهو في مراحل الحرب كلّها على غزّة قريب من هذا الهدف في مجمله. منه ما كان علنياً بكل فجور وتحدٍّ للقوانين الدولية والمحاكم الدولية واتفاقيات الأمم وشرعة حقوق الإنسان، وذلك بآلة حربه المدعومة أميركياً، وعلى نحوٍ مبطّن بتضييق الحياة على سكّان القطاع. فبعد أن حوّله خراباً، يرمي ما خلّفته حربه اللعينة من دمار إلى النصف الباقي من مساحة القطاع ليزيد بالعراقيل التي ستواجه إعادة الإعمار، ما سيجعل غالبية سكّان القطاع يعيشون فترات طويلة في هذه الظروف غير الملائمة للحياة الإنسانية، وبالتالي تتراجع نسبة الولادات. إن بناء الخطّ الأصفر بهذه الكتل الخرسانية، وعرقلة الانتهاء من المرحلة الأولى، وحجّته الحالية أن “الخطّ الأصفر سيبقى سارياً طالما لم تطلق “حماس” جميع الرهائن”، وستلحقها حجج أخرى، بينما الزمن يمرّ ثقيلاً حارقاً قاهراً للفلسطينيين، وبمباركة ترامب المتغطرس الذي يبهره الأقوياء بأفعالهم المعادية للإنسانية، هي إحدى أساليب “التعقيم” الذي يمارسه على الشعب الفلسطيني في غزّة.
أمّا ترامب، فهو الضامن والداعم والظهير الأيمن والأيسر لنتنياهو، والذي يحمي خطوطه الخلفية، بما أن حلمه بتحويل غزّة إلى “ريفييرا الشرق” لم يمت، إنما صمت عن الحديث عنه فحسب، وإنّ إنهاء الحروب “وفق رؤاه وطريقته”، الخطاب الذي صدّع رأس العالم به، فإنّ نرجسيته التي تمحو الحدود بينها وبين جنون العظمة، لن تجعله يتراجع في دعم نتنياهو في اندفاعه المستعر في الوصول إلى هدفه، علّه يجني ثماره الشريرة قبل محاكمته التي توسّط له فيها دونالد ترامب لدى الرئيس الإسرائيلي.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لجريدة إيطاليا تلغراف


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...