حسن مدن
كاتب وباحث من البحرين
من المبكّر جداً تحديد مَن مِن الرئيسَين الأميركي والروسي؛ ترامب وبوتين، الرابح في القمّة التي جمعتهما في ولاية ألاسكا، ودامت نحو ثلاث ساعات، أو على الأقل من كانت مكاسبه السياسية من اللقاء أكبر من الآخر، إذا افترضنا، حكماً من تصريحات الرئيسَين في المؤتمر الصحافي الذي تلا لقاءهما، أنّ اللقاء كان إيجابياً ومثمراً بالنسبة إليهما، رغم أنّ القمّة، وكما كان متوقعاً، لم تصل إلى اتفاقٍ بشأن سيناريو إنهاء الحرب في أوكرانيا، فالموضوع أكثر تعقيداً وتداخلاً ومتعدّد اللاعبين من أن يحسم في لقاءٍ أول غاب عنه الرئيس الأوكراني زيلينسكي، وكذلك بالنظر إلى حجم الضغوط الأوروبية التي مورست وتمارس على ترامب محذّرة إياه من الوقوع في “فخٍّ” قد ينصبه له بوتين. ورغم ذلك، أعلن الجانبان عن تفاهمات أوليّة تفتح الباب أمام اجتماعات مقبلة.
لا يمكن التعويل على تصريحات الرئيس الأميركي فقد تنفيها تصريحات لاحقة له بعد ساعات أو أيام كما عهدنا ذلك منه، خاصة في الفترة الأخيرة، ولكن يُستشف مما قاله أنّ قناعته السابقة بضرورة تقديم أوكرانيا تنازلات لا بدّ منها لحلّ الصراع قد تعزّزت، حين قال بعد اللقاء “إنّ الكرة باتت في ملعب الرئيس الأوكراني لإبرام اتفاق سلام”، مشيراً إلى أنّ روسيا قوّة كبيرة من الصعب هزيمتها، وزاد على ذلك هذه المرّة قوله “إنّ روسيا مهتمّة بصدق بوضع حدّ للصراع”، داعياً إلى أخذ “مخاوفها المشروعة” بعين الاعتبار، وهي أقوال يطيب لبوتين سماعها، وأعاد تأكيدها في المؤتمر الصحافي: “قلتُ أكثر من مرّة إنّ الأحداث في أوكرانيا بالنسبة لروسيا مرتبطة بتهديدات أساسية لأمننا القومي”.
سبق لترامب أن خاطب الأوروبيين بما مفاده: انظروا كم أنفقتم من الأموال في هذه الحرب من دون أن تفلحوا في إنهائها لصالح كييف، وبعد لقائه مع بوتين حثّهم على التدخل لحمْل زيلينسكي على قبول “التفاهم” بينه وبوتين، الذي قد يجلب السلام إلى أوكرانيا، من دون أن يقدّم أيّ تفاصيل حوله، ومومئاً إلى أوروبا حذّر بوتين من “محاولات لتعطيل التقدّم الناشئ من خلال الاستفزازات أو المكائد الخفيّة”.
اهتمت وسائل الإعلام بلغة الجسد في لقاء الرجلَين، كي تستشفّ منها مقدار التواؤم أو التنافر بينهما، فخلصت معظمها إلى أنّهما بَدَوا سعيدَين باللقاء، الذي يسّر لبوتين أن تطأ قدماه للمرّة الأولى أرضاً غربية منذ بداية الحرب الأوكرانية، وقالت هذه الوسائل “إنّ اللقاء تخلّلته إيماءاتٌ ودودةٌ بين ترامب وبوتين”، إذ صفّق الأول للثاني بيديه وهو يقترب منه، ثم مدّ بوتين يده بابتسامة دافئة نحو ترامب، الذي جذبه إلى مساحته الشخصية، بل وضع يده على كتفه، ما يعكس “صلة حقيقية” وليست عدائية، وأنّ الانطباع العام عن اللقاء يوحي بالراحة والثقة بين الرجلَين. وبعد انتهاء اللقاء، قام بوتين بخطوة رمزية بوضع الزهور على قبور الطيارين السوفييت في مقبرة فورت ريتشاردسون بألاسكا، التي تضمّ 14 قبراً لسوفييتيين، كأنّه أراد إيصال رسالة أنّه يفترض بالمكان أن يذكّر قادة البلدين بأخوّة السلاح بين شعبيهما، بالتزامن مع الذكرى الثمانين للنصر على ألمانيا النازية وعسكريي اليابان، ولعلّ مجمل هذه المؤشرات تفسر ما قاله ترامب لشبكة “فوكس نيوز” إنّه يعطي لقاءه مع بوتين الرقم “10” على مقياس من واحد إلى 10.
علينا أن ننتظر الأيام، أو حتّى الأسابيع، المقبلة لنرى إلى أي مدى تصبح الاتفاقات التي جرى التوصل إليها نقطة انطلاق نحو البدء في تسوية الصراع في أوكرانيا واستعادة العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة، مع تزايد الحديث، مع عودة ترامب الثانية إلى البيت الأبيض، عن إمكانات هائلة للبلدين لبناء شراكة تجارية واستثمارية في مجالاتٍ مثل الطاقة والتكنولوجيا واستكشاف الفضاء وفي القطب الشمالي. لكنّ الثابت أنّ الطريق نحو ذلك طويل، إلّا إذا نجح ترامب في حمل الأوروبيين، وزيلنسكي معهم، على قبول التسوية التي يراها هو واقعية، وإلّا فالبديل استمرار الحرب سنوات أخرى وتكبّد مزيد من الخسائر في الأرواح والأموال، وهو ما لا ينسجم مع رؤية ترامب الذي يقدّم نفسه في أميركا وخارجها على أنّه رجل الصفقات الرابحة، ويشغله في اللحظة الراهنة هوس أن يقدّم نفسه صانعاً للسلام، ومستحقاً لجائزة نوبل التي تحمل الاسم نفسه.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لجريدة إيطاليا تلغراف