رحلة الشاطر كلكامش إلى دار السلام

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

*علي السباعي

 

 

– كلكامش لا تعرض. انك لمن الخاسرين، واقصص ما جرى لك في دار السلام على الناس، لكل الناس.
– أنا الشاطر كلكامش أني لمن الخاسرين سأقص عليكم ما رأيت وما شعرت به تماماً كما رأيته وشعرت به، انه حدث بالطريقة التي أقصها عليكم:

لقد كنت من الخائبين، كنت خائباً في كل شيء، أنا خائب حتى في العاب البنات، إذ كانت بنات محلتنا يتفوقن عليّ في كل ألعابهن، آه كم كنت خائباً ولحد الآن مازلت خائباً، خائب أنا في كل شيء وكما تعلمون الناس لا تريد العصفور الذي يزقزق بل تريد الأسد الذي يزأر وبالنسبة لي أنفقت وقتي كله عصفوراً لا يزقزق، كثيراً ما حاولت في حياتي بلوغ النجاح، النجاح في اقتناص فرصة لتغيير نمط عيشتي ولكن فشلت في أدراك الطريقة الوحيدة التي توصلني إلى ذلك إلا وهي الخروج من طوق الدعة والراحة. وقد اتبعت حكمة أبناء قريتي :- ” الطائر الذي يلوذ بعشه لا خطر عليه من الصياد ” ، ولأول مرة خالفت حكمتي وقصدت مدينة السلام واعلموا أنا بطبيعتي حمار، حمار لأنني أتعثر بالأشياء ذاتها مرتين ولقد أنفقت جل وقتي وان في رد الفعل ولم أكن أبدا فعلاً.

نحن في نهاية عام القرد ، وسندخل في سنة الأرملة، وقلما تتشكل النجوم في برجي برج الجوزاء على نحوٍ ايجابي كما هو عليه حالياً، فالمريخ والمشتري يتحدان ليبعثا في نفسي الشجاعة أنا الشاطر كلكامش، كانت غلطتي بألف حاولت أن أحيط نفسي بالمجد مثل ايروسترات إذ دمر إحدى عجائب الدنيا السبع بإحراقه معبد دلفي في أثينا كي يخلد اسمه !

فكانت لوعتي على نفسي مثل لوعة الشموع وهي تنير الزوراء أول ما يفعله المرء في بغداد شراء الكتب، قمت بشراء كتب كثيرة بعد تجوالي الطويل في مكتباتها ورزمتهن في كيس بلاستيكي اصفر، صارت الرزمة أشبه بصندوق والصندوق داخل كيس بلاستيكي، كنت أنوء بحمل كتبي الثقيلات فرحاً، احملهن مسروراً بعدها حاولت الاستمتاع في هذا الجو المنعش بمنظر نصب الحرية وبعدها أعرج على حديقة الملك غازي سابقاً وحالياً حديقة الأمة بعد ثورة الرابع عشر من تموز عام ثمانية وخمسين وتسع مئة بعد الألف لأشاهد تحفة خالد الرحال تمثال الأم وبعدها أتطلع إلى رائعة فائق حسن محاولة مني لتذكر أيام دراستي في معهد الفنون الجميلة وأنا في طريقي لمرآب النهضة استعداداً لمغادرة بغداد كان الجو ينبئ بالمطر كنت أحب المطر فرائحة المطر تذكرني برائحة من أحب ، زليخة ، كان شتاءً ممطراً خصباً وكان نهاري نهاراً وردياً جديداً نهضت دار السلام على مثله من قبل، هكذا بدأ الأمر في مدينة السلام لم يكن يوماً ربيعياً استثنائياً بل كان يوماً شتائياً لم يكن خياري استمرار الرقابة رقابتي في يومي هذا أمر محتوم إلا أنني كسرته بالسير والتطلع إلى نصب الحرية وجدارية فائق حسن بينما تغذ الشمس مسيرتها نحو نهاية الأخرى من يومي كان نهاري ممتعاً جداً في بغداد جاء في كتاب (بغداد مدينة السلام) لابن الفقيه الهمداني إن المفكر والفيلسوف احمد بن الطيب السرخسي احد تلامذة الكندي ذكر في كتاب له بغداد : (( أنها مدينة العلم، شريفة المكان، كثيرة الأهل، واسعة الشكل، بعيدة القطر، جليلة الولاية، نبيهة السلطان، ينبوع الأدب ومنبت الحكم، أهلها برد الآفاق وخطباء البلاد، ما فعل فيها من خير فمشهود وما أعلن فيها من شرً فمستور، منها الفقهاء والقضاة والأمراء والولاة، اعتاد الخلافة ودار أهل الدعوة، وان لها جنساً من السعادة، ولأهلها نوع من الرياسة، وذلك انه قلما اجتمع اثنان متشاكلان، وكان احدهما بغدادياً، إلا كان هو المتقدم في لطف الفطنة، وحسن الحيلة، لين المعاملة، جميل المعشر، حلو اللفظ ، فليح الحركات، طريف الشمائل)).

بدأت الشمس ، شمس الزرواء اليوم علية ومتعبة كان الجو فيها يتراوح بين ساعتها من خفيف ذي لون اصفر مشرق إلى خفيف ذي لون اسود غامق، السماء مرشوشة بغيوم بنية بلون الطين، غيوم رصاصية ، وغيوم حمر، تلك كانت سماء بغداد إذ احتشدت فيها الغيوم مؤثثة بحشود المطر، ستمطر مطراً مترعاً بشقائق النعمان، تلك هي سماء دار السلام، بينما أسير فيها مثل سير عقرب الساعة في ساحة التحرير، أمام نصب الحرية وقفت أتطلع خاشعاً ومبهوراً كمن يشاهد نصب الحرية لأول مرة في حياته موجودات النصب كانت بلون سحنتنا سمرتنا بلون طيننا من قبل كنت أتصور إن اللون يتحلل بالمنشور ولأنها مشغولات جواد سليم ومفردات جداريته، فعلمت أن اللون يتأتى وينبثق من الطين ذلك الخلق الهائل حيث خلق منه الإنسان : (( أنا خلقناه من طين لازب )) فتذكرت اليوم الذي مات فيه أستاذي جواد سليم وأنا بعد طالب في معهد الفنون الجميلة كان الجو فيها مثل هذا الجو الآن اصفر معتم إلى خفيف ذي لون بني لذيذ كان يتقدم المشيعين الشاعر الكبير خالد الرحال يبكي وبقوة سار المشيعون من منزل المرحوم في الوزيرية مروراً بالكسرة ومن أمام معهدنا قلت مخاطباً نصب الحرية واعني جواد سليم:

– أذا عدت للحياة الآن ماذا ستبدع؟
فتذكرت ما قرأته ذات يوم ، يوم زار ضابط ألماني الفنان بيكاسو أيام الحرب العالمية الثانية في منزله يوم كانت ألمانيا تحتل فرنسا، نظر الضابط الألماني للوحة الــ ((جيرنيكا)) فأعجب بها الضابط الألماني أيما أعجاب، فقال لبابلو بيكاسو:
– أحسنت صنع الــ ((جيرنيكا)) ياسيد بيكاسو.
أجابه بيكاسو بذكاء:
– لم اصنعها يا سيدي الضابط بل انتم الذين قد صنعتموها.

كنت منذهلاً ماذا لو استفاق جواد سليم من رقدته الأبدية؟ ماذا سيبدع في حياتنا الآن ؟ شاهدت سيارة همفي فوقها جندي أمريكي صوب فوهة قناصته إلى صدري فوق القلب فاكتشفت بأنني اكبر مغفل على وجه الأرض أعيش كالنعامة . مثل النعامة كنت نعامة تدفن رأسها الصغير في الرمال ، فتظن أنها بمنأى عن الخطر خطر الآخرين والآخرون هم الخطر، وإذا بي مكشوف أمام أذى الآخرين، والآخرون هم الأذى والخطر يداهمني من كل مكان يحيط بي ويترصدني. كنت نعامة تدفن رأسها الصغير توهم نفسها بأني في مأمن. قلبي يؤلمني. يؤلمني حين أرى أمامي الجندي الأمريكي من الفرقة الرابعة مدرعات يقف هو الآخر أمام نصب الحرية في دار السلام مصوباً فوهة قناصته ذات الشعاع الليزري الأحمر فوق قلبي انه قدرنا أن نعيش حروباً لانهاية لها استدرت فأعطيت ظهري للجندي الأمريكي على طريقة النعامة التي تدفن رأسها في الرمال، رمال السلام ، فتذكرت مقطعاً شعرياً لشاعر سومري اسمه (( دنجي رامو)) رحت اردده انشده وأنا أتفحص تفاصيل نصب الحرية، حتى كأن ما قاله قبل خمسة آلاف سنة هو نفسه ما يقوله شعراء العراق اليوم، فأي دوامة لعينةٍ لم يبرأ منها هذا الوطن:
واحسرتاه على ما أصاب ” لكش “
وكنوزها
ما اشد ما يعاني الأطفال من البؤس
أي مدينتي
متى تستبدلين الوحشة بالفرح؟

أمس، واليوم اطل الصباح البنفسجي نفسه، بنفسجي خالص مطلي بلون الزعفران وهدوء غريب يسود ساحة التحرير مازلتُ أعطي ظهري للجندي الأمريكي معها ارتفعت نبضات قلبي أحس به وكأنه يكاد أن يتوقف، انه قد توقف. اجل! يكاد أن يتوقف، فأبصرت لون السماء: كان بنفسجياً خالصاً وتارة ليلكياً أو زعفرانياً مفرطاً في الجاذبية وكان الفضاء أيضا بنفسجياً مائلاً إلى الليلكي الجميل، يزداد انفراجاً حتى يتسع فينداح ، ينداح فيتسع ثم يتسع حتى يحل أول الضحى ، كان نهاراً زعفرانياً بأناقة باردة، وتحد بارد، وعقرب ساعتي يهرول مسرعاً ناحية الضحى ، ضحى هذا اليوم ببريق قصف الرعد الجاف، شعرت أنني ازداد توتراً بدأت يداي بالارتجاف لزمن قصير، صمت فتوقفت ثم واصلت سيري ناحية حديقة الأمة حالياً، وحديقة الملك غازي سابقاً ، تلك الحديقة التي غير اسمها مرتين مرة غير اسمها منذ ثورة الرابع عشر من شهر تموز سنة ثمان وخمسين وتسع مئة بعد الألف، وتغيرت معالمها بعد الخراب والتدمير عقب أحداث عام ألفين وثلاثة . ضوء الشمس مازال بنفسجياً ساطعاً من خلف غيوم زعفرانية قلت بما يشبه الاحتجاج:
– كيف هي الحياة يا أيها الشاطر كلكامش؟
ازداد اشتعال حتى صار بارقاً غزيراً كثير البرق، والسماء التي شطرها إلى نصفين مكفهرة مبللة، منفرة وثقيلة ذات لون ازرق رمادي كلون حمامة اورفلية.
اصطبغت الأشياء كلها بلون الزعفران، معالم حديقة الأمة ونافورة البط والناس وتمثال الأم والشجر والموجودات تلونت رؤوسها بالأزرق الممزوج بالوردي المائل إلى الليلكي، رحت أصغي إلى ضربات الخوف التي أخذت تحتلي ولا يزال الخوف يسكنني ، فعلمت لحظتها أن الموت بشكل عام يجعلها أكثر يقظة لنبض الحياة وأنا رجل يعيش على معتقدات قلبه وقناعاته تحت شمس ضحى الجمعة، غرة ضحى الجمعة كانت ساحة الطيران ضاجة مثلنا كالحة، والناس في الساحة يحثون الخطى مقتربين من بعضهم البعض ومبتعدين عن بعضهم البعض.

ما أروعك يا دار السلام وصلت مكان اصطفاف سيارات النهضة، لا احد في سيارة الكيا إلا السائق خارجها ينادي: نهضة .. نهضة. صعدت السيارة بيدي كنزي الثمين: كتبي، داعبت مسامعي أنشودة الهام المدفعي الجميلة جداً والمحببة إلى قلبي : موطني .. موطني .. موطني. وضعت كيس كتبي الأصفر على المقعد الذي خلف السائق مباشرة بانتظار مجيء الآخرين القاصدين مرآب النهضة، في مثل هذا الوقت وقبل خروج الموظفين من أماكن عملهم يكون عدد الركاب قليلاً وكون اغلب عامة الناس من الكسبة في أعمالهم، والأغلب الأعم من الناس يتبضعون في مثل هذا الوقت، رحت انتظر ، طال انتظاري فترجلت من سيارة الكيا واجهتني مهيبة شامخة رائعة للفنان الكبير المرحوم فائق حسن، رحت أتأملها ، العمال الذاهبون للعمل والفلاحون الذاهبون للحقل، القفص مفتوح والطيور المتحررة بيد زليخة . آه يا زليخة ياللاسى في تلك البارحة القديمة قادتني الحرب من ياقتي، ياقة قميصي المدني بعيداً عن زليخة ، زليخة التي أحب كنت غض العود شاباً ارتديت الخاكي وهناك، هناك فقط في الحرب في جبهة القتال أثناء المنازلة واشتداد القصف تعود أحزاني إلى الناصرية، وملامحي السومرية التي تتجعد كالحمامة الاورفلية تعودان إلى زليخة، لان زليخة التي اعشق كانت بداخلي حية، حية زليخة تنبض حلوة سمراء كنخلة عراقية لها عينا سوداوان واسعتان مثل شبعاد شابة أبدا تعزف على قيثارة قلبي، كانت زليخة شبعاد شابة أبدا مثل حياتي التي سرقتها الحروب.

وصلت أمام جدارية أستاذي فائق حسن انحنيت بكل قامتي لها ، انحنيت فتذكرت ذات يوم حينما كنت في النمسا وأنا أتجول في احد شوارع فينا القديمة كان الجو بنياً مشوباً بالصفرة مر موكب إمبراطور النمسا فتوقف كل من في الشارع، جاء وقوفي لتحية الإمبراطور قرب بتهوفن، كان بتهوفن واقفا على الرصيف وأنا بجانبه، ألحظه بطرف عينّي السومريتين مسروراً، مر موكب الإمبراطور من أمامنا رفع الناس قبعاتهم احتراماً للإمبراطور كما هي عادتهم للتعبير عن احترامهم للشخصيات السياسية والاجتماعية الكبيرة، مثلهم أنا فعلت رفعت قبعتي أنا عربي. لكن بتهوفن لم يرفع قبعته وبقي متوتراً عند مرور موكب الإمبراطور التفت رجل واقف إلى جانبه، وقال لبتهوفن:-
– يا سيد بتهوفن. لماذا لا ترفع قبعتك احتراماً للإمبراطور؟
أجابه بتهوفن باعتزاز:-
– اسمع يا هذا إذا مات الإمبراطور فهناك ألف رجل يستطيع كل واحد منهم أن يكون إمبراطور. لكن أذا مات بتهوفن فمن يستطيع أن يخلفه من أبناء الجنس البشري في الموسيقى؟ فتساءلت في نفسي من سيخلف جواد سليم، فائق حسن، خالد الرحال، ومحمد مهدي ألجواهري، بدر شاكر السياب، محمود بريكان، بلند الحيدري، غائب طعمه فرمان، محمود جنداري، مهدي عيسى الصقر، وجليل القيسي في صورة الفنان الحقيقي؟ من؟ وقفت وجدارية فائق حسن مواجهين للحياة لاتجاه شروق الشمس، بعد شروقها، الشمس التي لمست بعد شروقها رأسينا، أعلى الجدارية، وراسي، وانزلقت على جسدينا: جسد الجدارية، وجسدي ثم التقت علينا لمعانها البهيج مثل بساط لامع تحت أقدامنا حقا كنت مبهورا ومبتهجا بتلك الرسومات ذوات الألوان الجميلة التي أبدعتها أنامل فائق حسن، رغم الجو المنبئ بالمطر ارتجفت خشوعا، انخلع قلبي من مكانه، نظرت وتلفت بشدة حولي، عاودت الالتفات بريبة وقلق كبيرين، كانت ساحة الطيران صامتة خالية إلا من صوت الهام المدفعي وإياي، وقف الناس بعيدين جدا قرب قواعد تماثيل ثورة مايس نظرت إليهم بقلق، وكان سائق سيارة الكيا التي حجزت فيها كان أكثرهم إصرارا وانفعالا على مناداتي، في البدء لم افهم الأمر جيدا، ولم أفسر حركاتهم ونداءاتهم التي تدعوني للقدوم ناحيتهم، فانا حمار بطبيعتي، المهم، فقد بدا الأمر طبيعيا بل أكثر من الطبيعي، طبيعي جدا، طبيعي كمعرفتي تفاصيل وجهي، لم يكن الأمر غريبا أن يناديني الآخرون، وليس بإمكاني أن أخمن سر إصرارهم على مناداتي، رايتهم مصرين على أن أكون بقربهم أن اذهب حيث هم، حثثت الخطى نحوهم بعد أن غادرت روحي بلادها، مشيت بمشي ازدادت التساؤلات، سألتهم بصوت تخالطه رعشة واضحة:-
– ماذا هناك؟
صمت الناس، صمتا مجبرين عليه، تغيرت معه ألوانهم، ألوان وجوههم كان خوفهم أسطوريا بينما كان الناس يتصورون بلادتي مشاكسة صبيانية، قال سائق الكيا محتّداً وبعصبية واضحة جدا حد الصراخ علي وعيناه جاحظتان في وجهي، ووجهه يستعير صفرة وجوه الناس الخائفين قربة، صرخ:-
– هناك عبوة ناسفة في سيارتي!!!
قالها وقد بانت طبقة بيضاء في زاوية فمه وهو يشير بإصبعه الغليظ طويل الاظفر إلى سيارته، الأطفال المشاكسون مرعوبون من حديث العبوة الناسفة، حديث الموت كانت راحات أيدي المشاكسين الصغار تجفف خوفهم في عيونهم قبل خوفهم في وجوههم لازالت غارقة في ما صنعت، فيما يجري وجدارية فائق حسن تنطلق منها طيور الحرية إلى الخلف حيث تمثال الأم إلى الوراء حيث نصب الحرية، أعاد السائق ما قاله عليه ثانية:- رأيت العبوة الناسفة في سيارتي موضوعة خلف مقعدي مباشرة. التفت خلفي، ناحية سيارة الكيا، تقع عيناي على زليخة المرأة المياسة التي حررت الطيور من جدارية فائق حسن، تبتسم المياسة تضحك ضحكاً مسموعاً تنشر موسيقاه في أذني، كنت اسمعها ابتسمت، تركتهم مغادراً تجمعهم لأجلب كتبي، كنزي، وأنا اضحك بفرح طفولي مشاكس، شككت أن قطرات من المطر بدأت تتساقط، ابتعدت عن حشد الناس قليلا، وقطرات المطر تقذفني الحمائم البيض تحلق عاليا، بعيدا، بعيداً جداً، عالم غريب قد داهمني، ابتعادي وضحكي أزادا غضب الناس امسكوني عنوه وبقوة محاولين منعي من الذهاب، وكسر عزمي، الحمائم البيض والغيوم مع الحمائم ذوات اللونين الأزرق والرمادي تضرب سماء بغداد، انكسرت نظراتي، سالت نظراتي من جدارية فائق حسن على الإسفلت المترب على ساحة الطيران، وتجمدت عند حذائي، تساقطت فجأة قطرات من المطر محدثة صوتا عاليا، كان الشتاء مدرار المطر، رفعت راسي ولمحت تلك الإضاءة النادرة التي برقت على محيا الناس رغم الخوف، حدث استنفار كامل، استنفرت عيونهم وجذور قلوبهم، وهناك في الشرق أمامي بدا شق وردي ضيق يقسم السماء نصفين وعلى جانبه كانت الغيوم الرمادية تمرح بجذل، فكانت السماء(ألقت ما فيها وتخلت) فكان بالفعل شتاء كريما ومدرار المطر، فقلت ببلادة:-
– أتقصد الكيس الأصفر البلاستيك الكبير؟
أجاب بنفاد صبر:- نعم
قالها بشدة ونفاد صبر، فكررت عليه سؤالي ثانية وبكل برود وبلادة غليظتين:-
– اتعني الكيس البلاستيكي الأصفر الكبير الذي خلف مقعدك؟ يرفع صوته وعجب كبير يلتمع في عينيه اللوزتيين، وخداه اللذان عدا بلون الطين. لكن نبرة العجب واضحة في صوته يصرخ بعنف وهيجان:- نعم. نعم.
سحبني من ذراعي اليسرى، لم أعارضه ، لم اسأله ثانية عسى أن يفصح عن غضبه وعلام هو غاضب، امسك بخانقي وراح يخنقني بقوة يخنقني كانت أصابع يديه قوية غليظة متسخة ويضغط بقوة، بقوة.
ينظر السائق بعيني بحدة وقد تغيرت سحنة وجهي كثيرا لم أفكر بسقوط المطر، سقط المطر فلم اكترث لسقوطه، لقد افسدوا علي استنشاق رائحة جسد زليخة حبيبتي مع رائحة المطر، شاهدت طيور فائق حسن السجينة وهي تغادر قفصها وتغني أغنية الحرية، طار قلبي هلعن حين اقتربت منه، الجميع ينظرون إليه والي مندهشين، كان يريد أن يميتني لبلادي، أن يهشم راسي الغبي ليسفح دمي فوق ساحة الطيران فوق بقايا قواعد المسروقة لقادة ثورة مايس، فوق جدران فائق حسن فوق الناس حتى تصبغ دار السلام كلها بدم الأحمر القاني، اللون الأحمر هو الملائم الآن. الموضة اليوم لون الدم الأحمر كل شيء يفضح دمنا الأحمر تدخل الناس لتهدئته معها قل انتفاخ أوداجه وناشدوه بان يتركني لحال سبيلي قبل أن أموت بين يديه شخص بصره نحو البعيد وهو يستغفر الله، فحمدت الله لتركه رقبتي رحت أعب الهواء عبا توقف أمامي مباشرة لازال غضبة رطبا مبللا بالمطر المدرار الذي انهمر علينا، دفعت عيناه باستنشاق الهواء ثانية، لم تدمع عينا السائق ركز نظرة رجولية متحدية بعينين الدامعتين رأيت من بين دموعي شفتيه تتمتمان بحنق: مشاكس فأجبته من خلال دموعي:-
– المشاكسون هم المقدامون في الحرب.
الشمس تسحب خيوطها مع آخر حبات المطر تتجمع في بقعة حمراء تخلف في رمادية السماء لوناً وردياً خفيفاً كأنها لون بني يذكرني بلون الطين توقف انهمار المطر تماماً ابيضت أعين الناس في ساحة الطيران لسماعهم ما قلت:
– انه كيسي وفيه كتبي التي اشتر…..
في البداية كان الصمت، بعدها سرى النبأ في ساحة الطيران فحرك سكونها وترقبها تراكض الناس نحوي واستجابوا لتلك الجلبة فشارك النبأ برفع أصواتهم وراح صغارهم يقذفونني بأقذر الشتائم، فاض السيل ، سيل الكبار متدافعاً بالأكتاف يضربوني أنا بالتأكيد لم اقل شيئاً يجعلهم يضربوني وعيونهم قاسية تشع غضباً عنيفاً قد أشعل النار والغضب في عيونهم وأوقدها في قلبي بعد أن كان لون وجوههم شاحباً صار لونهم احمر، ارتجفت، ارتجفت أصبحت ألوان وجوههم حمر بلون الغضب، وفاض سيل الكبار متدافعاً بالأكتاف وبالأيدي وبالمناكب يضربوني وبالرؤوس ينطحونني ويركلونني على شكل جماعات غير منظمة وعضوية، حزينة هي المرأة المياسة زليخة حبيبتي التي حررت الطيور من قفصها في رائعة فائق حسن لانهيال مطر الضربات والركلات والبصاق والشتائم عليّ، سحبت يدي اليمنى التي تقطر دماً سحبتها شددتها بقوة سحبتها كي لا أعيد ما فعلت لأنني ندمت بعد أن اكتشفت بأنني الخاسر الوحيد في كل الذي قد جرى لأنني لم التزم بحكمة أبناء قريتي: – ” الطائر الذي يلوذ بعشه لا خطر عليه من الصياد “.
فكنت بعد ضربات الناس وتقريعهم لي مثل صاحب الحوت منبوذاً في ساحة الطيران . الجندي الأمريكي من الفرقة الرابعة مدرعات أشاهده من بين أقدام وأيادي وسيقان الناس، قبالتي، وقد جعلته أمامي وجعله كل الناس خلفهم وجعلنا كلنا تحت فوهة رشاشة وما زالت أنشودة الهام المدفعي تصدح في رأسي : موطني … موطني … موطني ، وأبناء وطني يضربونني ويصرخون بصوت غاضب هادر عالٍ : – إرهابي .

*كتبت ببغداد 10 حزيران 2006

إيطاليا تلغراف


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...