د. مدى الفاتح
كاتب سوداني
لم يعد بالإمكان الاستمرار في إنكار حقيقة الأوضاع في فرنسا، وأن ذلك البلد لم يعد المكان الأفضل لا للمهاجرين ولا لذوي الأصول الأجنبية. حتى المنصات والمواقع الإعلامية، التي كانت تحاول في السابق التستر على الأمر، مؤكدة أن فرنسا هي بلد الحقوق المتساوية، لم تعد متحمسة لذلك تحت ضغط الوقائع الكثيرة، التي تكذبها، والتي لا يمكن تجاهلها. هذه الوقائع والقصص المتواترة تتعلق بالتمييز الواضح، الذي يعيشه كل من يمتلك ثقافة مختلفة عما يعتبر ثقافة فرنسية أوروبية غالبة.
هذه المواقع وأولئك الكتاب، الذين كانوا يستميتون في السابق في التقليل من مزاعم العنصرية ومعاداة الأجانب، واعتبار أن ما يروى في هذا السياق فيه كثير من المبالغة، باتت تحاول اليوم، عوضا عن النفي، تحليل هذه الظاهرة، التي جعلت الكثير من الفرنسيين والمقيمين السابقين في «عاصمة الأنوار» يفكرون بجدية في الهجرة.
ظاهرة الاستئساد على المهاجرين وأبناء الأقليات من غير الأوروبيين تتزامن مع صعود التيارات اليمينية، التي تحولت منذ بداية الألفية الجديدة من كونها تيارات معزولة ومنغلقة ومكروهة، كما كان الأمر في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، إلى تيار قد يكون الأكثر شعبية، كما أوضحت الانتخابات البرلمانية الفرنسية الأخيرة، التي صمد فيها حزب «التجمع الوطني» اليميني المتطرف وحده في مواجهة مجموعة من أحزاب اليسار. حزب بارديلا ومارين لوبان اليميني استطاع أن يحصل على عدد الأصوات الأكبر، ليكون أكثر حزب شعبية.
الاقتصاد قد يفسر كل ذلك، فالمواطن الفرنسي يعيش ضغوطات اقتصادية غير مسبوقة يزيد من حدتها إصرار حكام باريس على التمسك بردائهم الاستعماري القديم، فيشتركون في معارك لا تعنيهم في افريقيا، وينحازون إلى أوكرانيا في معركتها ضد روسيا، وغير ذلك من التدخلات المكلفة والعدائية، التي لا تلبث أن ترتد على السوق الفرنسي المتعثر، الذي يعاني من أزمة دين وعجز. هذه الحالة من الهشاشة الاقتصادية تتزامن أيضاً مع صحوة في عموم المستعمرات السابقة وموجة من إعادة التفكير في مستقبل العلاقة مع فرنسا، التي ينظر إليها كثير من أبناء تلك المستعمرات كقوة كولونيالية قديمة، وكاحتلال مستمر لا يتوقف عن امتصاص الثروات، التي كانت تتسرب على مدى عقود طويلة لتصب في يده، إلا أن المنطق اليميني والمنظرين الشعبويين يرفضون أن يروا كل ذلك، ويكتفون بالتوقف عند أزمة المهاجرين، الذين يضغطون، وفق منطقهم، على ميزانية الدولة، التي تقدم لهم الكثير من الخدمات المجانية على حساب دافعي الضرائب. المهاجر، وفق نظرة العداء الشعبوية، متهم في كل الأحوال، فإن كان لا يعمل فهو عالة على المجتمع ويتمتع بما لا يستحق على حساب مساهمات المواطنين العاملين، أما إن كان من العمال أو الموظفين فهو أيضاً مطارد باللعنات بسبب اتهامه بأخذ موقع أحد أبناء البلد.
قبل ثلاثين أو أربعين عاماً كان بعض السياسيين الفرنسيين يعبرون بخجل عن موافقتهم لآراء اليميني المتطرف جان ماري لوبان مؤسس حزب «الجبهة الوطنية»، التي كان من أهم لافتاتها، أن فرنسا يجب أن تكون للفرنسيين فقط، وأنه يجب عدم السماح للأغراب بابتلاع الدولة أو استبدال ثقافتها. كانت تكلفة ترديد عبارات كراهية الأجانب في ذلك الوقت كبيرة، كما كان الاتهام بالنازية كافياً لوصم أي سياسي بالشر. اليوم لم يعد الأمر بهذه الحدة، بل انتشرت الأحزاب، التي تملك منطقاً مشابهاً للمنطق النازي أو الفاشي، بل إن بعضها وصل للحكم فعلاً، كحال الإيطالية جورجيا ميلوني، التي كانت عبرت في السابق عن إعجابها بموسوليني. الدفاع عن صورة فرنسا كبلد حر ومنفتح ومتقبل للآخرين، لم تكن تقتصر على الفرنسيين المؤمنين بالدولة، بل كان من بين أبناء المهاجرين ومن العرب من يدافع عن هذه الصورة معتبراً أن الخطأ هو خطأ المهاجرين وأبنائهم، الذين عزلوا أنفسهم ولم يتيحوا لأنفسهم فرصة الاندماج. كان أولئك، الذين يحبون أن يظهروا ولاء للدولة، يستميتون في تبرير كل الإجراءات التمييزية في مواجهة المسلمين، فحين تم حظر النقاب دافعوا عن القرار، معتبرين أن من حق فرنسا، المهددة بالإرهاب، أن تضمن أمنها، وأن هذا الأمن يتطلب أن تكون وجوه الجميع مكشوفة. تكرر ذلك مع تقييد ارتداء الحجاب، حيث اعتبروا أن من واجب الجميع أن يحترم قواعد الدولة، التي يقيم فيها، وبما أن «العلمانية» هي أهم قواعد الدولة الفرنسية، فإنه يجب احترام القانون المتعلق بمنع ارتداء الحجاب في المدارس وفي الدوائر الحكومية بالنسبة لمن يردن من النساء الانخراط في الوظيفة العامة.
المشكلة هي أن تلك التقديرات وتلك القراءة، التي كانت تصور الأمر كاستهداف للمتزمتين، أو لمن يحملون أفكاراً متطرفة فقط، لم تكن صحيحة، بل حتى إن أولئك المهاجرين أو المتجنسين، من الذين لا يظهر عليهم أي مظهر تدين، لم يكونوا بمأمن من العنصرية أو التمييز، فلم يساعدهم مظهرهم المنفتح وإمعانهم في التشبه بالفرنسيين في الثقافة واللباس، على الحصول على أبسط الحقوق كوظيفة مناسبة ولائقة بشهاداتهم، فيكفي أن يظهر اسمك أو اسم عائلتك الأجنبي، حتى يتم، في كثير من الأحيان، تجاهل ملفك. لا شك في أن العرب والمسلمين هم الضحية الأكبر للتمييز، يحتل أولئك اليوم المكانة، التي كان يشغلها اليهود في أوروبا قبل مئة عام، حينما كانوا يواجهون سهاماً من جهات مختلفة ويتهمون بأنهم خلف كل الشرور وأن التخلص منهم واجب. اليوم يستعيد اليمينيون والشعبويون هذا الخطاب باستبدال اليهود بالمسلمين، والزعم بأنهم لو تركوا لاحتلوا كل الأراضي الأوروبية بشكل صامت. إلا أن حلقة الكراهية تلك لا تتوقف عند العرب والمسلمين، بل تضم الأفارقة السود واللاتينيين والآسيويين وغيرهم، بل إنها تتسع لتشمل بعض الفرنسيين الأصليين أيضاً، حيث لا يتوقف إعلاميون وسياسيون عن وصف بعض اليساريين المدافعين عن المهاجرين أو عن المسلمين بالخيانة.
هذا الجو الخانق يؤثر على الجميع، ما يجعل فرنسا تفقد صورتها البهية، التي كانت تحملها، والتي كانت تأسر قلوب الملايين حول العالم. هذا التغيير، الذي يحدث في فرنسا، نحو تكريس الشعبوية والاستبداد له مظاهر كثيرة. يكفي أن نتوقف هنا عند ما تابعه الجميع خلال الانتخابات البرلمانية من حصول الكتلة اليسارية على عدد أصوات أكبر. الذي حدث حينها هو أن هذا الفوز لم يمنع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي كان يعاني في الأساس من فقدان الشعبية، من أن يقفز على النتيجة وأن يختار رئيس وزراء، وبالتالي حكومةعلى هواه، وبمعزل عن رأي الكتلة الفائزة، التي أخبرها بعدم اعترافه بفوزها، لكونه جاء بفارق ضئيل عن غيرها.
فرنسا التي أحبها، لكن التي سأغادرها هو عنوان كتاب صدر في عام 2010 للصحافي الفرنسي كريستيان رودو، وهو كتاب مهم يكثر الاستشهاد به لكونه سبق إلى لفت الانتباه لحقائق واحصائيات من بينها اختيار أكثر من مليوني ونصف المليون فرنسي المغادرة والهجرة خارج البلاد. هذا العدد الكبير، الذي قد يكون تضاعف الآن، لن يقتصر على الوافدين أو المهاجرين، الذين اصطدموا بحواجز التمييز، وإنما سيشمل بالدرجة الأولى مواطنين فرنسيين «أصليين» شعروا بأن من الصعب عليهم بناء مستقبل في بلدهم واختاروا البحث عن بدائل في مهاجر أخرى.