الكحول في المطارات: كأس على الأرض وفوضى في السماء

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

ذ.عبد القادر الفرساوي

 

 

 

 

في كل مرة أطأ فيها أرض المطار، أتذكر قصصا وحوادث كانت الطائرة فيها مسرحا لأحداث غريبة وغير متوقعة. تلك الأحداث غالبا ما تبدأ من المطار نفسه، وتحديدا من أكواب الخمر التي تُصبّ دون حساب في مطاعم ومقاهي المنطقة الحرة. لقد كتبت عن هذا الموضوع من قبل، ورأيت بأم عيني كيف يتحول السفر إلى معاناة بسبب استهلاك الكحول في أماكن لا يجب أن يُباع فيها.

في رحلة العام الماضي، كنت شاهدا على حادثة لا تزال محفورة في ذاكرتي. كنا نحلق فوق السحاب، وكانت الطائرة تغصّ بالركاب. فجأة، انطلق صوت امرأة تصرخ من منتصف الطائرة. التفت الجميع ليجدوا أستاذة جامعية مغربية، معروفة بمكانتها العلمية، لكنها في تلك اللحظة كانت فاقدة تماما للسيطرة على نفسها.

بدا واضحا أنها تحت تأثير الكحول. كانت تتأرجح في ممر الطائرة، تصيح وتسبّ الطاقم بالعربية حينا وبالفرنسية حينا آخر، وتفتخر بمنصبها الجامعي. تذكر إسم الجامعة و تذكر إسمها الكامل وكأن ذلك يمنحها الحق في التصرف بأي شكل تشاء. أما السبب، فقد أصر الطاقم على أخذ قنينة ويسكي التي كانت بيدها، ما أشعل فتيل غضبها.

كان مشهدا عبثيا. امرأة بمكانة علمية مرموقة تتحول إلى مصدر إزعاج وإحراج بسبب بضع كؤوس من الخمر. الركاب كانوا في حالة صدمة، والطاقم حاول جاهدا تهدئتها، لكنها استمرت في إثارة الفوضى و تركوا لها قنينتها حتى لا تثار فوضى اكثر إلى غاية ان هبطنا.

هذه القصة ليست الوحيدة. في مقالات سابقة، تناولت حالات مشابهة، منها ما حدث على متن رحلة بين دبلن ولانثاروطي، حيث أجبر أحد الركاب المخمورين الطائرة على الهبوط اضطراريا في مطار بورتو. تجاوزت تكلفة هذه الحادثة 15 ألف أورو، تكبّدتها شركة الطيران بسبب التأخير، إقامة الركاب، ونقل الطاقم إلى وجهة بديلة.

و في مطار مايوركا، تحولت بوابة صعود إلى الطائرات إلى مسرح لفوضى عارمة بطلها شاب مغربي يبلغ من العمر 26 عامًا، كان تحت تأثير الكحول. بعد تأخره عن رحلته إلى غران كناريا، بدأ في تدمير أثاث بوابة الصعود، واعتدى على أحد العاملين بشركة “رايان إير”، ثم دخل حمام النساء حيث كسر مرآة وأصاب نفسه بجروح. انتهت الحادثة بتدخل الحرس المدني الذي ألقى القبض عليه بتهمة الإضرار بالممتلكات والإخلال بالنظام العام.

مثل هذه الحوادث ليست استثناء، بل هي جزء من ظاهرة متكررة أشار إليها مقال حديث لإحدى الصحف الإسبانية. تناول طلب شركة الطيران الإيرلندية “رايان إير” من الاتحاد الأوروبي وضع حدّ لبيع الكحول في المطارات، أو على الأقل تحديد الكمية المسموح بشرائها إلى مشروبين كحد أقصى. هذا الاقتراح جاء كرد فعل على الحوادث المتكررة التي تسببها حالات السكر أثناء الطيران.

المطارات ليست فقط نقطة انطلاق الرحلات، بل هي أيضا بداية لمشاكل يمكن تفاديها. عندما يُسمح ببيع الكحول بحرية في المطارات، خاصة في المناطق الحرة، يجد المسافرون أنفسهم أمام إغراء يصعب مقاومته. بعضهم يتناول الكحول بدافع التسلية، لكن كثيرين يفرطون في الشرب إلى درجة تجعلهم غير قادرين على التحكم في تصرفاتهم.

هنا تكمن المعضلة: الطائرات ليست مكانا يمكن للركاب فيه التنفيس عن غضبهم أو تعبيرهم الفوضوي. إنها مساحة ضيقة ومغلقة، وأي تصرف طائش يمكن أن يتحول إلى تهديد لسلامة الجميع.

الحل واضح لكنه يتطلب شجاعة في التنفيذ. يجب منع بيع الكحول في المطارات، أو على الأقل تقنين الكمية المسموح بشرائها، كما اقترحت “رايان إير”. هذا الإجراء البسيط قد يحدّ من عدد الحوادث بشكل كبير ويجعل تجربة السفر أكثر أمانا.

كما يجب على شركات الطيران والمطارات التعاون معا لتثقيف المسافرين حول مخاطر استهلاك الكحول قبل الطيران. الطائرات ليست أماكن للحفلات، والمسافرون يجب أن يدركوا أن الحرية تأتي دائما مع مسؤولية.

حادثة الأستاذة الجامعية وغيرها من القصص ليست سوى نماذج صغيرة لظاهرة أوسع. الكحول في المطارات ليس مجرد مشروب يُباع، بل هو مشكلة قد تُترجم إلى فوضى في السماء. لقد كتبت عن هذا الموضوع من قبل، وشاهدت بنفسي كيف يتحول السفر من تجربة ممتعة إلى معاناة بسبب بضع كؤوس.

في نهاية المطاف، تصبح المطارات والطائرات مسرحا لاختبارات السلوك البشري في ظل القوانين والقيود. بيع الكحول في المطارات ليس مجرد مسألة تجارية، بل هو قرار له تبعات أخلاقية وسلوكية تمس سلامة الجميع. كل فوضى في السماء تبدأ بكأس زائدة على الأرض، وكل صراخ يملأ الطائرة يعيدنا إلى النقطة الأولى: هل يمكننا تحمّل ثمن هذه الفوضى من أجل رفاهية مؤقتة؟ إذا أردنا سماء آمنة وسفرا يليق بنا كبشر، فإن إلغاء بيع الكحول في المطارات يجب أن يكون بداية الطريق، ليس فقط لحماية الركاب، بل أيضا لصون كرامة السفر التي تضيع بين أكواب تُملأ بلا حدود.

إيطاليا تلغراف

 


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...