ذ.محمد كريشان
كاتب وإعلامي تونسي
لا أحد يدري ما إذا كانت الانتخابات الرئاسية في تونس في 6 أكتوبر المقبل قادرة أم لا على إخراج أوسع الفئات الممكنة من الشعب، ولا سيما الشباب، من حالة الإحباط والاستقالة والعزوف عن المشاركة السياسية الفعّالة في تقرير مصير بلدهم ومن يحكمه.
لقد عكست نسب المشاركة في الانتخابات التي عرفتها تونس بعد ثورتها 2011 حماسة شعبية واضحة للانخراط في رسم الحياة السياسية الجديدة بعد عقود من الاستبداد. تجلّى ذلك في انتخابات أعضاء المجلس التأسيسي 2011 الذي صاغ الدستور الجديد للبلاد (51.5 % من الناخبين)، وكذلك في انتخابات البرلمان 2014 (68.3%) ثم انتخابات الرئاسة في 2019 (55% في دورتها الثانية).
ومع انقلاب الرئيس قيس سعيّد 2021 على الدستور الذي أتى به إلى الرئاسة، وأقسم على المصحف الشريف على احترامه، هوت نسب المشاركة في كل المواعيد الانتخابية التي دعا إليها سعيّد لتشكيل نظام سياسي جديد للبلاد. لم تقف الأمور عند حد الاستشارة الإلكترونية التي نظّمها فلم يشارك فيها سوى زهاء نصف مليون فقط، بل امتدت إلى التصويت على الدستور الجديد، الذي كتبه وحده، حيث بلغت نـسبة المشاركة 30%، التي شكّك فيها كثيرون. كذلك كان شأن انتخابات مجلس النواب الجديد عام 2022، الذي غابت عنه رائحة أي تنافس سياسي أو تشويق فخرج ممسوخا بلا هوية، حيث تجاوزت نسبة المشاركة في الدورتين بقليل 11% حتى اعتبرت الأدنى محليا ودوليا، وكذلك كان الأمر تقريبا في انتخابات مجلس آخر استحدثه سعيّد كغرفة ثانية للبرلمان ولا تعرف بالضبط صلاحياته إلى حد الآن.
ورغم الجدل الذي تثيره الانتخابات الرئاسية المقبلة، بين من يرى أنها تظل رغم كل شيء آخر ما بقي من محطة دستورية شرعية ستسمح للتونسيين بالتخلص من عودة حكم الفرد البغيض وآخرين يرونها انخراطا في مسار انقلابي يرفضون قبوله أو الاعتراف به، فإن نسبة المشاركة في هذه الانتخابات ستعكس إلى حد لا بأس به مدى «تعافي» التونسيين من الإعراض عن المشاركة في الحياة السياسية وتسليمهم الغريب بالأمر الواقع البائس الحالي.
ما يبدو، إلى حد الآن على الأقل، هو وجود تفاعل أوّلي واعد مع الانتخابات الرئاسية المقبلة، حتى وإن اتخذ شكل الاستهزاء والتنمّر تجاه بعض المرشحين، أو التضامن مع مرشحين وجدوا أنفسهم مقصيين من السباق سواء بوضعهم وراء القضبان أو بحرمانهم من حق التنقل والنشاط السياسي، أو بإحجام الإدارة على تسليمهم الوثائق المطلوبة لملف الترشح، أو عرقلة قيامهم بجمع التزكيات الشعبية المطلوبة.
وبناء على مستقبل هذا التفاعل في الأسابيع المقبلة ستتضح لمن ستؤول الكفة في النهاية: نحو المشاركة بحماس إيمانا بقدرة الصندوق على إيجاد واقع جديد بعد اتضاح أن سعيّد أخفق في الإيفاء بـ87.5 من الوعود التي قطعها للشعب وفق مسح شامل لمنظمة «أنا يقظ» الرقابية المستقلة، أم بالعكس نحو المقاطعة إذا ما اتضح نهائيا وبجلاء أن الرئيس سعيّد يريدها على المقاس، خاصة مع وضوح تشبثه الكبير بالسلطة واستمرائه خطاب التخوين وإقصائه للمرشحين الجدّيين بحيث لا يبقى في النهاية سوى من رضي بلعب دور الكومبارس، أو من لا حظوظ له أصلا منذ البداية، مستقويا بالهيئة العليا للانتخابات التي لا يخفي كثيرون شكّهم الكبير في استقلاليتها.
انتخابات الرئاسة في تونس أكتوبر المقبل ستكون نقطة مفصلية إما في اتجاه إعادة إحياء شغف التونسيين بالسياسة وضرورة المشاركة في صياغة واقعهم ومستقبلهم لتجاوز المرارة والخيبة اللتين خلفتهما في نفوسهم عشرية الانتقال الديمقراطي المتعثرة، أو في اتجاه مزيد من نفض اليد من السياسة، مشبع بالإحباط ومنذر في النهاية بعواقب لا أحد يقدّرها حق قدرها.
ما قد يزيد من خطورة الاحتمال الثاني استفحال ما يسميه الخبراء في العلوم السياسية والاجتماعية بالتعب أو الإنهاك السياسي لشرائح واسعة في المجتمع أدى إلى انعدام شهيّتها السياسية. يستوي في ذلك الناس العاديون والنخب والأحزاب والنقابات إلى حد اليأس من كل ما يحيط بها، بل وحتى من نفسها، وهو شعور يعبّد الطريق الأمثل أمام الاستبداد وحكم الفرد.
في دراسة مسحية بعنوان «الشابات والشبان في تونس» أجراها في مارس/ آذار العام الماضي أستاذ علم الاجتماع عماد المليتي لحساب مؤسسة «فريدريش إيبرت» الألمانية أظهرت البيانات إلى «أي مدى أصبحت الفسحة التي أتاحتها الثورة مغلقة بشكل نهائي وتؤكد مدى خيبة الأمل السياسية التي ولّدها انغلاق هذه الفسحة حيث إن الممارسات وأشكال المشاركة المختلفة المرتبطة بالمجال السياسي الراسخ لم تعد فقط تحظى باهتمام الشباب، بل يبدو أن أشكال العمل الجماعي الأخرى، سواء كانت احتجاجية أم لا، أصبحت بدورها الآن مرفوضة ولا فائدة منها».
استنتاج مخيف، وقد يصبح مرعبا، لو جاءت نتائج انتخابات الرئاسة المقبلة لتكرّسه ومعه حكم الفرد والاستبداد بعنفوان أقوى بحيث عوض أن تكون تونس أمام اقتراب نهاية نفقها الحالي نراها تزداد توغّلا في ظلامه الدامس.. يا ساتر.