قراءة في انعطافة أردوغان نحو دمشق

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

ذ.غسان الاستانبولي
كاتب وباحث سياسي سوري

 

 

“أريد أن ألتقي الرئيس السوري بشار الأسد”، يبدو أن هذه اللازمة، باتت هي الوحيدة الموجودة على إسطوانة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
بطبيعة الحال، لا أحد ينكر أن عودة العلاقات السورية التركية إلى طبيعتها هي مصلحة مشتركة لكلتا الدولتين، بصرف النظر عن نوعية المصلحة أو مقاييسها، حيث تراها دمشق، بل مقياسها الأول فيها، هو المصلحة السورية بشكل عام، دولةً وشعبا،ً بينما مقياس أنقرة فيها هو ما يمكن أن تقدمه للنظام التركي الحاكم من وسائل نجاة، بعد إخفاقاته المتتالية، لذلك يتباين أسلوب العمل لكلتا الدولتين، وهنا ما من شكّ، أن القارئ الواقعي لسياسة كلّ من دمشق وأنقرة حيال موضوع الطرح التركي لعودة تلك العلاقات، يلاحظ بوضوح الفارق الجوهري بين طريقة طرح أردوغان لموضوع إعادتها، وبين طريقة طرح القيادة السورية، إذ أن الرئيس التركي يعتقد أن تنقية العلاقات يبدأ من لقائه مع الرئيس الأسد، وهذا خطأ فادح ومعرّض للفشل بنسبة هائلة، لأن القضايا التي تراكمت بين الدولتين خلال سنوات الحرب التي فرضت على سوريا، والتي كان لتركيا دوراً مدمّراً بها، أصبحت بالعشرات وحلولها ليست سهلة، كما تولدت بين الدولتين مئات الأسئلة التي تحتاج إلى أجوبة، والأهمّ من ذلك انعدام الثقة السورية بالرئيس التركي، وهذا كله يحتاج إلى معالجة قبل اللقاء، لأن الفشل بحلّ أيّة قضية عالقة قد يعيد الأمور إلى المربع الأول، أما القيادة السورية، وتجنباً لفشل هذا الملف، تطرح طريقة مغايرة تماماً، تبدأ من معالجة القضايا العالقة مع تركيا، ومن ثم الإجابة على كافّة التساؤلات بشكل مكتوب وبضمانة روسية إيرانية، ومن ثم يكون الطريق إلى لقاء الرئيسين أصبح سالكاً، وقد يكون التنازل الكبير الذي تقدمه دمشق في هذا السياق، هو أن يحصل لقاء القمّة بعد أن يقطع أردوغان شوطاً كبيراً، وبشكل عملي في حلّ تلك القضايا، ويتعهد باستكمال ما بدأه، وبشكل مكتوب ومضمون.

ما من شكّ القيادة السورية، وبما تملك من إرث سياسي ودبلوماسي، زادته سنوات الحرب خبرة وقوّة، ستكون بارعة بالتعامل مع مثل هذه الانعطافات وهذه التغيرات، وهي تدرك أن مُجمل الظروف الداخلية والإقليمية والدولية باتت تصبّ في صالحها، بما في ذلك الإلحاح الروسي لعقد قمّة سورية تركيا، باعتبارها تمثّل مصلحة روسية أيضاً، وهذا الإلحاح قابله الرئيس الأسد بموقف رافض وثابت، إذ لا قمّة قبل تحقيق الشروط السورية، الشيء الذي جعل موسكو تعطي أنقرة أسبوعاً واحداً فقط، لكي تنهي ملف جميع الفصائل في الشمال السوري، وإلّا فستتولى هي ودمشق هذه المهمة، كما أن القيادة السورية تدرك أن أردوغان يسابق الوقت، لتلافي انفجار القنبلة البشرية السورية، أو التركية، أو كلتيهما معاً، والتي قد يسرّع انفجارها عاملان، أولهما التوترات الحاصلة بين تركيا وبعض الفصائل التي كانت مدعومة منها، وهذه التوترات تنعكس مباشرةً على التعامل بين الشارع التركي وبين النازحين السوريين، وثانيهما تقليص الدعم الأممي للنازحين السوريين في تركيا، ليصبح حوالي ربع ما كان يقدم سابقاً، وهذا ما لا طاقة للحكومة التركية على حمله، خاصّة في ظلّ الاقتصاد التركي المتراجع، يُضاف إلى أعباء أردوغان عبآن أساسيان، الأول هو تدهور شعبية حزب العدالة والتنمية، أمام صعود كبير لحزب الشعب الجمهوري المُعارض، وهذا التدهور إذا استمر فسيعني انتهاء المستقبل السياسي لأردوغان ولحزبه معاً، ما يعني أيضاً أن مسمار آخر دُقّ في نعش التنظيم العالمي للإخوان المسلمين، الذي نصّب أردوغان خليفة ورئيساً وأباً روحياً له، وبالتأكيد ستكون لهذا المسمار نتائج كارثية على التنظيم، ولذلك سيعمل أردوغان بكلّ قواه للتقليل من نتائجه، ولكي ينجح بذلك فهو بحاجة لإنجاز كبير، مثل إعادة العلاقات مع سوريا، أمّا العبء الثاني فهو الموضوع الكردي في شمال سوريا، إذ أصبح واضحاً أنه، وفي ظلّ الرفض السوري والعالمي لأيّ عمل عسكري تركي ضدّ الأكراد في سوريا، وصل أردوغان إلى قناعة تامّة بأن الدولة السورية هي الوحيدة القادرة على ضبط هذا الملف، لاسيّما أن مشروع الانفصال الكردي بات مرفوضاً من معظم دول العالم، بما فيها الولايات المتحدة الأميركية، وقد يكون الكيان الصهيوني هو الوحيد الذي يدعم هذا الانفصال، وهذا ما سيجعل عمل دمشق على هذا الملف ناجحاً ومضموناً، كونه ملفاً وطنياً سورياً خالصاً.

بالتأكيد دمشق تتمنى عودة العلاقات مع تركيا إلى وضعها الطبيعي وبأسرع وقت ممكن، كون ذلك سيؤمّن عودة النازحين السوريين إلى ديارهم، كما يؤمّن الهدوء لحدود طويلة ومناطق واسعة، والأمر الآخر فإن هذا التقارب سيكون عاملاً مهماً في دعم الاقتصاد السوري، وخاصّة من خلال فتح المعابر والتبادل التجاري، كما سيكون خطوة كبيرة لبداية إعادة الأعمار.
وبانتظار أن تتبلور النوايا التركية الحقيقية، فدمشق التي نصبت موازين دقيقة، تمنح من خلالها أولوليات للعائدين إليها، وأبدت براعة في ترتيب دور العائدين، بدليل أنها حتى الآن لم تمنح شرف العودة لدول كبرى مثل الكثير من الدول الغربية، ولدول صغيرة مثل دولة قطر، ودمشق ذاتها تراقب الآن السباق بين أردوغان والمعارضة للوصول إليها، مع أن ثقتها بالمعارضة ليست أفضل حالاً من ثقتها بأردوغان، ولكنها تترك الجميع يجري نحوها، والكلّ سيخضع لموازينها الوطنية، والكلّ سيلتزم بنتيجة تلك الموازين.
ويبقى السؤال الذي لا يجرؤ أحد في تركيا على طرحه، هو: هل سيكون للجيش التركي رأي آخر؟، ربما.

إيطاليا تلغراف

 


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...