د.محمد كريم بوخصاص
لم يكن حوار وزير الدولة السابق، المصطفى الرميد، ليمرّ مرور الكرام داخل حزب العدالة والتنمية، الذي يعاني منذ إعفاء عبد الإله ابن كيران من تشكيل الحكومة في عام 2016 من أزمات متتالية، ويُحاول البقاء صامدا رغم الضربات التي تلقاها من الداخل أو الخارج، متظاهرا بالتماسك الداخلي، إلا أن الواقع يشير إلى تدهور مستمر.
الكثير من الأمور التي أثارها الرميد في حواره الصحافي الأخير كانت مواضيع لنقاشات ساخنة بين أعضاء الحزب، لاسيما في مواقع التواصل الاجتماعي. ولكن أكثر ما استرعى انتباهي في تصريحاته هو كشفه للعديد من الادعاءات التي لطالما تبناها الإسلاميون في تاريخهم السياسي الشفهي غير المكتوب، الذي صاغه ابن كيران باعتباره خطيبهم المفوه وقائدهم لأطول فترة، خاصة ما يتعلق بدور ابن كيران في نقلهم من العمل السّري إلى العلني وقيادته المراجعات التي سبقت اعتناقهم مذهب المشاركة السياسة.
شخصيا، في كل المرات القليلة التي طرحتُ فيها أسئلة على ابن كيران وحاولت فيها استقراء وجهة نظره في بعض قضايا الحزب بُعيد إعفائه، لاحظتُ أن جل ما يدور في ذهنه حين يتعلق الأمر بما وصل إليه الإسلاميون مرتبط بتقديم نفسه كأول من تواصل أو مهّد للتواصل مع القصر، وأول من اقتنع من الإسلاميين بالمشاركة. من يعرفون شخصية ابن كيران يُدركون أنه يَعتبر نفسه القائد الأبرز الذي قاد مراجعات كبرى، قطعت مع تجربة “الشبيبة الإسلامية” ورسخت لدى الدولة فكرة تغير الإسلاميين وإيمانهم بالعمل من داخل المؤسسات، والتخلي عن فكرة إقامة الدولة الإسلامية، والقطع مع السّرية والتحول إلى التنظيم العلني. كان ابن كيران دائما يؤكد على دوره في ترسيخ المشروعية السياسية منذ منتصف الثمانينات، حيث نشر مقالا في جريدة “الإصلاح” التي كان يديرها حول الإسلاميين والمشاركة السياسية عام 1989، وأيضا على كونه أول من تبنى فكرة الإدماج السياسي للإسلاميين.
في حواره الأخير، أظهر الرميد شخصية المؤسس الذي بدأ مشروع المشاركة، حيث تحدث كثيرا عن خروجه المبكر من تنظيم عبد الكريم مطيع، وعن تجربة التواصل مع وزارة الداخلية والكُفر بأفكار الشبيبة التي كان ابن كيران ويتيم وآخرون يدافعون عنها آنذاك، كما قال، ثم اقتناعه بجدوى المشاركة. هذا يتعارض مع ما سبق أن تحدث عنه ابن كيران في خرجاته بكونه كان سبّاقا إلى تبني هذا النهج، خاصة ما يتعلق بتجربته في الحوار والانفتاح على وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية خلال مشاركته في جامعة الصحوة الإسلامية التي نظمتها الوزارة برعاية الملك الراحل الحسن الثاني.
ما لا يعرفه كثيرون هو أن ابن كيران والرميد قبل أن يجتمعا في العدالة والتنمية ينتميان لحركتين إسلاميتين مختلفتين. صحيح أنهما بدآ مسارهما في الشبيبة الإسلامية، لكنهما افترقا لفترة قبل أن يعودا للالتقاء من جديد، فابن كيران كان من مؤسسي تنظيم “الجماعة الإسلامية” الذي سيصبح “حركة الإصلاح والتجديد”، بينما كان الرميد من مؤسسي “رابطة المستقبل الإسلامي”. هاتان الحركتان اندمجتا في عام 1996 لتُشكلا حركة التوحيد والإصلاح، ومن ثم ظهرت قصة حزب العدالة والتنمية المعروفة، بعدما التحق قادة الحركة بحزب الخطيب لإعلان ولادة نسخة جديدة منه تحت اسم “العدالة والتنمية”.
رغم أن فكرة التمايز بين الحركة والحزب تبقى شعارا أكثر من كونها واقعا لعدة أسباب لا يُسعف المجال لذكرها، إلا أن التعصب للتنظيم الأم بقي حاضرا بقوة. ويكفي أن القيادات التي تولت قيادة الحركة كانت بالتساوي بين التنظيمين حتى الآن.
على سبيل المثال، قاد الواجهة الدعوية للحزب حتى الآن أربعة رؤساء، اثنان ينتميان للرابطة التي كان ينتمي إليها الرميد (وهما الريسوني وشيخي) والآخران للإصلاح والتجديد (الحمداوي والرمال). هذا التناوب اللافت للنظر بين القيادات من التنظيمين يعكس على ما يبدو حرصا على التوازن الداخلي داخل الحركة، وهو ما لا تظهر معطيات تحققه داخل الحزب.
وعلى الرغم من دفاع أعضاء الحركة عن ديمقراطيتهم الداخلية وإفرازاتها، يبقى التناوب الداخلي الذي حدث داخل الحركة مثيرا للانتباه، فعندما يترأس قيادي من الجماعة الأولى الحركة، يأتي الثاني من الجماعة الثانية، وهكذا دواليك.
هذه الديناميكية الداخلية تكشف عن عمق التعقيدات والتوازنات التي تحكمت في الحزب دائما حتى إن حاول إخفاء ذلك، وتؤثر بشكل مباشر على مساره السياسي وتوجهاته المستقبلة، ولذلك ينبغي قراءة تصريحات الرميد وعودته للتاريخ ضمن هذا السياق، خاصة أنه بدا كأنه حريص ـ على الأقل كما ظهر من حماسته – على تصحيح الكثير من السّرديات التي روجها ابن كيران طيلة الأعوام الماضية، فضلا عن حرصه على تقديم قراءة جديدة لتاريخ الإيمان بالمشاركة السياسية.
هناك أشياء عديدة في تجربة إسلاميي المؤسسات جديرة بالانتباه، في مقدمتها إدماجهم واحتواؤهم من لدن القصر، ثم التعايش معهم لعشر سنوات كاملة في قيادة الحكومة في وقت كانت دول في الإقليم تقذف بهم في السُّجون وتُلاحقهم في المنافي، لكن من المؤكد أن تاريخهم الذي لم يكتبوه حول النشأة والتطور والمسار سَيُفجّر صراعا داخليا يفاقم متاعبهم، والبداية كانت برواية الرميد في انتظار ظهور روايات أخرى، والمتوقع أن دور البطولة لن يتقمصه ابن كيران وحده من الآن فصاعداً.
الأيام