آفي شلايم: يهودي عراقي يستعيد هويته

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

سنان أنطون
كاتب عراقي

 

 

كيف تحولت مقولة وهوية «العربي اليهودي» من حقيقة واقعة، متّسقة مع ذاتها ومحيطها، لا جدال فيها، ولا على تاريخها العريق، إلى ما يظنّه الكثير اليوم طرفيْ نقيض، لا يجوز الجمع بينهما، بل قد يبدو مستحيلا؟
في 12 سبتمبر 1945، السنة التي ولد فيها آڤي شلايم، مؤلف كتاب «ثلاثة عوالم: مذكّرات يهودي عربي» (صدر بالإنكليزية العام الماضي) قدّمت مجموعة من اليهود العراقيين الشيوعيين، طلبا إلى وزارة الداخلية لتأسيس «عصبة مكافحة الصهيونية في العراق» وكانت أوّل منظمة لمكافحة الصهيونية في المنطقة. وما دفع مؤسسيها إلى المبادرة بتنظيم صفوفهم والبدء بالتوعية والنضال ضد الصهيونية، هو إدراكهم الأخطار الكارثية المحدقة، لا بفلسطين وحدها فحسب، بل الأخطار التي تهدد وجود ومصير اليهود العراقيين وغيرهم في المنطقة، وما سيترتب من تبعات إذا تغلغلت الصهيونية وحققت أهدافها. فمعظم يهود العراق كانوا يرون أنفسهم عراقيين أولاً، كما يؤكد المؤلف، وكانوا يخشون عواقب إنشاء دولة يهودية.

أصدرت العصبة الكراسات والكتب وعقدت الكثير من الاجتماعات والمؤتمرات وانضم إليها اليهود من مختلف أنحاء العراق، وأصدرت صحيفة «العصبة». في 28 يونيو 1946 نظم حزب التحرّر الوطني وعصبة مكافحة الصهيونية مظاهرة احتجاجا على الظلم في فلسطين. اعتدت الشرطة على المظاهرة فجرحت كثيرين وقتلت خمسة متظاهرين، من بينهم أحد أعضاء العصبة شاؤول طويق (1928-1946) الذي كان طالبا، وهو أول شهيد شيوعي في العراق. صدرت أحكام بالسجن ضد أعضاء العصبة وقرار بحظرها. يذكر شلايم أنه حين سأل والدته إن كان لديهم أصدقاء صهاينة، أجابته بحزم: «الصهيونية شيء أشكينازي، لا صلة له بنا» كان الهدف الأساسي للصهيونية على أرض فلسطين واضح المعالم، وبُحّت الأصوات التي حذّرت من الكارثة التي حلّت في 1948. حولت الصهيونية معظم الفلسطينيين إلى لاجئين واقتلعهم من أرضهم، لكنها، كما يذكر المؤلف أيضا، حولت اليهود العرب بين ليلة وضحاها إلى أجانب وغرباء في بلادهم وماهت، أو كادت تماهي، بين اليهودي/ـة والصهيوني/ـة. وفي العراق تحديدا، بعد أن فشلت الحركة الصهيونية في استمالة يهود العراق وإغرائهم بالهجرة إلى فلسطين – باستثناء أعداد ضئيلة – لجأت إلى أساليب إرهابية. فزرع عملاء الموساد في العراق القنابل وهاجموا المصالح والشركات التي كان يملكها اليهود العراقيون وأحد المعابد، لبثّ الرعب بينهم في 1950 – 1951.

ظلّ اليهود العراقيون عقودا يحمّلون الصهاينة مسؤولية هذه الجرائم التي يوثقها شلايم، بما لا يقبل الشك في فصلٍ أفرده لها في هذا الكتاب بعنوان «قنبلة بغداد». وتواطأ النظام الملكي الرجعي في العراق آنذاك في سنّ قوانين تضيّق الخناق على اليهود العراقيين، وتشرّع وترسّخ التفرقة ضدهم، لدفعهم إلى الهجرة، في عهد نوري السعيد (1888- 1958) الذي لا يفوّت الليبراليون العراقيون اليوم فرصة لتمجيده كرمز لنزاهة وانفتاح ووطنية العهد الملكي ورجاله وسياساته، لكن يتطلب كل هذا إغفال سجل حافل بالجرائم، لا تسقط آثارها بالتقادم ولا بفداحة جرائم العهود التي تليها. وتلعب منصّات معروفة في منظومة الإعلام العربي السائد دورا خبيثا في تنزيه الملكيّات العراقية والمصريّة وشيطنة الأنظمة الجمهورية.
إن الصهيونية أيديولوجية أوروبية المنشأ والأفق ومركزها وبؤرتها الذات الجمعية اليهودية الأوروبية حصرا، ولم يكن اليهود العرب، وغير الأوروبيين عموما، على خريطتها، أو على سلم أولوياتها أصلا، حتى إن استقدامهم في ما بعد إلى فلسطين كان أداتيّا بحتا وللحاجة إلى رأسمال بشري. وكان هناك امتعاضٌ وتردّدٌ في الجدالات التي تنضح عنصرية بين النخب الصهيونية الأشكنازية من عواقب استقدام يهود شرقيين يرون على أنّهم سيجلبون معهم التخلّف والأمراض. يظل الجرح الأعمق في ذاكرة اليهود العراقيين الجمعية، بعد تهجيرهم، هو قيام السلطات في إسرائيل برشهم بالمبيدات بعد هبوط الطائرات التي كانت تقلهم من العراق. كان شلايم، مؤلف هذا الكتاب المهمّ، طفلا في الخامسة من عمره، حين هاجرت عائلته إلى فلسطين. ولم يكن اسمه آڤي، آنذاك، بل أبراهام. لقد دفع اليهود العراقيون والعرب والشرقيون عموما، أثمانا باهظة بعد نزوحهم. فإضافة إلى خسارة وطنهم وبيوتهم وممتلكاتهم، كان عليهم أن يتأقلموا مع مجتمع عنصري تحكمه تراتبية تتربع على قمتها الثقافة الأوروبية التي تزدري ثقافتهم وعاداتهم وطقوسهم. كانت ضريبة الاندماج والانتماء هي الانسلاخ الثقافي المؤلم، الذي يبدأ بتغيير الأسماء، ويتطلّب فقدان الذاكرة أو طمسها وإسكات أصواتها، وتمثُّل قيم المجتمع الجديد. التمثّل الذي قد يصل أحيانا إلى كره الذات والشعور بالعار والتنصل من ماضٍ يتعارض مع السردية الصهيونية الأوربية التي تُهيكل الأسطورة القومية وإنكاره. فلم تكن هذه البلاد المسروقة «فردوسا موعودا» لليهود العرب والشرقيين، كما هي للأوروبيين الهاربين من محرقة، ومن غربٍ ظَلَّ يكرههم ويلاحقهم بشراسة وصدّر عنصريته إلى بلادنا وثقافتنا التي يُسقِط عليها اليوم عنصريته المتجذّرة. أجبر معظم اليهود العراقيين على ترك «جنّة مال الله» وراءهم. ولم يسمح لهم بأن يحملوا معهم من تلك الجنة إلا الحقائب. لكنهم حملوا ذاكرتهم وتاريخهم وهناك من حافظ عليه وحماه مما قد يشوهه أو يطمسه.
آڤي شلايم هو من المؤرخين الجدد الذين ظهروا في إسرائيل، ومن أهم مؤرخي الشرق الأوسط عموما، وفي سجلّه العديد من الدراسات الرصينة والمتميّزة، من بينها على سبيل المثال: «تواطؤ عبر نهر الأردن: الملك عبد الله، والحركة الصهيونية، وتقسيم فلسطين» (1988) و«إسرائيل وفلسطين: إعادة تقييم، ومراجعة، وتفنيد» (2010). في «ثلاثة عوالم» الذي بين أيدينا، يعود هذا المؤرخ البارع الذي أمضى عمرًا ينقّب في الأرشيف والوثائق، يشكّك في السرديّات السائدة، يعود إلى بغداد، ليصطحب الطفل الذي كانه، وأفراد عائلته، ويقتفي خطاهم في خروجهم القسري الأليم من المدينة التي عاشوا فيها حياة مترفة وهانئة. يستعيد شلايم الماضي الشخصي والعائلي بدقة وحرص المؤرخ، ويضعه في سياق تاريخي واجتماعي أوسع لا يغفل تأثير الانحدار الطبقي، سلبا وإيجابا. لكن ما يميّز هذه المذكّرات هي الحساسية والمكاشفة التي لا تهادن، سواء في ما يخص الصعوبات التي واجهتها العائلة، أو تلك التي واجهها الكاتب في طفولته، وعلاقته المعقدة بأبيه الذي آثر الصمت، ولم يُشفَ من غربته واقتلاعه. لا يخفي شلايم تأثره في شبابه بشتّى الضغوط المجتمعية والسياسية، وانجذابه المؤقت لليمين الصهيوني، ويستعيد التحولات التي طرأت على قناعاته وخياراته السياسية التي انتهى بها الأمر على الضفة الأخرى من الصهيونية والأساطير المؤسِّسة لإسرائيل، فلم يتردد في تصنيفها كمشروع استيطاني استعماري ودولة نظام تفرقة عنصرية. استعاد شلايم هويته وكينونته عربيّا يهوديا، يفتخر بجذوره وبثقافة غنيّة وماضٍ عراقيٍّ تُمدِّنا إشراقاته بما قد يضيء السبيل والمسرى. صدر هذا الكتاب بالإنجليزية قبل أشهر من حرب الإبادة التي أزهقت فيها آلة الحرب الصهيونية أرواح عشرات الآلاف من الفلسطينيين ودمّرت مقومات الحياة في غزّة. ولم يكن مفاجئا أن يؤكد شلايم في أكثر من محفل ومناسبة، أنها ليست حربا بين حماس وإسرائيل، كما تردّد وسائل الإعلام الغربية، بل هي حرب كبرى يشنها الاستعمار الاستيطاني الصهيوني، المدعوم من قبل الإمبريالية الأمريكية، ضد الشعب الفلسطيني. ويؤكد أن الواجب الأخلاقي يحتم عليه أن يندد بالإبادة ويقف مع الفلسطينيين ويتضامن معهم في نضالهم من أجل الكرامة والحرية والاستقلال.

مقدّمة لكتاب يصدر قريباً.

 

 


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...