الأمان العام كخيار استراتيجي: قراءة في خطاب العفو والمصالحة وعيد الوحدة الوطنيّة بالمغرب
* الدكتور عَبْدُ اللَّه شَنْفَار
* من دار أبي سفيان إلى جغرافيا الروح.. كيف تُعيد الملكيّة بالمغرب إحياء “العهد النبوي” في إدارة وتدبير الحكم؟
ليست العبارات السياسيّة مجرد كلمات تُلَقى، بل هي إعلانات وجود. حين يعلن جلالة الملك محمد السادس أن “من دخل تراب المملكة المغربية فهو آمن”، فإنه لا يقدم ضمانًا أمنيًا يشمل عفوا عاماً للمغفرة والرحمة الوطنيّة؛ بقدر ما يطلق مشروعًا فلسفيًا لإعادة تعريف مفهوم الدولة.
هنا، حيث يلتقي الشرع الديني بالحكمة السياسيّة، لا يعود الأمان مجرد حالة قانونيّة، بل يصير عقدًا أخلاقيًا بين الوطن وأبنائه.
* أولًا: الأمان كمساحة روحيّة قبل أن يكون حدودًا جغرافيّة
لم يكن استدعاء العبارة النبوية “من دخل دار أبي سفيان فهو آمن” بريئًا. فالملك أمير المؤمنين هنا لا يذكرنا بتاريخ الإسلام فحسب، بل يعيد تشكيل هندسة السلطة نفسها.
فالأمان العام في التصور الملكي يصبح فضاءً دينيًا قبل أن يكون قرارًا سياسيًا، ومسئولية أخلاقيّة قبل أن تكون إجراءً أمنيًا.
هذا التحول الجوهري من “خطاب السيادة” إلى “خطاب الرحمة والمغفرة الوطنيّة” يمثل نقلة حضاريّة في فلسفة الحكم. فالدولة التي كانت تقيس وجودها بقدرتها على التحصين، تُعيد اليوم تعريف نفسها عبر قدرتها على الاحتضان.
* ثانيًا: الزمن كفاعل استراتيجي: ما قبل وما بعد 31 أكتوبر 2025
عندما يرسم جلالة الملك حدودًا زمنيّة في تاريخ الأمة، فهو لا يعلن عن مرحلة جديدة بقدر ما يخلق وعيًا جديدًا بالزمن. “ما قبل 31 أكتوبر 2025 وما بعده” ليست مجرد إشارة تاريخيّة، بل هي استدعاء لفلسفة التاريخ المغربي الذي يعيد كتابة مستقبله بلغة المصالحة لا المواجهة.
هنا يتحول الزمن من إطار زمني إلى أداة استشرافية. فالمغرب لم يعد يسأل عن “كيف نحمي ونحصن حدودنا” بل “كيف نوسع دائرة انتمائنا”.
* ثالثًا: المواطنة كمساحة للوجود لا للإقامة
“لا فرق بين العائدين من مخيمات تندوف وبين إخوانهم داخل أرض الوطن”؛ هذه العبارة تشكل نقلة أنطولوجيّة في مفهوم المواطنة. فلم تعد المواطنة مجرد وضع قانوني، بل أصبحت فضاءً وجوديًا يستوعب كل التناقضات والتجارب.
المواطنة هنا تتحول من “هوية جامدة” إلى “رحلة ديناميكيّة”. الوطن لم يعد مكانًا نعيش فيه، بل هو المساحة التي نعيش من أجلها.
* رابعًا: من جغرافيا الأرض إلى جغرافيا الروح
عندما يقول جلالة الملك: “من طنجة إلى لكويرة”، فهو لا يذكرنا بمساحة جغرافيّة، بقدر ما يستدعي ذاكرة روحيّة. هذه العبارة التي تذكرنا بروح المسيرة الخضراء ومبدعها الزعيم الروحي للمغاربة؛ المرحوم الحسن الثاني طيب الله ثراه؛ لم تعد مجرد تعبير عن الوحدة الترابيّة، بل أصبحت تعبيرًا عن اكتمال الذات الوطنية.
الحدود هنا تتحول من خطوط تفصل إلى مساحات تجمع. فالمغرب لم يعد موقعًا على الخريطة، بل أصبح حالة في الوعي.
* خامسًا: الحكم الذاتي كفلسفة وجودية
ليس الحكم الذاتي مجرد حل سياسي في الخطاب الملكي، بل هو رؤية فلسفية لكرامة الإنسان. فتحويل القضية من “صراع سياسي” إلى “مشروع تنموي” يمثل نقلة في فلسفة الدولة.
هنا تتحول القضية من سؤال عن “السيادة” إلى سؤال عن “الكرامة الوجوديّة الإنسانية”، ومن جدال حول “التبعيّة” إلى حوار حول “المشاركة”.
* الخلاصة: الأمان كفعل ثوري
في زمن تتحول فيه الحدود إلى جدران، والسيادة إلى حصون، يقدم الخطاب الملكي رؤية مضادة: الأمان كخيار استراتيجي، والاحتواء كقوة ناعمة.
فمن دخل تراب المملكة المغربية فهو آمن؛ ليست مجرد وعود سياسيّة جوفاء أو غادرة، بل هي إعلان عن مغرب جديد: مغرب لا يخاف على حدوده من تطاول أحد عليها؛ لأنه واثق من روحه، ولا يخشى على سيادته لأنه متصالح مع ذاته.
هنا، حيث تلتقي الحكمة النبوية بالرؤية الملكيّة، يصبح الأمان لا مجرد حالة نعيشها، بل هو الهوية التي نختارها. فالدولة القوية ليست التي تبني الأسوار، بل التي تفتح الأبواب.
وفي عيد الوحدة الوطنيّة والمصالحة، يصبح الأمان العام هو اسم الوطن، ويصبح الوطن هو معنى الأمان.
* نبذة موجزة حول الدكتور شَنْفَار عَبْدُ اللَّه؛
مفكّر وباحث مغربي متخصّص في العلوم القانونيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، وناشط في الرصد والتحليل السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والبيئي.
له عدة إسهامات فكريّة ومقالات تحليليّة ترصد التحوّلات المجتمعيّة وتقدّم قراءات نقديّة للتحديات الراهنة في المغرب والعالم العربي والإسلامي، من أبرز مؤلفاته: الإدارة المغربية ومتطلبات التنمية (2000). الفاعلون المحليّون والسياسات العموميّة المحليّة (2015)، والفاعلون في السياسات العموميّة الترابيّة (2020).





