وضاح عبد الباري طاهر
قبل يوم أمس، وبينما الأخ القدوة سهيل، يُقلِّب القنوات الفضائية فتح إحدى القنوات التابعة لمربعنا الصغير من اليمن الكبير، ورأيت الكاميرا تجول في مناطق قبلية تقع في تخوم هذا المربع.
كان أحدهم يصرخ صراخًا مُنكرًا، وعلامات الانفعال الشديد بادية عليه، ثم ختم صراخه قائلاً: (لقد حان الحان!)؛ فغلبني الضحك حتى شعرت بالتعرق مع أنَّ الليلة كانت شديدة البرودة.
ما معنى (حانَ الحان؟) لا أدري، ولا إخالني سأدري.
في الحرب التي شنها التحالف الدولي على العراق، لم يكن صدام ليكلف الطاقم الرسمي من الصحفيين ليطوفوا بقبائل شمر، أو الجبور، أو غيرها من القبائل العراقية.
كان الصحاف وحده فقط يظهر ببزته العسكرية، وبأسلوبه المميز وخفة دمه، وكذبه الذي مرد عليه؛ تمكن بمكره من أن يصيب عقولنا بالخدر اللذيذ والغيبوبة الخطيرة.
لكن على الأقل علَّم الصَّحاف الشعوب العربية ماذا تعنيه كلمة (علوج). كثير من العرب كان ملهوفًا لمعرفة معناها، وحفزهم الصَّحاف -دون أن يدري- لأن ينشطوا ذاكرتهم، ويعودوا لمراجعة المعاجم العربية ليستبينوا معناها.
انتهى الأمر بتدمير العراق وتقسيمه وتشريد سكانه، ونهب ثرواته، وبعثت الطائفية من قبور التاريخ، وخُلِقت داعش وكل المليشيات الطائفية؛ بسبب الحماقة التي اقترفها صدام بغزوه الكويت،
لكن الحقيقة تقال: إنَّ الناس -على الأقل- نموا ثقافتهم اللغوية، وعرفوا ما تعنيه هذه المفردة التي كان قد عفا رسمها، وهجرها أهلها؛ فلم يعودوا يتداولونها منذ زمن طويل، والأهم من كل ذلك أنه لم يتم قطع رواتب المواطنين العراقيين، ولا سُدَّت سُبُل العيش أمامهم.
أمَّا ما شاهدته قبل البارحة، فأشعرني وكأني في «حديقة الحيوان» التي يرويها جورج أوريل. تهريج وهذيان وكذب على النفس يشعرك بالاشمئزاز والخجل من الحالة التي وصلنا إليها، والخشية فيما لو دام هذا الجنون، ولم يحدث له أي مراجعة أو تغيير أن ينسى الناس لغتهم، ويفقدوا عقولهم، ويعودوا بدائيين متوحشين كما كان أسلافهم من قبل.
وفيما كنت أتابع موقع إيطاليا تلغراف قرأت مقالاً للعلامة المغربي الجليل أحمد الريسوني الذي عرفته منذ سنوات طويلة من خلال كتابه الذي أهدانيه أحد الأصدقاء الأعزاء وهو كتاب «نظرية المقاصد».
ولما رأيت مقاله في الموقع قرأته وأعجبني؛ لأنه موقف من عالم جليل أول ما يجبه به نظام الحكم الملكي في المغرب، والذي تربطه علاقات قوية بإسرائيل.
هذا هو الموقف العظيم لعالم مثل الريسوني المنحاز لقضايا شعبه وأمته ولفلسطين الصامدة والصابرة ضد الإبادة الصهيونية والأمريكية بتواطؤ ودعم دول الاستعمار وحكام الدول العربية.
كما أعجبني في الجانب الآخر تعاطفه مع اليمن؛ لأنها مع المقاومة في لبنان وقفت إلى جانب غزة، ولم تبرح تزعج إسرائيل وتضايقها وتهدد أمنها ومصالحها بحسب الطاقة والإمكان.
وهذا شيء يحسب لحركة الحوثيين ويشكرون عليه، لكن حسنة الوقوف مع فلسطين لن تمحو إساءة الفساد الذي يمارسه مسئولوها ومشرفوها، فضلاً عن سياسات القمع التي يقوم بها جهاز الأمن والمخابرات ضد المواطنين.
فإذا لم تكن لأمك (اليمن)، فلن تكون لخالتك (فلسطين). ويقول المثل الحضرمي: يا ملقي السقايا أهل بيتك أحق.
هذا الشعب ليس عدوًا لكم. هو عدو الظلم والفساد والطغيان، وعدو إسرائيل، وأمريكا، والاستعمار الأوروبي، وعدو لبعض حكام الدول العربية التي تقف متواطئة معها كالنظام السعودي والإماراتي.
فإذا كان العدو مشتركًا، فعلامَ تمارسون أعمالاً لصالح هؤلاء الأعداء، وضد مواطنيكم، وتتلكؤون عن صرف مرتبات الناس، وتغضون أعينكم عن الفساد المستشري في أوساطكم، واستئثار فئة قليلة منكم مع أصحاب المصالح والنفعيين بثروات الشعب الذي يموت من الجوع والفقر والمرض؟!
قرأت في موقع صحيفة النداء الآتي:
في 15ديسمبر توفيت أم مراد ظافر- وهو زميلنا- حزنًا على ابنها المختطف، ولم تعرف عنه شيئًا منذ اعتقاله.
يقول أحد الحقوقيين: “كم من الأمهات والآباء يعانون الآن من القلق والألم؟”.
ومحمد خماش، وصبري الحكيمي، وهشام الحكيمي، ثلاثتهم محتجزون لديكم منذ خريف 2023، ولقوا حتفهم أثناء الاحتجاز؛ نتيجة التعذيب، أو الإهمال الطبي؛ وهو ما اعتبرته منظمة هيومن رايتس ووتش دليلًا إضافيًا على قسوة إجراءاتكم ضد من تعتقلونهم.
و في سبتمبر 2024، سلمتم جثة المواطن محمد خماش لعائلته دون تفسير. ويشير مسؤول في المنظمة إلى أنكم تمنعون المحامين من مقابلة المحتجزين؛ مما يحرمهم من الدفاع عن أنفسهم.
لا نطالب إلا بأمرين اثنين:
1- البدء في صرف مرتبات المواطنين.
2- البدء في إطلاق المعتقلين قسريًا؛ ممن تم اعتقالهم بدون مسوغ قانوني؛ وهذا -بحسب محامي الدفاع عن الموظفين والمعتقلين عبد المجيد صبرة- ينتهك حقوقهم الأساسية كالحرية، والحركة، والاتصال بمحامين، متجاوزين في ذلك مدة الاحتجاز القانونية، ومخالفين نص المادة (٤٨) من دستور الجمهورية اليمنية، والمادة (٧٦) من قانون الإجراءات الجزائية التي توجب إحالة أي معتقل إلى القضاء خلال 24 ساعة من لحظة القبض عليه.
ويقول صبرة: “عملت السلطات الأمنية على إخفائهم قسرياً، والإخفاء القسري يعد جريمة مركبة تنتهك عدد من حقوق الإنسان، ويأتي على رأسها حقه في الحياة، كما تم انتهاك حقهم في الدفاع كحرمانهم من التواصل بمحاميهم، وزيارة أقاربهم، وتلقي العلاج، والتي تعد من بديهيات الحقوق التي يجب على أي سلطة ضمانها وتوفيرها للمعتقل.”
أما الصحفي فارس الحميري- مراسل وكالة “شينخوا” الصينية، في تدوينة له على منصة “إكس”، وبعض المصادر الأخرى، رصدها موقع “النداء”، فقد أشار إلى أسماء عدد من الموظفين المعتقلين والجهات التي يعملون بها، بما يشير إلى أنَّ الحملة شملت 17 موظفاً من الأمم المتحدة، علاوة على عشرات الموظفين الآخرين لدى منظمات دولية مثل المعهد الديمقراطي الأمريكي، والجمعية الألمانية للتعاون الدولي (GIZ).
المواطنون المعتقلون في السجون
ستة معتقلون موظفون في المفوضية السامية لحقوق الإنسان؛ وهم: “وضاح عون”- رئيس قسم تكنولوجيا المعلومات، “إبراهيم زيدان”- منسق المفوضية في محافظة حجة. “فراس الصياغي”، “محمد الشامي”، “محمد أبو شعراء”، و”سميرة بلح”- المنسقة الميدانية في محافظة الحديدة. “سامي الكلابي” من مكتب المبعوث الأممي إلى اليمن، وثلاثة من الموظفين من الأوتشا.
وفي المعهد الديمقراطي الأمريكي، تمَّ اعتقال 3 موظفين، بينهم الزميل “مراد ظافر”- نائب مدير المعهد، و”رباب المضواحي”- رئيسة قسم المعلومات، إضافةً إلى موظفين آخرين في الصندوق الاجتماعي للتنمية، مثل “وسام قائد”- نائب المدير العام، و”محمد ذمران”- رئيس قسم المعلومات.
كما شملت الاعتقالات شخصيات من مختلف المنظمات، مثل: “عبد الحكيم العفيري”- نائب المدير التنفيذي لمنظمة “شركاء اليمن”، و”عاصم العشاري”- مدير البحوث والسياسات في مؤسسة “رنين”، و”سارة الفائق”- المدير التنفيذي للائتلاف المدني للسلام.
كما أنَّ حملتكم لم تقتصر على موظفي المنظمات، بل شملت أيضًا خبراء في حكومتكم مثل: “أحمد النونو”- وكيل وزارة التربية والتعليم، و”الدكتور علي المضواحي”- مستشار وزير الصحة، بالإضافة إلى “لبيب شايف” كبير الخبراء الذين صاغوا “الرؤية الوطنية” لكم.
وبنشر موقع النداء أنه في السادس من يونيو الماضي، كانت أسرة أحمد اليمني في صنعاء تستعد للاحتفال بزفاف ابنته الصغرى. لكن الفرحة تحولت إلى كابوس مع دقات الساعة السابعة صباحًا، حينما اقتحمت المنزل قوة مسلحة من جهاز الأمن والمخابرات التابع لجماعة الحوثي. واقتادوه إلى مكان مجهول، واتهموه لاحقاً بـ”التخابر لصالح أمريكا وإسرائيل”.
ويروي نجله خالد في تدوينة له على منصة إكس: “منذ احتجاز والدي، طرقنا كل الأبواب في صنعاء، ولم يُسمح لنا بالاطمئنان عليه أو حتى الاتصال الهاتفي به؛ لمعرفة حالته الصحية والجسدية، كما لم يُسمح لنا بزيارته.”
وأضاف: “والدي إنسان مدني قضى معظم حياته في العمل الإنساني والخدمي والتنموي، وكان له دور كبير في تقديم المساعدة للناس في كل مكان ومع أي جهة كان يعمل معها.”
ويتساءل محمود قيّاح- القائم بأعمال الممثل غير المقيم لمؤسسة “فريدريش إيبرت” مكتب اليمن، ومدير البرامج الأول في حديثه لـ “النداء”: “حتى لو كانت هناك اتهامات، أين الأدلة؟ وأين المحاكمات؟ الإخفاء القسري يُلغي العدالة.
كما لا ننسى المهندس عدنان الحرازي- مدير منظمة بروجي، وغيرهم ممن لا يعلمهم إلا الله.
وفي الأخير: ليس إلا إصلاح الوضع والتغيير الجذري لهذه السياسات أنتم والشرعية المزعومة، وكل هذه الأنظمة الطاغية العميلة المنتهكة لكل القيم والأخلاق الإنسانية، والأديان السمحة الرحيمة، أو أنَّ طوفان الأقصى سيصلكم جميعًا.