المسؤولية الاجتماعيّة للدولة عن المشاريع التنمويّة الكبرى: قراءة نقديّة في تحولات التنميّة وسؤال العدالة المجاليّة

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

* الدُّكتُور عَبْدُ اللَّهِ شَنْفَار

 

 

 

في ظل التحولات المتسارعة التي يشهدها المغرب على مستوى البنيات التحتيّة والمشاريع التنمويّة الكبرى، تطرح مسألة المسئولية الاجتماعيّة للدولة نفسها بإلحاح متزايد. هل تُراعي المشاريع الكبرى، في صياغتها وتنفيذها، الأبعاد الاجتماعيّة والبيئيّة والاقتصاديّة للساكنة المحليّة؟ أم أن منطق الإنجاز المادي والتراكم الكمي للبُنى التحتيّة يُغيب سؤال العدالة والفجوة المجاليّة والإنصاف الاجتماعي؟ ما هي الكلفة غير المعلنة للتنميّة، حين تتحول إلى قوة إقصاء بدل أن تكون أداة للتمكين؟
إن هذه الإشكالات تستدعي مساءلة عميقة لبنية الخطاب التنموي الرسمي، وإعادة التفكير في أسس واستراتيجيات التنميّة، ليس فقط بوصفها فعلًا اقتصادياً أو تقنياً، بل كممارسة سياسيّة وأخلاقيّة تعيد ترتيب العلاقة بين الدولة والمجتمع، وبين المركز والهامش أو المحيط.
* أولاً: مفهوم المسئولية الاجتماعيّة في السياق العام للدولة الاجتماعيّة التنمويّة:
رغم أن مفهوم “المسئولية الاجتماعيّة” يرتبط تاريخيًا بالمقاولة والمؤسسات الاقتصاديّة، إلا أن توسيع استعماله في سياق السياسات العموميّة والقطاعيّة، يُبرز دور الدولة بوصفها فاعلاً أخلاقيًا ينبغي أن تخضع قراراتها لمعيار الإنصاف، لا فقط الفعاليّة.
المسئولية الاجتماعيّة، في هذا السياق، تحيل إلى الالتزام المبدئي للدولة بمراعاة ودراسة الجدوى والتأثير لسياساتها ومشاريعها على الفئات الفقيرة والهشة والمجالات المهمشة، والتفكير في الآثار طويلة المدى بدل الاقتصار على منطق الجدوى الآنية.
فهل الدولة المغربيّة، في هندسة مشاريعها الكبرى، تنطلق من مقاربة تشاركيّة تراعي الأصوات المحليّة؟ أم أن منطق المركزيّة والتخطيط الفوقي ما يزال يتحكم في نسق اتخاذ القرار؟
* ثانيًا: المشاريع الكبرى وسؤال العدالة المجاليّة: بين الخطاب والممارسة:
لا يمكن إنكار أن المغرب شهد خلال العقود الأخيرة طفرة في إنجاز المشاريع الكبرى (سدود وطرق سيارة ومحطات طاقة…)؛ غير أن هذه المشاريع كثيرًا ما تُنجز باسم شعار “التنميّة المستدامة”، دون أن تُواكبها إجراءات حقيقيّة لضمان آثارها الإيجابيّة على السكان المحلّيين.
* حالة وادي درعة السفلى تُقدَّم هنا كأحد النماذج الدالة:
فبناء سد المنصور الذهبي على وادي درعة، ورغم ما حققه من إنتاج للطاقة والتحكم في الفيضانات، أدى إلى جفاف الخطّارات واختلال النظام البيئي وانهيار نمط عيش قائم على الزراعة المعاشية وتدبير الماء التقليدي. ما يطرح السؤال: هل التنميّة المائيّة يمكن أن تؤدي إلى تصحر بشري ومجالي إذا غابت عنها الرؤية الشاملة؟
على المنوال ذاته، فإن مشروع الطريق السيار الدار البيضاء – مراكش – أكادير، رغم ما وفّره من شروط السلامة وتقليص المسافات، أدى إلى إفلاس اقتصادي واجتماعي لمئات الأسر التي كانت تعيش على تجارة الطرق والخدمات المرتبطة بها.
أين كانت المسئولية الاجتماعيّة عند برمجة هذا المشروع؟ هل طُرحت بدائل؟ هل أُدرجت هذه المناطق ضمن خطط الدعم الموازي؟
* ثالثًا: التنميّة والسكن: حين تُبنى البنايات وتُهمل الحياة:
مشاريع السكن الاقتصادي، التي برزت كحل تقني لإعادة إيواء سكان دور الصفيح، غالبًا ما أُنجزت في الضواحي وعلى حساب أراضٍ فلاحية خصبة، دون التفكير في البنية التحتيّة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والأخذ بعين الإعتبار نمط وطبيعة العيش لهذه الساكنة الهشّة.
فهل يمكن اعتبار هذه المشاريع “تنمية” فعلًا، إذا كانت تعيد إنتاج التهميش بأشكال جديدة؟ وأي معنى لكرامة السكن إذا لم تُرافقه شروط العيش الكريم: الحق في الشغل والحق في النقل والحق في التعليم والحق في الصحة والحق في ضمان وسائل العيش المستدام…؟
* رابعًا: الإشكالية البنيويّة: غياب الرؤية التشاركيّة والاستشرافيّة:
تُظهر الأمثلة السابقة أن الإشكال لا يكمن في المشاريع نفسها، بل في آليات تصورها وإنجازها. فغياب المقاربة التشاركية، وضعف الدراسات الاستباقيّة لتأثيرات المشاريع، وغياب بدائل مصاحبة، تجعل من التنميّة مجرّد شعار في الخطاب السياسي وواجهة تقنيّة لتراكم الإنجازات، لا مشروعًا حضاريًا لتحقيق العدالة والكرامة.
فما الفائدة من سد ينتج الطاقة، إذا كان يجفف الأرض ويهجّر الناس؟ وما الجدوى من طريق سيار حديث، إذا كان يُغلق أبواب الرزق أمام آلاف الفاعلين الصغار؟
* خلاصة تركيبيّة: نحو نموذج تنموي مسؤول ومُنصت ومنصف:
تُبيّن هذه القراءة أن التنمية، حين تنفصل عن المسئولية الاجتماعيّة، تتحوّل إلى عملية إقصاء ممنهجة للهامش أو المحيط والإنسان.
وبالتالي، الدولة مدعوة اليوم، أكثر من أي وقت مضى، إلى إعادة التفكير في نموذجها التنموي، والانتقال من منطق “الإنجازات الكبرى” إلى منطق “العدالة المجاليّة” و”الاستماع وحسن الإصغاء للسكان”. فلا معنى لمشروع لا يفتح أفقًا ولا جدوى من تنمية تُراكم البنايات وتُهمل الإنسان، وتخلق خللاً عاماً في جدليّة الاعتماد المتبادل في معادلة القرية والمدينة والفجوة بين المركز والمحيط.

إيطاليا تلغراف


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...