ذ.عبد القادر الفرساوي
في قلب بالينثيا، حيث اختلطت رائحة الطين بروائح الحزن والغضب، وقفت المدينة التي أنهكتها الفيضانات، تنتظر شيئا أكثر من مجرد زيارات رسمية أو كلمات تعزية. كانت الأمطار الغاضبة قد تركت أثرها في كل زاوية، مبعثرةً بقايا الأحلام ومحيية أمل النجاة من جديد في قلوب أنهكتها الكوارث. وبينما كانت الغيوم تبتعد، جاء الملك فيليبي السادس وزوجته الملكة ليتيثيا، يرافقهما رئيس الحكومة بيدرو سانشيث ورئيس مجتمع بالينثيا كارلوس ماثون، ليقدموا ما استطاعوا من دعم ومواساة.
تلك الزيارة التي كان يُفترض أن تزرع شيئا من الأمل، تحولت سريعا إلى مشهد من الغضب الشعبي الذي غلّف الأجواء، حيث لم تكن الأصوات التي تصاعدت بين الجموع سوى صدى لجراح لم تلتئم بعد. “قتلة!”، صرخ أحد الرجال بصوت تخنقه الدموع، بينما امتدت يدٌ من بين الحشود لترمي كيسا صغيرا في الهواء كأنه يتحدى هيبة الزيارة الملكية.
في خضم هذه المشاعر المتناقضة، كانت الملكة ليتيثيا تبذل جهدها لتبقى قريبة من الناس، مستمعة لهم بنظرات تعكس تعاطفا لم يكن مصطنعا. لم يكن في صوتها كلام كثير، بل كانت ترد بلطف على همسات النساء الجانبيات ومخاوف الرجال القاسية. أما الملك فيليبي، فقد بقي بجوارها، محافظا على رباطة جأشه المعهودة، مدركا أن غضب الناس هو طوفان آخر لا يمكن مواجهته سوى بالصبر.لكن بيدرو سانشيث، رئيس الحكومة، لم يحظَ بتلك الفرصة. ارتفعت أصوات الاحتجاجات حوله وأصبح الهدف الأول للاتهامات. ما لبثت الأجواء أن اشتدت حدتها حتى هاجمت سيارة رئيس الحكومة كومةٌ من الحجارة والكلمات الجارحة، وكُسرت نافذة السيارة كأنها تعبير صامت عن حجم الخيبة التي تراكمت في النفوس.
وفي خضم هذا الغضب، لا بد من الإشارة إلى أن من بين الذين وجهوا الاتهامات إلى سانشيث، كانت هناك أصوات من اليمين المتطرف، الذين وجدوا في هذه الأزمة فرصة ليثيروا الانتباه ويسلطوا الأضواء على الحكومة الحالية. هذه الجهات تسعى إلى كسب التعاطف الشعبي من خلال تحميل الحكومة مسؤولية الأزمات الطبيعية، وكأن حاكمهم لديه القدرة على التحكم في الظواهر الجوية أو الطبيعية.
بينما كانت سيارة سانشيث تبتعد بسرعة، وكأنها هاربة من ميدان معركة غير متكافئة، بقيت الملكة في مكانها، تغرس نظرتها في عيون الأمهات اللواتي فقدن بيوتهن والأطفال الذين لم يفهموا بعد لماذا تغضب السماء هكذا. كانت تحاول، ولو للحظة، أن تكون الوجه الذي يطمئن الناس بأن الغضب لن يدوم، وأن هناك من يهتم، وإن كان هذا الاهتمام لا يمسح آثار فيضان ولا يعيد بيتا دمره الطوفان.
لكن، أليس من الغريب أن نشهد في مجتمع يتمتع بدمقراطية، ينعم بحقوقه وحرياته، هذا الكم من الغضب الموجه نحو حكامه؟ نعم، إن الكارثة كانت كبيرة والألم لا يوصف، لكن الملك أو أي سلطة أخرى لا تملك دفع غضب الطبيعة. إنها صورة تدعو للتفكير العميق: كيف لشعوب تتمتع بالحقوق والحرية أن تتجاوز في احتجاجاتها حدود التعبير المشروع وتتحول إلى وحشية في التعامل مع رموز الدولة؟
وفي المقابل، من المفارقات الغريبة أن الشعوب التي تعاني من القهر والاستبداد، وتعيش تحت سياط الجوع والظلم، غالبا ما تصمت وتقبل بالذل وكأنما رضوخها هو قدر لا مفر منه. وفي الوقت نفسه، نرى مجتمعات تنعم بالحرية والحقوق المتاحة، لكنها لا تتردد في إظهار الغضب الجامح تجاه حكامها حتى في وجه كوارث لا يد لأحد فيها. هذا التناقض البشري يعكس صعوبة إرضاء الإنسان، الذي يثور في مواضع ويصمت في أخرى، وكأنما هو كائن يسعى دوما للاعتراض بغض النظر عن الأسباب. فما حدث في بالينثيا يوضح هذه الطبيعة البشرية التي لا يملأها سوى السعي المستمر للمطالبة، حتى وإن كان المذنب هنا ليس سوى الطبيعة نفسها.
بالينثيا التي تعيش تحت رحمة غضب الطبيعة ليست فريدة من نوعها، فالكوارث لا تعرف الحدود ولا تفرق بين عاصمة كبرى ومدينة صغيرة. ومهما كانت مشاعر الغضب مشروعة، يبقى التفريق بين من هو مذنب حقا ومن ليس له يد في الأمر هو ما يعكس النضج والتوازن في المجتمعات.
هذا شرح ل: و لا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب.