معالم شرق جديد بزعامة الصين

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

*د. سعيد الغماز

 

يبدو أن الحرب الباردة التي أرهقت العالم لسنين طويلة لم تنتهي بعد. كما أن دول العالم لم تتخلص من آثارها رغم سقوط جدار برلين في 1989 وتفكيك الاتحاد السوفياتي ليصبح دولة روسيا الاتحادية. وبعد تفكيك المعسكر الشرقي وانضمام معظم دوله للحلف الغربي، أصبح العالم تحت هيمنة القطب الواحد بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية.

أمام هيمنة القطب الواحد، لم تجد الدول التي تريد أخذ مسافة الأمان من الدولة العظمى التي استفردت بحكم العالم، سوى التجمع في تكتلات تجعلها قادرة على فرض سيادتها وإن بشكل محدود نظرا لقوة بلاد العم سام. لكن هذا الوضع العالمي لم يدم طويلا بعد بروز قوة جديدة، يتعاظم نفوذها العالمي بشكل تصاعدي حتى صارت تتعامل بندية كبيرة مع الولايات المتحدة الأمريكية. هذه القوة الجديدة هي جمهورية الصين الشعبية التي تفيد الكثير من التقارير الدولية أنها ستصير القوة الأولى عالميا في أفق 2025.

جائحة كورونا لها دور كبير في هذا التحول العالمي وهو ما قد يستغربه البعض. هذا الاستغراب له ما يبرره إذا طرحنا الأسئلة التالية: كيف لفيروس غير مرئي أن يتحكم في العالم وتكون له سلطة التأثير في العلاقات الدولية؟ كيف لجائحة أن تكون لها القدرة على قلب موازين القوى الدولية؟ كيف لما أصبح يُعرف ب”كوفيد19″ أن يفرض على العالم التحول نحو المجتمع الرقمي، كواقع مفروض لتستمر المعاملات الدولية؟

إذا استحضرنا ترتيب الدول العظمى لسنة 2020، حسب الناتج المحلي الإجمالي، فإننا نجد في المرتبة الأولى الولايات المتحدة الأمريكية برقم 21،44 تريليون دولار، متبوعة بالصين برقم 14،14 تريليون دولار. ثم يأتي باقي العالم بأرقام بعيدة عن الدولتين السابقتين. هكذا نجد في الرتبة الثالثة اليابان برقم 5 تريليون دولار، ثم ألمانيا 3،86 تريليون دولار متبوعة بالهند 2،94 تريليون دولار، فالمملكة المتحدة في الرتبة السادسة وفرنسا في الرتبة السابعة.

الأكيد هو أن جمهورية الصين الشعبية كانت تشتغل منذ عقود لمنافسة أمريكا في زعامتها على العالم. وجائحة كورونا من هذا المنظور، كانت في صالح الصين اعتبارا إلى أن هذه الجائحة فرضت على دول العالم تسريع مخططات التحول الرقمي. هذا الواقع ظهر في الوقت الذي صارت فيه الصين أكبر دولة مستعدة للتحول الرقمي، بل إنها خطت خطوات كبيرة في هذا المجال، جعلت الدول الأخرى تبتعد عنها كثيرا بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية. يكفي أن نشير إلى أن العمود الرئيسي للتحول الرقمي هو شبكة الهاتف النقال من الجيل الخامس، والصين هي الأكثر تطورا في هذه الشبكة، وجل الدول العظمى تقتني التكنولوجيا الصينية، بما في ذلك الدول الأوروبية وروسيا والهند.

تعمل حاليا جمهورية الصين الشعبية على تكثيف جهودها للاستفادة من الوضع الحالي الذي يسير في مصلحتها، وفرض ذاتها كقوة بإمكانها السيطرة على قواعد اللعبة في العالم. ويكفي في هذا الصددن أن نعرض حدثين اثنين: تشتغل حاليا الصين على مشروع العملة الرقمية، والمشروع الصيني في هذا المجال يشتغل ليجعل 2022 سنة التخلي عن العملة الوطنية مقابل العملة الرقمية. وهو مشروع يهدف إلى تقليص دور الدولار الأمريكي في الأسواق العالمية، وبالتالي إضعاف النفوذ الأمريكي. الحدث الثاني هو اتفاق التعاون الثنائي في مجالات كثيرة الذي أبرمته الصين مؤخرا مع إيران، والذي يمتد لربع قرن.
إذا استحضرنا الاتفاق النووي الموقع بين أمريكا وبعض الدول الغربية وبين إيران في 2015، وكيف أن الصين أخذت مسافة من حليفها الاستراتيجي نتيجة لتقاربه مع المعسكر الغربي، وإذا استحضرنا كذلك هذا الاتفاق الأخير للصين مع إيران، فيبدو بجلاء أن الحرب الباردة ستعود لتلقي بظلالها من جديد على العالم مع تغير طفيف في اللاعب الثاني الذي سيصبح الصين بدل الاتحاد السوفياتي.

*كاتب وباحث

إيطاليا تلغراف


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...