حوار مع الباحث الروائي المغربي عبد النور مزين

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

حاوره لإيطاليا تلغراف الدكتور عبد القادر الدحمني.

 

 

هو طبيب وروائي مغربي، بدأ قاصا فأصدر “قبلة اللوست”، ثم شاعرا فأصدر “وصايا البحر”، قبل أن تأسره فتنة السرد المطوّل، فلجأ إلى الرواية، هكذا كتب “رسائل زمن العاصفة”، التي تمكّنت من بلوغ اللائحة الطويلة لجائزة البوكر العربية، ليستمر الإبداع والتألق، وصولا إلى روايته الجديدة الضخمة “جسر النعمانية”، على هامش هذا الصعود المطّرد، وتسليطا لأضواء الرحلة إلى الرواية من عوالم مهنية ومعرفية مختلفة، وبسطا لبعض عناصر التميز، وقولا للذات والذاكرة وطنجة كذلك، كان لنا هذا الحوار مع الطبيب الروائي عبد النور مزين.

1- من القصة إلى الشعر، ثم إلى الرواية، ما سر هذا التجوال بين الأجناس الأدبية؟

في البدايات الأولى، وأعني بها بدايات الافتتان بالأدب، كانت المحاولات الأولى محاولات قصصية، وذلك عبر تقليد النصوص التي كنت أقرأها وأنا بالدراسة الإعدادية ثم بالثانوي. بعد ذلك جاء الافتتان بالشعر قراءة ومحاولة كتابة الخواطر، حتى إن أول نص نشر لي، وأنا لا أزال تلميذا بثانوية سيدي عيسى بسوق أربعاء الغرب، كان نصا شعريا على صفحات إحدى الجرائد الوطنية سنة 1983، ليعقبه أول نص قصصي بعد عشر سنوات تقريبا سنة 1992 في الملحق الثقافي لجريدة الاتحاد الاشتراكي، لتتوالى بعد ذلك عملية التراكم في الشعر والقصة. هكذا زاوجت بين الشعر والقصة. لكن طبيعة كتاباتي القصصية كانت تنحو منحى سرديا ذا نفس طويل لا على مستوى التيمات ولا على مستوى الأحداث والنهايات المفتوحة، كما لاحظ ذلك بعض الأصدقاء ثم بعض النقاد لاحقا. هكذا انفتحت على الرواية من باب التجريب كامتداد لمغامراتي السردية لتخرج إلى النور روايتي الأولى “رسائل زمن العاصفة ” بعد مجموعتي القصصية “قُبلة اللوسْت” وديواني الشعري “وصايا البحر”. وقد كان لوصول الرواية إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر سنة 2016 أثرا حاسما في التعاطي معي من قبل النقاد والقراء أيضا من باب كتابة الرواية بالرغم من أن الكل تقريبا اتفق أن الرواية كتبت بنفَس شعري طاغ.
ولا أذيع سرا إذا قلت إن رواية “رسائل زمن العاصفة” فيها امتدادات من مجموعتي القصصية وخاصة قصة “التحديق في الغروب أو قبلة اللوست” التي حملت المجموعة اسمها. لذلك تجدني في كتاباتي أمزج بين الشعر والقصة والرواية حتى في النص الروائي الواحد حيث يمكن أن تجد قصصا مختلفة في نفس البناء السردي الواحد كما بدا جليا في روايتي الثانية “جسر النعمانية” حيث طغت القصص الحياتية الكثيرة لعدد هائل من الشخصيات. لكن الشعر والقصة القصيرة كجنسين أدبيين متميزين ما زالا حاضرَين بقوة في مشروع الكتابة لدي، حيث أستعِد لإصدار مجوعة قصصية ثانية وديوان شعري ثان قريبا، لأني لم أستطع، عبر كتابة الرواية، الابتعاد عن نداء الشعري السحري والقوي أو عن كتابة القصة القصيرة كشكل مستقل في الابداع السردي.

2- العلاقة بين الحقول المعرفية مطلوبة بقوة في إطار التكامل القائم والمرجو، كيف يمكن أن تستفيد الرواية من الطبيب؟

كما أسلفت الذكر، مشروع الكتابة لدي كان سابقا من الناحية الزمنية عن المشروع المهني الذي لم يكتمل إلا بعد حصولي على الدكتوراه في الطب من كلية الطب والصيدلة بالرباط في نفس السنة التي نشرت أولى قصصي القصيرة وأنا ما زلت طالبا في السنة الأخيرة قبل التخرج. لكن المسار المهني وأنا طبيب أضاف الكثير إلى تجربة الكتابة من ناحية الاحتكاك اليومي بالتجارب الإنسانية التي تضع الانسان في تجارب ومحن حياتية قاسية تختبر إنسانيته وهشاشته وطرق حروبه الخاصة لمواجهة جبروت الحياة وتجربتها الاجتماعية بكل تعقيداتها. هذه الأنماط المختلفة من الشخصيات والمواقف والتحديات والصراعات اليومية للإنسان وهو يجتاز تجربة الحياة لتكون يوميا أمام احتمالية الحياة والموت، كأنك في الخطوط الأمامية لمعركة الحياة الحاسمة. هكذا أثر المسار المهني على تجربة الكتابة بالإضافة إلى التكوين العلمي الذي يضيف نوعا من التفكير العلمي أيضا في مقاربة وتدبير إشكاليات المجتمع والكتابة معا.
3- الرواية بطبيعتها ابنة المدينة على مستوى النشأة والتطور، وحتى الاهتمام بالبادية والقرية غالبا ما يأتي متأخرا في حياة الروائيين؛ لكن يلاحظ أنك منذ روايتك الأولى أبيت إلا أن تعود إلى البادية وتعطيها حيزا مهما في “رسائل زمن العاصفة”، عدت إلى “أزلاف” بنواحي “ابن احمد” جهة مدينة الشاون ونَبَشتَ في طفولة البطل وسياقه العائلي، هل من رؤية دفعتك لسلوك هذا المنحى؟

في اعتقادي، وربما هذا صحيح إلى حدود بعيدة، أن كتابة الرواية، والأدب بشكل عام، هو عملية تواصلية بامتياز، لكن بشكل معقد يروم الاستمرارية والتجدد. وبالتالي يبرز في النهاية “سؤال المغزى” من هذه العملية التواصلية الخاصة جدا والمعقدة أيضا. لأنه في غياب سؤال المعنى لا يبقى للكتابة عموما والرواية بالخصوص سببا منطقيا للوجود. لذلك، والروائي في خضم هذه العملية التواصلية، لا بد له وهو يصيغ رسالته الخاصة، من اللجوء إلى تلك القواعد العامة التي تحكم عملية التواصل، وفي صلبها مضمون العملية التواصلية ومراميه.
هكذا انتصبت البادية كعمق مهم في خلفية العملية السردية، أولا كفضاء زمكاني له خصوصيته من حيث إشكالاته الخاصة ومتطلباته وطرق اشتغال العمليات التواصلية في أوساط البادية في جانبها الشعري والتراجيدي معا، إضافة إلى جانب آخر وهو المرتبط بالذات الكاتبة التي ترتبط بشكل قوي بتلك العوالم، لا من حيث التجربة الشخصية الذاتية ولا من حيث التعاطي معها كفضاء للفعل الاجتماعي والترافعي. لذلك تجدني أمتح من كل تلك الأبعاد كمناهل الطفولة بكل تيماتها وإيحاءاتها الشعرية والنفسية أيضا، وكذلك ارتدادات الذاكرة وكل تداعياتها. لكل ذلك، وحتى إن كانت الفضاءات المدينية حاضرة بقوة في كتاباتي، فلا بد أن تجد البادية حاضرة في كل تفاصيل الخلفية العامة تماما كسطوة الطفولة والذاكرة على مجريات المسار الحياتي للكاتب.

4- تمكنت روايتك الأولى من حيازة مكانها في اللائحة الطويلة لجائزة البوكر العربية، أي أثر لهذا التتويج على مسارك الإبداعي؟ ألم يراودك بعدها أن تكتب بغية الفوز بجائزة من الجوائز الكبرى؟

وصول روايتي “رسائل زمن العاصفة” للقائمة الطويلة لجائزة البوكر كان له أثر هام جدا على مساري في الكتابة من نواح متعددة.
أولا، لقد أعطى لي نوعا من الاعتراف بجودة نص الرواية بكل ما يعني ذلك من تقنيات الكتابة وحبكتها ومستوى الأسلوب وربما حتى اختيار الخلفية العامة وموضوع الرواية. وكل هذه الأشياء لها قيمتها عندما يكون الكاتب قادما من عالم مهني وتكويني غريب عن عوالم العلوم الإنسانية والأدب بشكل عام. وهذا عزز بشكل كبير ثقتي في مساري الإبداعي ومشروع الكتابة لدي. إضافة إلى ذلك لقد سلط هذا التتويج الضوء على الرواية وعليّ كروائي، وما تبع ذلك من حوارات في الجرائد والمجلات والملاحق الثقافية ومحطات الإذاعة والتلفزة في المغرب وفي الخارج، وكذلك العديد من الكتابات النقدية التي تناولت الرواية، الشيء الذي لم يحصل ولو القليل منه عند صدور مجموعتي القصصية “قبلة اللوست” التي مرت دون أن يلتفت إليها أحد تقريبا . وحتى الرواية نفسها لم يلتفت إليها الوسط الأدبي في المغرب إلا بعدما وصلت إلى القائمة الطويلة باستثناء نقاد قليلين أذكر منهم الناقد الدكتور محمد أحمد المسعودي الذي شجعني على المشاركة في البوكر. وكل هذا ذكرني من جديد أن التميّز في ميدان معين ليس دائما مرحبا به في البلد الذي أنتمي إليه، من طرف القائمين على الشأن الثقافي، بل كما كنا دوما نشير إليه في نضالاتنا الجماهيرية، أن هناك مراكز قوى ونفوذ داخل المجال الثقافي لا يهمها البتة أن يفرز الوطن كُتابا مميزين ونصوصا جيدة بل الأهم عندهم استمرار الريع الذي يجنونه من حلقاتهم التي تقتات على السواقي الكثيرة للمحسوبية وشبكة العلاقات التي تنتظم ضمن الهرمية المعتادة للشيخ والمريد، مما يمنع أي انفلات لأعمال مميزة إلا إذا أتت من خارج هذه الدوائر ورغما عنها. كل هذا زاد من وعيي بأن الكتابة والثقافة هي أيضا مجال للفساد الذي يعيق التنمية، ويؤسس للسطحية و”لكتابة الريع” كنمط جديد في الكتابة سواء في الشعر والقصة والرواية والأدب عموما وسائر الفنون مثل “حريرة السنيما والمسلسلات” مثلا وغيرها الكثير.
كل هذا لم يكن ليحدث لولا ما أفرزته تجربة الكتابة الروائية ووصول “رسائل زمن العاصفة ” إلى البوكر من وعي بأن الكتابة التزام ونضال أيضا من أجل قيم كنا وما زلنا نؤمن بها كبوصلة للعمل والتعامل مع الوسط الاجتماعي الذي نعيش فيه. لذلك أجدني أميل إلى الانفتاح على التجارب من خارج التجارب المحلية والمشاركة في مختلف الجوائز، على علاتها فيما يخص الموضوعية، إن توفرت الشروط طبعا، لما يتيحه ذلك من تنافس للرقي بالكتابة نحو مستويات أعلى فيما يخص الجودة. وهذا لا يعني بالضرورة أن الكاتب يكتب فقط للفوز بالجوائز، بل هي، على غرار بقية العالم، نوع من الأنشطة اللصيقة بعالم الكتابة التي تنتجها الكتابة نفسها وتغذيها وتطورها كشكل من تطوير وفرز وتقييم الكتابة الروائية نفسها، لكنها ليست الوحيدة المحددة لجودتها وقيمتها.

5- جاءت روايتك الأخيرة “جسر النعمانية” في هيئة ضخمة حازت عن جدارة انتماءها إلى ما صار يعرف ب”الرواية البدينة” بتجاوزها 600 صفحة، أية رهانات إبداعية على هذا النفس الروائي الطويل في ظل ما نتحدث عنه عربيا من أزمة قراءة؟

عندما بدأت كتابة رواية “جسر النعمانية” كنت قد قاومت محاولة البدء في رواية جديدة مباشرة بعد سنة من الرواية الأولى تحت ضغوطات نفسية كثيرة كان أقواها هي محاولة إظهار الكفاءة في الإنتاج الروائي ككاتب بدل الاقتصار على رواية واحدة ك”بيضة الديك” التي قد تكون نتيجة صدفة بحثة. لكني استطعت أن أتملص من هذا الاغراء والانتصار عليه، بانيا قراري على أساس أن على الرواية أن ترتكز على فكرة ما أو رسالة ما تكون هي المحور الذي تدور حوله الرواية وتكون أيضا قوية كفاية، لا من حيث الراهنية ولا من حيث العمق. فكان أن اهتديت إلى تلك الزلازل التي هدمت عددا غير يسير من البلدان والمجتمعات العربية والمغاربية تحت مسميات عدة وفي القلب منها اللعب على حد الهويات الجارح. هكذا كان أن اهتديت إلا فكرة “جسر النعمانية” الأساسية وهي جرح الهويات داخل الوطن الواحد لبلدان الجنوب العالمي. وهو من الموضوعات “البدينة” على حد قولكم نظرا لخطورتها وراهنيتها. لذلك فكرت أن أتناول سرديا هذه التيمة الرئيسية وتيمات أخرى ثانوية تغذيها وتعتبر تنويعات عليها من قبيل الزنوجة والأنوثة في مجتمعاتنا. وكان لا بد أن تكون الرواية بحجم الحمولة الفكرية التي رامت معالجتها بالرغم من الزمن الراهن الذي يروم السرعة والايجاز في كل عملية تواصلية. لكني كروائي لا أهتم كثيرا بالراهن فحسب لأن الرواية كما قلت سابقا هي عملية تواصلية معقدة وذات منحى تطوري، أي تتغير مع تقدم الزمن، لا من حيث التعاطي مع تيماتها الأساسية ولا من حيث التغيرات التي تطرأ على سياقات التلقي، خاصة في هذه المرحلة التي تتسم بتغيرات عميقة، كانت وراءها الطفرة التكنولوجية الهائلة التي جعلت من الهوية حصان طروادة لتفتيت العوالم القديمة وبناء هويات جديدة تتشابك فيها الخوارزميات مع مراكز القوى الجبارة التواقة إلى السيطرة والجبروت ومحو كل ما ومن يقف أمام موجات زحفها المدمرة.
فعندما تروم الرواية التعامل مع هكذا عناصر وهي تسبر أغوار تيمات شائكة فلا يمكن استسهال التقنيات والأساليب التي يمكن أن تيسر عميلة التلقي وسياقاته المختلفة إن على مستوى اللحظة الراهنة أو المتغيرات اللاحقة المحكومة بالتطور وتغير تلك السياقات. فأزمة القراءة شيء بدأ بالتحول إلى شبه أيديولوجيا لتبرير الكثير من الممارسات ومنها تبرير الضبابية في التعامل مع مجهود الكتُاَّب المبذول، وكذلك التغطية على ضعف صناعة وترويج الكتاب، وهذا راجع بالأساس إلى النظرة الرسمية لكل ما يمت بصلة إلى الثقافة والمثقفين، بل وحتى بعض الأوساط العاملة في مجال صناعة الكتاب، والتي تلقي به في هامش العملية التنموية واعتبارها شيئا من الترف والترفيه، بعيدا عن أي بعد توعوي يهتم بالوعي العام والتنشئة الفكرية السليمة كدعامة لصيانة اللحمة الوطنية والاجتماعية.
لذلك كله كانت رواية “جسر النعمانية” تراهن أساسا على تلك الفئة من القراء الملتزمة والمرتبطة بالرواية كجنس أدبي، والمشبعة بذائقة جمالية لتلقي تلك النوعية من الأعمال، والتي رغم طولها “وبدانتها” استطاعت أن تعبر الأزمنة وتصل إلينا خالصة معافاة معبرة عن عنفوان خاص لم يتنبه له حتى كتابها أنفسهم.

6- أعود إلى الشعر، وتحديدا إلى الشَّعْرَنَة، يلاحظ أنك لم تتخلّ أبدا عن الميل العام إلى تبني لغة شعرية استعارية، تثير الانتباه إلى نفسها وجمالياتها الخاصة قبل دلالتها على معنى خارجي مرتبط بالحبكة والأحداث، ما سر هذا التعلق باللغة الشعرية؟ وهل من غايات وراء هذا التبني؟

كما أسلفت القول، إن الكتابة السردية والروائية عملية تواصلية معقدة، تروم الارتباط الحواري مع القارئ والمتلقي بشكل عام لتشييد معنى مشترك. وللوصول إلى هذه الغايات كان لا بد أن تنبني هذه العملية التواصلية على أدوات معينة، تقع اللغة، من حيث هي أداة في القلب منها. ومنذ القديم ارتبط التلقي بصفة وثيقة باللغة وبنيتها واستعمالات استعاراتها من أجل بناء متخيل مشترك مع المتلقي لإمكانية الوصول إلى أقرب فهم ومن بناء معنى مشترك. وفي هذا السياق تقع شِعرية اللغة، وفق كل أشكال الشعر المختلفة، ضمن أسس بناء هياكل اللذة في التعاطي مع النص على اعتبار أن تذوق النص في استعاراته وترددات الموسيقى الداخلية لديه، ودرجة أوزانه ونبض الكلمة في مختلف أماكنها داخل النص، يجعل التلقي في مراحل معينة من ذبذبات النص وموجات اللذة لدى المتلقي لتحدث ذلك الشيء الذي نستطيع أن نصفه بعملية الاستمتاع التي تقع عميقا في جينيالوجيا النفس الإنسانية.
لذلك، وبالإضافة إلى كون هذه النوعية من الكتابة فرضت نفسها على أسلوبي الخاص، تجدني أميل عن وعي إلى الاحتفاء بهذا الجانب الذي تتيحه اللغة في التعاطي معها كأداة تواصلية، وأقصد إمكانية التنويع الشعري داخل النص السردي، وكذلك إلى استغلال تلك القدرة الفطرية عند الكائن البشري، كيفما كان وعيه ومستواه، على الاستمتاع بالأوزان والترددات ذات المنحى الموسيقى لما حباه الله به من قدرة على التعاطي مع هذه الأشكال اللغوية المبثوثة في ثنايا النص، وذلك باستعمال مركز الموسيقى الموجود في المخ. إلا أن النص السردي له مكونات أخرى من قبيل التواتر في البناء السردي وطرق وآليات البناء في الحبكة من خلق تلك اللذة والانتظار المشحون الذي يصل إلى “التنفيس” أو “التطهير” العاطفي كما فصَّله أرسطو في البلاغة والاستيطيقا والسياسة. هكذا تكمن العملية الجمالية في البناء السردي عندما أكتب الرواية، فيما يخص هذا الجانب، في البحث الدائم عن ذلك التوازن بين الشحنة الشعرية اللازمة وغير الزائدة، باعتبار أنها تخلق من صلب ومن أجل الحكي، وضرورات تطور البناء الحكائي وتواتر الأحداث على اعتبار أنه مصدر لذة أيضا، وخيط ناظم في تطور الحكي نحو التنفيس العاطفي الأخير.
7- سؤال أخير، كيف يمكنك تقييم مستوى التعاطي النقدي مع كتاباتك السردية؟ وهل أفادك هذا النقد في مراجعة أو تطوير الرؤية والاقتدار السرديين في رأيك؟

كما قلت في البداية، مجموعتي القصصية التي صدرت سنة 2010 مرت مرور الكرام تقريبا، ولم يلتفت إليها أحد باستثناء الناقد د. محمد المسعودي الذي تناولها في مقال تحليلي، وفي نظري، ذلك راجع إلى حداثة تواجدي في المشهد السردي المغربي، لكن رواية “رسائل زمن العاصفة”، وبعد أن وصلت إلى جائزة البوكر كانت محط أنظار النقاد والمهتمين بالشأن الثقافي سواء عبر مقالات نقدية أو مراجعات ثقافية أو أوراق بحثية مختلفة في المغرب والعالم العربي، وكذلك الباحثين في الجامعات المغربية عبر البحوث التي تناولتها سواء في أبحاث الإجازة أو الماستر أو الدكتوراه، ولعل آخرها دراستكم الوافية والعميقة المنشورة في الكتاب الصادر سنة 2024 والموسومة ب”تسريد الذاكرة السياسية في الرواية المغربية الجديدة بين سؤال الهوية ورهان التجريب – دراسة في رواية رسائل زمن العاصفة لعبد النور مزين”. إضافة إلى ذلك، فقد استقبلت رواية “جسر النعمانية ” بدراسات لافتة بالرغم من صدورها حديثا (يونيو 2024)، حيث تناولها بالدراسة والتحليل كل من الدكاترة محمد أحمد المسعودي، والدكتور عبد السلام المنصوري، والدكتورة هدى أنقار، والباحث في سلك الدكتوراه الأستاذ محمد لعري، منها من نشر، كدراسة الدكتور المسعودي، والأخرى قيد النشر. كما يتم تناولها في أبحاث الماستر والدكتوراه بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بمارتيل، وذلك بالإضافة إلى الكثير من اللقاءات الإذاعية والتلفزية. لذلك يمكن القول إن رسائل زمن العاصفة بوصولها إلى جائزة البوكر، فتحت -بشكل من الأشكال- الأبواب لتسليط الأضواء على تجربتي السردية. وبطبيعة الحال، كل قراءة نقدية تقدم لي المزيد من الإضاءات حول جانب من الجوانب التي ربما تحتاج تجربتي السردية الانتباه إليها وتطويرها، وعلى الخصوص، ذلك التوازن الذي يجب أن يكون ما بين النزوع الشعري وجمالية الحكائي في بناء الرواية السردي.
وشكرا لكم.

إيطاليا تلغراف


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...