المعايير الملتبسة ومسلسل ومسارات التكرار في القضايا العربية: هل آن أوان التوقف وإعادة التقييم؟
* الدُّكتُور عَبْدُ اللَّهِ شَنْفَار
على هامش انعقاد قمّة عربيّة طارئة بأرض مصر العربية حول تطورات الأوضاع بفلسطين والإحساس بالإحباط تجاه أداء القمم العربية التي غالبًا ما تُوصف بأنها مليئة بالخطب والبيانات الإنشائية دون قرارات مؤثرة وفعالة. وهناك من يرى أن القمم العربية مجرد ظاهرة صوتيّة لا تحمل جديدًا وتتسم بالتكرار.
ننطلق من هذا السؤال الجوهري في ظل الانهزامات والانكسارات المتتاليّة: هل توجد محطة سنتوقف عندها بدون حساسيّات أو حزازات؛ من أجل التخطيط لغدٍ أفضل بدل تكرار ذات المسارات والمسلسلات المعروفة النهايات!؟
حينما يتم التلاعب بالمعايير في قضية التعامل مع إسرائيل من خلال مسألة التطبيع في العلاقات. فقد سبق لجامعة الدول العربية منذ مبادرة السلام العربية سنة 2002؛ وأرسلت تقريرًا مفصلًا حول اقتراح الأرض مقابل السّلام إلى سلطات الاحتلال الإسرائيل؛ هذه الأخيرة لم تكلف نفسها حتى عناء الرَّد على المُقترح..! معناه؛ هي قادرة وغير معنيّة بشيء اسمه: السّلام.
فإسرائيل لم تُبدِ أي تجاوب رسمي مع مبادرة السلام العربية لعام 2002، التي طرحتها السعودية وأقرتها جامعة الدول العربية بالإجماع. المبادرة قامت على مبدأ “الأرض مقابل السلام”، حيث تعرض الدول العربية تطبيع العلاقات مع إسرائيل مقابل انسحابها الكامل من الأراضي المحتلة عام 1967، وإقامة دولة فلسطينية مستقلة، وحل عادل لقضية اللاجئين.
لكن إسرائيل تجاهلت المبادرة ولم تردّ عليها رسميًا، بل واصلت سياسات الاستيطان والضم، مما يُظهر بوضوح أنها لم تكن معنيّة بصفقة تقوم على السلام العادل، بقدر ما كانت تكرّس سياسة الأمر الواقع وفرض حلول أحادية. هذه المماطلة والرفض المتكرر لكل المبادرات، سواء العربية أو الدولية، تؤكد أن إسرائيل قادرة على تحقيق السلام لكنها غير معنيّة به، لأنها تراهن على الزمن والتفوق العسكري لفرض رؤيتها الخاصة.
ومن خلال تحليل تركيبي ودقيق لنهج إسرائيل في توسيع نفوذها الدولي وتقليص الدعم للقضية الفلسطينية عبر استراتيجيات التأثير الناعم والمصالح المتبادلة، نجد:
– التقارب مع الصين والهند:
* إسرائيل استفادت من الحاجة التكنولوجية للصين والهند، فدعمت برامجهما العسكرية والإلكترونية، ما جعل هذه الدول تُعيد ترتيب أولوياتها الجيوسياسية بعيدًا عن الاصطفاف التقليدي مع القضية الفلسطينية.
* عملت إسرائيل على توطيد علاقاتها مع الصين؛ من خلال مساعدتها على تطوير محركات طائراتها وأنظمتها الاليكترونية التي كانت تعاني من مشاكل فنية؛ وبذلك سحبت تعاطفها مع فلسطين.
* وساعدت الهند في تطوير أجهزتها الإلكترونية النووية؛ فوفرت عليها عناء بحث 150 سنة؛ وسحبت بذلك تعاطفها مع الگضية الفلسطينية.
– التغلغل في إفريقيا:
* والشيء نفسه فعلته مع دول فقيرة بأفريقيا؛ تعاني الجوع والعطش والمرض والفقر وشح الخبز؛ وساعدتهم في تنمية مجالات الزراعة والفلاحة ببلدانها؛ فسحبت تأييدها لگضية فلسطين.
* إسرائيل استثمرت في المساعدات التنموية، خاصة في مجالات الزراعة والمياه والتكنولوجيا، لتبني علاقات قوية مع دول إفريقية كانت تاريخيًا داعمة لفلسطين. فبالتالي، قلّ التأييد العربي والإسلامي داخل المنظمات الدولية كالأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي.
– التطبيع العربي:
* رغم استمرار الدعم العربي المادي والمعنوي لفلسطين، فإن الخيارات السياسية تغيرت. تصاعدت الانتقادات ضد بعض الفصائل الفلسطينية، خاصة مع خطاباتها العدائية واستراتيجياتها غير المدروسة، مما دفع بعض الدول العربية للبحث عن مقاربات جديدة، مثل التطبيع، تحت ذريعة الواقعية السياسية ومصالحها الوطنية.
* إسرائيل نجحت في تقويض التضامن الدولي مع فلسطين من خلال براغماتية سياسية عالية واستثمار في نقاط ضعف الآخرين، بينما لم تستطع القيادات الفلسطينية فرض معادلة جديدة أو توحيد رؤيتها الاستراتيجية، مما زاد من تعقيد الوضع.
شعوب ومجتمعات تملك من أسباب الحضارة والتقدم والقوة؛ أدْناها؛ ومع ذلك لازالت تردد كلام الشاعر أبو الطيب المتنبي:
السَّيْفُ أَصْدَقُ إِنْبَاءً مِنَ الكُتُبِ؛ في حدهِ الحدُّ بينَ الجدِّ واللَّعبِ.
فبعض النجاحات التكتيكية؛ غالبًا ما يتبعها فشلًا استراتيجيًا ذريعًا؛ وذلك في غياب أجندات وخارطة نوايا واضحة ومحددة المعالم مسبقًا.
جهاز مفاهيمي واحد، لكن إجابات متناقضة؛ ومنه موقف تركيا من العلاقة بإسرائيل؛ والموقف من أطراف أخرى قامت بذات الخطوة؛ مثل المغرب والإمارات العربية المتحدة؛ فبرز نقاش حاد بين مهاجم ومتوقف ومبرر والكل يسند مرجعيته ضمنيًا أو صراحة للشريعة والجميع يحتكم لجهاز معرفي أصولي واحد. فما هي المعايير (المتفق عليها) في الحد الادنى إن وجدت؟
الأمر ذاته من التناقضات؛ تم في الموقف من حرب الخليج الأولى والثانية؛ مع وضد وتوقف وبذات الجهاز المعرفي وذات المبررات.
إشكالية تعدد القراءات لجهاز مفاهيمي واحد، رغم الاحتكام لنفس المرجعية، تكشف عن غياب معايير واضحة ومتفق عليها تحكم السلوك السياسي في العالم الإسلامي. هذه الازدواجية تتجلى في الموقف من التطبيع مع إسرائيل، حيث نجد أن تركيا تقيم علاقات استراتيجية مفتوحة معها، بينما يُهاجم البعض دولًا عربية قامت بالخطوة نفسها، رغم أن الجميع يسند مواقفه إلى اعتبارات دينية أو سياسية أو براغماتية.
فأين تكمن الإشكالية؟
1. غياب معايير ثابتة في المواقف السياسية:
– عدم وجود مرجعيّة موحدة تحدد متى يكون التطبيع مقبولًا ومتى يكون مرفوضًا، مما يجعل الأحكام مزاجية وانتقائية.
– تركيا، بحكم براغماتيتها، ترى في العلاقة مع إسرائيل وسيلة لتحقيق مصالحها الإقليمية، لكنها تُسوّق موقفها على أنه مختلف عن تطبيع الدول العربية، رغم أن الجوهر واحد.
2. التناقض في استدعاء المرجعية الدينية:
– الجميع يحتكم لجهاز معرفي إسلامي، لكن تفسيرات الحكم الشرعي تتغير حسب الفاعل السياسي وليس المبدأ نفسه.
– يتم توظيف الأصول الفقهية بطرق مختلفة وفقًا للمصالح السياسية، مما يؤدي إلى جدل بين مهاجم ومبرر ومتوقف، وكل طرف يدّعي أن موقفه هو الأكثر انسجامًا مع الشريعة.
3. افتقاد رؤية استراتيجية موحدة:
– النجاحات التكتيكية التي تحققها بعض الأطراف قد تؤدي إلى فشل استراتيجي، بسبب غياب خارطة نوايا واضحة، ما يفتح المجال لاختلاف التقديرات حول جدوى السياسات المتبعة.
– القرارات تتخذ غالبًا كردود فعل أو تحت ضغوط اللحظة، دون إطار متكامل وثابت يحدد اتجاه التحركات السياسية.
فما هي المعايير المتفق عليها –في الحد الأدنى– إن وُجدت؟
إذا كان لا بد من وضع معايير حدٍّ أدنى يمكن الاتفاق عليها، فقد تشمل:
1. عدم ازدواجية المعايير في الحكم على سلوكيات الدول المختلفة.
2. ربط أي علاقة بإسرائيل بمدى تحقيقها للمصلحة العليا للقضية الفلسطينية، وليس مجرد المصالح الضيقة.
3. التعامل مع التطبيع كخيار سياسي براغماتي، لا كمسألة إيمانية أو خيانة مطلقة، لأن المواقف الدينية والسياسية لا تتطابق دائمًا.
4. الاعتراف بأن المواقف السياسية تتغير وفقًا للسياق، لكن يجب أن تكون هناك رؤية استراتيجية بعيدة المدى، لا مجرد تكتيكات لحظية.
كذلك في قضايا المشاركة السياسيّة وقضايا المرأة وسائر أسئلة الواقع في الاقتصاد والبيئة والثقافة والاجتماع والفلسفة والتاريخ والجغرافيا… ولكن ألا يطرح ذلك سؤال درجة دقة المعايير ودرجة تضاربها وخطر ذلك على الثقة في المناهج وقدرتها على الاستجابة لتحديات الواقع؟
والغريب أن كل هذه التناقضات لا تلفتنا للأزمة المعرفيّة؛ ولكننا نصرف طاقتنا في اتهام النوايا وتوجيه اللوم البيني بدل التوجه للسؤال المعرفي الجوهري والأساسي.
إجمالًا، المشكلة ليست في التطبيع فقط، بل في غياب إطار معرفي جامع يجعل النقاش عقلانيًا ومبنيًا على مبادئ ثابتة، لا على ازدواجية انتقائية.
الكثير مخلص ويريد الحق؛ ولكن المنهج لا يسعفه؛ فينتقل للأسهل وهو إما القول بأن الآخر جاهل أو متشدد أو متسيب أو متأثر بالغرب. ومن محطة توجيه اللوم إلى أخرى تضيع الجهود والأعمار.
محاولات إدخال المقاصد على المشهد أو فقه الواقع أو المآلات من بدايات القرن؛ لم تفلح في علاج المشكلة أو لم يسمح لها بالمرور والتأثير. وهذا يقتضي مراجعة جذرية للأسباب؛ تتجاوز توجيه اللوم المتبادل والتجهيل ودعوى التشدد والتسيب.
هذا توصيف دقيق لإشكالية المنهج، حيث يظل الكثير مخلصًا في نيته، لكنه محاصر بأدوات تحليل قاصرة. حينما يعجز المنهج عن مواكبة التعقيدات الواقعية، يكون الأسهل الانتقال إلى التصنيفات الجاهزة: الآخر جاهل، متشدد، متسيب، متأثر بالغرب. ثم تبدأ دوامة اللوم المتبادل بدل معالجة أصل الإشكال.
لماذا لم تفلح محاولات إصلاح المنهج؟
على الرغم من إدخال المقاصد، وفقه الواقع، وفقه المآلات، منذ بدايات القرن، إلا أن هذه المحاولات إما لم تكن كافية، أو لم يُسمح لها بالتأثير بسبب:
– عدم تجذيرها منهجيًا: تم تناولها كإضافات جزئية، لا كتحولات جذرية في التفكير الفقهي والسياسي.
– هيمنة المناهج التقليدية: بقيت المدارس الفكرية حبيسة إطار معرفي مغلق، يصعب عليه استيعاب التحولات العالمية المتسارعة.
– أو التوظيف الانتقائي: حينما يتم استدعاء المقاصد أو فقه الواقع، يكون ذلك لتبرير مواقف جاهزة مسبقًا، لا كأداة تحليل حيادية.
لكن ما هو المطلوب؟
إذا كنا جادين في تجاوز هذه الإشكالية، فلا بد من النظر في:
1. إعادة مراجعة جذرية للمنهج بدل الدوران في حلقة التجهيل والتصنيف الأيديولوجي.
2. تطوير أدوات تحليل تستوعب تعقيدات العصر بدل استنساخ حلول لماضٍ مختلف عن الحاضر.
3. تحرير الفكر من ثنائية الجمود والانفلات، عبر بناء منهج متوازن قادر على تحقيق الاجتهاد المنتج، لا الاجتهاد الدفاعي الذي يحاول فقط تبرير المواقف المتبناة مسبقًا.
المشكلة ليست في النوايا، بل في قدرة المنهج على الفهم العميق للواقع، دون أن يكون مجرد أداة للاستهلاك النظري أو المناكفات الفكريّة. فالسؤال الذي يواجه أية أمة تمر بسلسلة ومسارات انهزامات وانكسارات متتالية هو: متى نتوقف؟ وأين تكون نقطة التحول؟ لماذا لا يحدث التوقف وإعادة التقييم؟
الإرث الثقافي للنكبات: في كثير من الأحيان، يتحول الفشل إلى حالة ذهنية بدلاً من أن يكون مجرد محطة تقييم، فتعتاد المجتمعات تكرار نفس الأخطاء دون مراجعة جذرية.
الانشغال بالخصومات الداخلية: بدلاً من التوقف لإعادة التخطيط، يتم استنزاف الجهود في تبادل اللوم وإعادة إنتاج نفس الصراعات.
غياب الإرادة الجماعية للتغيير: لا يكفي وجود أفراد متنورين إذا لم تكن هناك لحظة وعي جماعي تفرض إعادة الحسابات.
لكن هل يمكن أن توجد محطة توقف حقيقية؟
نعم توجد، ولكن وفق شروط، نستحضر بعضاً منها:
* أن يكون هناك إدراك صادق بأن الاستمرار بنفس العقلية لن يؤدي إلا إلى مزيد من الانهيارات.
* أن نمتلك شجاعة القبول بالحقيقة، بعيدًا عن العواطف والحساسيات والحزازات.
* أن يُعاد تعريف النجاح والفشل، بحيث لا يكون مجرد انتصارات تكتيكية قصيرة، بل بناء مشروع طويل الأمد يُخرج الأمة من هذه الدائرة المغلقة.
إذا لم تتحقق هذه الشروط، فسنستمر في إعادة إنتاج نفس السيناريوهات، وكأننا ندور داخل حلقة لا نهاية لها، بينما الخصوم يتحركون للأمام.





