بنيونس عميروش: أزمة الفن المعاصر تتعلق بـ»أنا» ما بعد الحداثة!

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

عبداللطيف الوراري

 

بنيونس عميروش (1960) فنان تشكيلي مغربي عرض في أروقة فردية منذ عام 1983، وشارك في العديد من المعارض واللقاءات الفنية الدولية (فرنسا، إسبانيا، بلجيكا، تونس)؛ وناقد فني زاوج بين عمله البيداغوجي والأكاديمي لتدريس الفنون التشكيلية، ومواكبته النقدية للتجربة المغربية والعربية في مجال الفنون البصرية، من خلال الأيام الدراسية، والندوات العلمية التي تلتئم في المغرب وخارجه، أو من خلال المؤلفات التي رصدها لإضاءة معالم التجربة في شتى أبعادها وخصوصياتها الجمالية، مثل: «قراءات في التصوير المغربي المعاصر» 2015، و»مسالك البصري: مرجعيات ورهانات الفن المعاصر»2021، «النحت الصَّرْحي في العالم العربي: حدود التَّجْسيم في الفضاء العمومي» 2021، و»أوراق الكفاف: الذات والفن والقناع» 2022، و»التَّمثيل ومفارقاته: حالة التشكيل المغربي» 2024. ولهذا، يظل النقد الفني ـ عنده- امتدادا لممارسته التشكيلية، مثلما أنه يراهن على تطوير للفن في جانبه النظري من جهة، والعمل على نشر الثقافة الفنية والوعي بثقافة الصورة التي تضاعفت سلطتها في عالمنا المعاصر من جهة أخرى. لا يخفى قلقه إزاء الهيمنة التي باتت تمثلها الصورة في عصر الشاشات. والتحول الكبير الذي طرأ على الفنون البصرية بسبب الإمكانات الهائلة التي صارت تتيحها التكنولوجيا الراهنة، من نمطية اللوحة إلى أزمة الفن المعاصر. يُعمل حدس الفنان ووعيه النقدي من أجل أن يفهم ما يقع في هذا العالم، ويؤول تجلياته اللاتُحصى على جسد الإنسان وروحه في آن.

*ما الذي قادك إلى الشغف بالرسم؟
ـ في الحقيقة، دأبت على ممارسة الرسم منذ الطفولة كوسيلة تعبيرية عفوية، ولم يكن الرسم في معزل عن الكتابة في صيغتهما المدرسية، بما فيها التنميق والزخرفة، إذ كانت الدفاتر نفسها أولى الأسناد. مثل هذا السياق، يدفعني للنبش عن البدايات لاستقدام أول «الكتابة» وأول» الرسم»، فأيهما الأسبق؟ في الصفوف الابتدائية كنت أعمل على تحسين خطي، علما بأن تجويد الخط يتطلب رسم الحرف بالريشة طبقا لقواعد المقاييس. من رسم الحرف والدفع به نحو خط الرقعة في الكِبَر، تحولت حينها إلى رسم المشاهد والشخوص، نقلا عن الرسوم التوضيحية Illustrations الجذابة، المطبوعة بالكتاب المدرسي (العربي والفرنسي)، ما سيمنحني التميز في قسم «الشهادة» (القسم النهائي ابتدائي) بتحفيز من معلمي الذي منحني الإحساس بأهمية ما أقوم به، وكنت أنبهر برسوماته على السبورة. في السلك الثانوي الأول بدأت أرسم البورتريهات وأشارك بتصاويري في أنشطة المؤسسة، وكنت حينها أتقن رسم القلوب والورود التي كنت أنقشها على صفحات دفتر ذكريات فتيات الفصل؛ ورود مصحوبة بكتابة شذرية قريبة من الغزل. هكذا ظلت الكتابة رفيقة دائمة للرسم، بداية من الوقت الذي انبثق فيه الرسم «الفني» كامتداد لرسم الخط. ولعل هذا المَيْل الأوَّلي الموسوم بالمزاوجة «الكتابية»، بات يتأرجح بين ركود ونشاط، إلى أن اتخذ إيقاع سَيْره، بالتوجه إلى التكوين المتخصص، ليضحى الفن عصب وجود وحياة.

*جمعت بين ممارستك الرسم ونقده والتنظير له. كيف تستطيع التوفيق بين الفعاليتين؟ ثم ألا يمثل انشغالك بالنقد التشكيلي وتجاربه الراهنة حجابا على ممارستك الإبداعية؟
– يظل النقد وأدبيات الكتابة عن الفن عندي امتدادا للممارسة التشكيلية نفسها، بحيث لا يمكن فصل الفن عن علومه، في الوقت الذي يمكن للفنان التشكيلي أن يساهم في تطوير الفن في جانبه النظري من داخل المحترف. وبطبيعة الحال، يقتضي ذلك نوعا من التوفيق، بالأريحية التي تراعي السياق الثقافي العام الذي ما زال في المغرب، كما في العالم العربي عموما، يحتاج إلى نشر الثقافة الفنية، وثقافة الصورة، التي تضاعفت سلطتها، وصارت تمارس هيمنتها، من دون رغبة منا في عصر الشاشات. بالنسبة لي، مثل هذه الهواجس التي تجعلني دائم الإنتاجية في الكتابة حول الفن، إنما هي توليد طبيعي لفعل التشكيل ذاته، في الوقت الذي أجد فيه الكتابة مسألة ملازمة للنَّفَس الإبداعي، فإنجاز لوحة كلغة تشكيلية أو إنجاز نص، ينبعثان من فعل الكتابة وبفعل الكتابة. فحتى في زمن الكتابة، أمارس التشكيل، وأنا أعيد بناء عمل فني، أو أصوغ أفكارا تمس مسألة جمالية، إذ تضعني الكتابة في موقف المتأمل الذي يصبو إلى التأليف والمعرفة الفكرية والعلمية على الدوام. بمعنى آخر، أجد نفسي متموضعا بأريحية فائقة بين خطّيْن، «المُنْحَني» (La courbe) و»المستقيم»، أي بين خط الجمال وخط الواجب: بالأول أمارس الإبداع التشكيلي، وبالثاني أمارس الكتابة النقدية. من ثمة، تبقى كلا الممارستَيْن التشكيلية والنقدية عندي كتابة. وإن كنت أُقِرّ بكوني مشدودا أكثر إلى الإبداع التشكيلي، إلى خط الجمال بوصفه «الأصل»، فإني أعترف بقيمة خط الواجب: الكتابة النقدية علمتني كيف أمنح مكاني للآخرين.

*يلاحظ المتتبع لمسارك الفني والنقدي اهتمامك بالفنون البصرية (النحت، التنصيبات، الغرافيتي..) مقابل محدودية اللوحة، إلى أيّ حد يمثل هذا الرهان الأستطيقي ضربا من التفكير في الفضاء العمومي ضدّا على «مسوخات» الغزو الطوفاني للصورة، وتثمينا لمشروع التنمية وخطاب الهوية الحضارية المتعددة؟
– بطبيعة الحال، يتعامل الناقد والدارس مع المتغيرات، ومع واقع الحال الذي أصبحنا نواجه فيه مواد مصنَّعة حديثة ومع وسائط وطرق تقديم Présentations جديدة (الفيديو والفوتوغرافيا الرقمية والتنصيبات Installations ومختلف أشكال الأداءات المشهدية وغيرها) مع أنماط الفنون البصرية المتماهية مع الإمكانات الهائلة التي صارت تتيحها التكنولوجيا الراهنة. إنه التحول الذي يقع في ظل عولمة ثقافية واقتصادية كاسحة، تلاشت معها حدود الفنون لتصبح جميعها متداخلة ومندمجة في ما بينها، بحيث توحدت المسائل الفنية في كبريات العواصم، وتلاشت الجغرافيات والقوميات، فأضحى الفن كونيا، يقوم فقط على إبداع الفنان وأفكاره، طبقا لسيرورة تاريخية مرتبطة بالمعتقدات والثورات التقنية والاقتصادية. من ثمة علينا كفاعلين؛ من فنانين وباحثين ومصممين ومعماريين ومهندسين مدنيين وسواهم، استيعاب هذا التحول الهائل باعتباره لغة بصرية جديدة ومؤثرة تقتحم المدينة عبر الملصقات والمأطورات Panneaux والجداريات وواجهات العمارات والمباني، حيث المعرفة بالجوانب المتعددة بالفن وأصوله، وضمنه النحت الصرحي ذو الصلة العضوية بالفضاء العمومي، يمكن أن يلعب الدور التوعوي والتربوي والتهذيبي والذوقي، في الوسط الجماهيري الواسع، لمقاومة أوجه «المسوخات» الطوفانية للصورة.

في المقابل، يبقى الاهتمام باللوحة لديّ من البدهيات، في الحين الذي لم تفقد فيه قيمتها وهالتها؛ ربما تراجعت من حيث التعاطي لها من زاوية اعتبارها من الأنماط التعبيرية «التقليدية». إلا أن هذه الصفة «التقليدية»، هي ما يجعلها في صدارة الفعل التصويري Pictural لكونها تشكل مادية وحياة العمل الفني وخلوده، باعتباره الأصل (وليس النسخة)، بينما تظل المرجع الأساس لتاريخ الفن وسيرورته البنائية، كما تبقى في نهاية المطاف خِيارا من بين اختيارات أخرى. فإذا كانت الأعمال الفنية المُنْجَزة بداية من مطلع الألفية الجديدة، تكاد تكون بالأبيض والأسود ومرتكزة على معرفة مجردة، كما أعلن ريناتو باريللي Renato Barilli، ألا يمكن اعتبار التصوير La peinture فِعْل استعادة الرونق اللوني والجودة التشكيلية، فِعْل تَجْنيب الفن من الحرمان الكروماتيكي، وتدني العواطف؟ بهذا المعنى، قد تمثل اللوحة أحد عناصر التَّمَيُّز في المشهد التشكيلي الذي أصبح متشابها ومتماثلا أكثر فأكثر.
*يعرف الفن المعاصر في أوساط المهتمّين سجالا حادّا. ما هي في نظرك أبرز العوائق التي يواجهها الفن المعاصر؟ وهل هذه الأزمة التي يشهدها أزمة طبيعية لأنها نتاج مرحلة تاريخية وثقافية، أم هي جوهرية تمسّ ماهية الفن نفسه بقدر ما تمسّ صميم العملية الإبداعية، من حيث مفهوماتها وإنتاجها وتلقّيها وتداوُل ثمارها؟ – أولا تنبغي الإشارة إلى أن الفن المعاصر، على الرغم من الأصوات المعارضة، يتخذ سيره بدعم العديد من المؤسسات المعنية عموما، في ما أعتقد أن «أزمته» تتعلق بأنا معاصرة منبثقة من أوردة ما بعد الحداثة؛ من الحساسية التي أحدثتها التكنولوجيا في تحول المجتمعات والاقتصادات، ومن ثمة، فإنها تمس ماهية الفن وطبيعته الإبداعية التي عبرت القرون سعيا إلى تحقيق قيم النُّبل والرقي والجمال، وهي القيم التي صارت معرضة للاستفزاز باستمرار.

كان من البدهي دَحْض مُناصري ورثَة مارسيل دوشان وأندي وارهول، في الوقت الذي تم فيه الإصرار على هدم قِيَم الطليعة التي بُنِيَت على امتداد قرن ونصف القرن، ما سَبَّب نشوب الأزمة التي أصبحت مَثار نقاش واسع منذ نهاية القرن العشرين، والعالم يشاهد نهاية يوتوبيا الفن، التي أشَّرَت على نهاية التصديق باستحكام النقد وجسور التواصل المُتَعارَف عليه في الفن، أمام القِوى المُتحكِّمَة في سوق الفن وتوجيهه وفق أجندات المؤسسات ذات الصِّلَة، في اتجاه عزل الثقافة وجعلها عالما مُنفصلا بذاتها. وذلك ما سبق أن تناوله إيف ميشو Yves Michaud في كتابه «أزمة الفن المعاصر» (2011)، انطلاقا من الحالة التي يجد فيها الفن المعاصر بخاصة، يقوم على الأشياء المادية أو الأغراض Les objets اليومية المبتَذَلَة التي تُقَوِّض النظريات الجمالية والتجربة الجمالية، التي راكمها الجمهور المُهْتَم وهو يواجه هذه الأغراض، التي أضحت تسمى أعمالا فنية ومُنْتَجات فنية، ليتم التشكيك الكامل في المعايير الجمالية برمتها، مؤكدا أن أصول الأزمة، تعود إلى الفكر الحديث الذي أنتج توقُّعات معينة من العمل الفني، وهي التوقُّعات التي تستمر في عصر ما بعد الحداثة، حتى مع تعطُّل الفن الحديث نتيجة التحول الجذري في النموذج، بينما يتساءل في السياق: في الواقع، كيف يمكننا وضع أنفسنا إزاء أعمال باهظة التكلفة بالتأكيد، غير أنها لا تتطلب، في كثير من الأحيان، إتقانا تقنيا كبيرا، ناهيك عن كونها غير مفهومة ولا تثير أي مشاعر مُباشِرة؟ علما بأن كل هذه الردود من الأفعال لا تدعو إلى الجدل في ظل الديمقراطية الثقافية الجديدة.

هذا الارتباك في التلقي، يدعو بدوره إلى التساؤل عن معايير الحكم الجمالي في باراديغم الفن المعاصر، وعن الجهة أو الطرف الذي يختار الأعمال، وعلى أي أساس يتم عرضها في المتاحف والمعارض العامة، أو الخاصة؟ وما هي الجهة أو الطرف الذي يقرر المعايير الجمالية وكيف يتم اعتمادها وتطبيقها من قبل المؤسسات الفنية؟ وكيف يتم فك شيفرات هذه المعايير الجديدة، وما هي طبيعة أهدافها إذا كانت تلبي حصريا توقعات نخبة ضيقة من المهتمين؟ فمن هذه الأسئلة تنبثق الصعوبة التي يواجهها الفن المعاصر في تأطير معاييره الجمالية والدفاع عنها، في اتجاه تحقيق الانسجام مع التمثيل العام للفن. ولعل ذلك ما يجعل الكثير من «الأعمال» موضوع مراجعة للمزيد من المُعايَنَة، بحيث تبقى قابلة للتبَصُّر باستمرار، على اعتبار الفن المعاصر، بمَيْلِه إلى «اللّافن»، ينزع إلى الانفلات من المعيار الواضح، كما هو الشأن في الفَنَّيْن الكلاسيكي والحديث، في الحين الذي يراهن فيه على الزمن وعلى الأطر المؤسَّساتية وفضاء العرض، بينما يتم نقله من خلال إنتاج «الخطاب»، ما يجعل مسألة الحُكم والتَّقويم وتراتُبيَّة القِيَم في دائرة التباس قصوى.

*في الآونة الأخيرة عُقدت المناظرة الوطنية الثانية حول الفنون التشكيلية والبصرية وصناعة المستقبل. ما هي أهمّ التحديات التي تقتضي من أهل الاختصاص التفكير فيها وإبداع الحلول لتجاوزها، ولاسيما في ضوء التكنولوجيا الرقمية وتطورها خوارزمياتها بشكل مذهل؟
ـ من المؤكد أن السياق العالمي الذي تتسارع فيه المعارف التكنولوجية والصناعية التي تمس الإنتاجات الثقافية عموما، يتطلب إعادة النظر في مهن الفن في المغرب، وفي وضعية الفنان التشكيلي أمام هذه المتغيرات. في هذا السياق أتت المناظرة الوطنية حول وضعية قطاع الفنون التشكيلية والبصرية وصناعة المستقبل المنظمة من قبل النقابة المغربية للفنانين التشكيليين المحترفين بتعاون مع المؤسسة الوطنية للمتاحف (الرباط، نوفمبر/ تشرين الثاني 2024)، حيث تم فتح نقاش موسَّع من لدن جميع المتدخلين المعنيين بالقطاع حول آفاق تطوير الصناعات الثقافية وتدارس سبل ربط الفنون التشكيلية والبصرية بالسياسات العمومية في مجالات الاقتصاد والتربية والثقافة والإعلام والبحث العلمي. وفي هذا الاتجاه، توصلت أشغال المناظرة إلى تحديد العديد من المرامي، التي يمكن تلخيص أهمها في أهداف ذات بعد سياسي واستراتيجي، تتمثل في ترصيد التجارب وتثمين البرامج الناجحة، وتعزيز المقاربة التشاورية بين الممارسين والمسؤولين، والعمل على تطوير الأطر المرجعية لحقل الفنون التشكيلية والبصرية وشروط ممارستها، وأهداف تربوية وثقافية من خلال تعزيز مقومات السياسات الثقافية والمساهمة في إنعاشها، مع العمل على تجويد البحث العلمي والارتقاء بالشأن التربوي والبيداغوجي المدرسي والجامعي والمهني، فضلا عن أهداف ذات بعد قانوني واقتصادي تروم النهوض بالصناعات الإبداعية وتشبيكها بالمؤشرات الاقتصادية وسوق المال والأعمال، وتطوير المقاربات القانونية والتنظيمية المُؤَطِّرة لمهن وأعمال سوق الفن وممارسات مهنه، وكذا العمل على تفعيل آليات تدعيم الديمقراطية التشاركية عبر الارتقاء بالقوة الاقتراحية للمجتمع المدني الفاعل في القطاع.

 


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...