عندما يغادر إسلاميو المغرب عبر الصناديق كما جاءوا

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

عبد الحميد اجماهيري

 

 

 

استطاع حزب ‬التجمّع الوطني‮ للأحرار في المغرب، والذي ‬يقوده الملياردير‮، وزير الفلاحة، عزيز أخنوش، أن‮ ‬يفعل، مع مائة ومقعدين نيابيين،‮ ‬ما لم‮ ‬يستطعه إلياس العماري، زعيم حزب الأصالة والمعاصرة، الذي‮ ‬أسسه فؤاد عالي‮ ‬الهمة،‮ ‬المستشار الملكي‮ ‬حاليا، ‬بالعدد نفسه من المقاعد‮، ‬في‮ ‬انتخابات ‮ ‬2016، أي إزاحة حزب العدالة التنمية من‮ ‬صدارة المشهد السياسي‮.‬ ويصل أخنوش إلى رئاسة الحكومة، فاعلا اقتصاديا ورجل أعمال، بعد أن ضاعف عدد أصوات حزبه ومقاعده مقارنة مع الانتخابات السابقة، فقد ‬ارتفعت حصيلة المقاعد البرلمانية لهذا الحزب الذي‮ ‬تصدر نتائج الانتخابات التشريعية، لتصل إلى‮ ‬102‮ ‬مقعد،‮ ‬حسب معطيات رسمية‮.‬ كما انخفضت نتائج حزب الأصالة والمعاصرة الذي‮ ‬حل ثانيا إلى‮ ‬87‮ ‬ مقعدا،‮ ‬وارتفعت مقاعد حزب الاستقلال الذي‮ ‬حصل على‮ ‬81‮ ‬مقعدا‮.‬ وحصل حزب الاتحاد الاشتراكي‮ ‬على‮ ‬34‮ ‬مقعدا،‮ بزيادة 14 مقعدا عن الانتخابات التشريعية السابقة. في حين تدحرج الحزب الاسلامي، العدالة والتنمية، إلى أسفل الترتيب بـ31‬ ‬مقعدا‮ ليغلق الناخب المغربي قوس التيار الاسلامي الحزبي الذي رفعته موجات الربيع العربي منذ عقد.

في تلك الفترة، كان التقاطب حادّا، على قاعدة سياسية وبقاموس سياسي تنازعي، جعل المشهد يبدو كما لو أن القطبية أو هناك ثنائية سياسية ستتكرس في الزمن السياسي المغربي. وكان “العدالة والتنمية” يمثل، في هذه القطبية السياسية، التيار القادم مع رياح الشرق، ضمن تحوّلات الربيع العربي، وما حملته من توجّهات جديدة. وكان غريمه “الأصالة والمعاصرة” يمثل “التحكّم”، بوصفه تهمة تضعه رديفا للدولة العميقة، كما روجتها الآلة الدعائية المستعملة من الإسلام السياسي الشرقي.

النقطة التي استرعت انتباه المحللين السياسيين تناقضات الحزب الكثيرة أخيرا، علاوة على خروجه من الإجماع السياسي

مع انتخابات 8 سبتمبر، سقطت الثنائية، وكان من عميق التحوّلات أن أصبح الحزبان حليفين، قبيل الانتخابات بأسابيع قليلة. وكان هناك تخوف غير معلن من أنهما إن حصلا علي مقاعدهما نفسها في الانتخابات التي جرت سنة 2016 سيغلقان الحقل السياسي بينهما، ويدفعان الباقي إلى هوامش المعارضة، غير أن التحالف الذي جسّد التحول الحديث أفقد الانتخابات رهاناتها السابقة. ومن أسباب الهزيمة كذلك أن “العدالة والتنمية” لم يستطع أن يُقنع بحصيلته بقدر ما أنه أعطى الانطباع أنه قابل للتناقضات كلها، من أجل البقاء في الحكومة.

والنقطة التي استرعت الانتباه لدى المحللين السياسيين تناقضات الحزب الكثيرة في الآونة الأخيرة، علاوة على خروجه من الإجماع السياسي الذي حصل حول الانتخابات (ما سماه الكاتب في مقال سابق “عزلة سياسية بقفل دستوري”). وعليه، ما فقده “العدالة والتنمية” يفوق بكثير المقاعد الإنتخابية. لقد فقد القدرة على تطبيع وجوده في حقل سياسي، ما زالت مقوماته محكومة بالتعاقدات التوافقية. فقد تطبيع وجوده من حيث بقائه معزولا إبّان المصادقة على القوانين الانتخابية، إذْ كان القوة السياسية الوحيدة التي عارضت القاسم الانتخابي الجديد (اقتسام المقاعد على قاعدة المسجلين في اللوائح الانتخابية عوض المصوّتين). ومن المفارقة أن هذا القاسم هو الذي أنقذ ماء وجهه، وإلا كان سينقرض انقراضا غير مسبوق في تاريخ الحزبية المغربية.

بات واضحا أن “العدالة والتنمية” يمكنه أن يكون حزبا للتناوب السياسي، ولكن نخبته لم تستطع أن تتكرّس نخبة بديلة باستمرار

ومن مظاهر عزلته السابقة للانتخابات أنه خرج عن التوافقات الكبرى بشأن قوانين أخرى، منها مشروع تقنين زراعة القنّب الهندي (الكيف) الذي سينقد مئات آلاف من المزارعين المطاردين أو المعوزين، ويمنح الدولة المغربية مليارات الدولارات من الاستعمالات المقنّنة للقنب الهندي. ومما زاد من ضبابية الصورة التأرجح بين قيادتين: رسمية ممثلة في سعد الدين العثماني، وغير رسمية في شخص عبد الإله بنكيران، الذي كان أنصار الحزب، وجزء من الرأي العام، ينتظرون إطلالاته، وينكّت في المقابل على تصريحات العثماني وهشاشته السياسية، كما حدث عند تقديم قانون الاطار الخاص بلغات التدريس، واصطف البرلمانيون الإسلاميون، في أثناء التصويت عليه، مع قناعة بنكيران، ضد العثماني الذي قدّمت حكومته المشروع إلى البرلمان… كان الظل في هذه القصة أقوى بكثير من الجسد، والنسخة أقوى من الأصل.

المعطى الآخر حصل في التركيبة السوسيومهنية للحزب الإسلامي الذي فقد جزءا مهما من المنتخبين الأجراء باسم النقابات، وكذلك في أوساط التجار والمهنيين وأصحاب المقاولات الوسطى الذين راهنوا على الحزب، ودعموه بشريا وماديا، قبل أن يتّخذوا قرارات جد مجحفة، جعلت قطاعات واسعة من الموظفين تهجرهم، وتختار الابتعاد عنهم نحو أحزابٍ اخرى، أو العودة إلى أحزابٍ سبق لها أن وقفت بجانبها، كما هو حال اليسار في شخص الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية أو الاستقلال، أقدم حزب في المغرب.

وبات واضحا، عند جزء كبير من أصحاب القرار، أن “العدالة والتنمية” يمكنه أن يكون حزبا للتناوب السياسي، ولكن نخبته لم تستطع أن تتكرّس نخبة بديلة باستمرار، سواء في تسيير البلديات والجماعات، أو في تسيير القطاعات الوزارية. وكان الطاقم الذي عرضه على الدولة والمغاربة محدود الخبرة، تتراكم عند الواحد منهم مهام كثيرة، أحيانا بين الوزارة ورئاسة الجماعات الترابية أو المدن، ما أعطى صورة الحزب الذي يتوغل في المناصب الحكومية.

الهزيمة غير مسبوقة، ورد الفعل غير مسبوق كذلك، والسياق العام غير مسبوق، والتجربة كلها غير مسبوقة

لعل أبرز درس يمكن الخروج به أن المغرب تعايشت طبقته السياسية مع الحزب الإسلامي، ولم تنجرّ إلى أي إجراءات استثنائية، كما وقع في تونس ومصر، للقطع مع حزب له فهم فئوي في التعامل مع الفرقاء السياسيين، حزب ارتبط، في الذهنية العامة، عن حق أو عن باطل، بتقلبات الإقليم العربي أكثر مما هو متجذر في الحقل السياسي المغربي. وهو مدين للربيع العربي أكثر من التحوّلات التي يعرفها المغرب، وهو ما يجعله، في أحيانٍ كثيرة، يقف عند عتبة التطبيع العام من دون الدخول إلى البيت الكبير. لقد اعتبرت الدولة المغربية أن وجود هذا الحزب جزء من سيادتها الذاتية. ولهذا لم تقبل أية وصفات لتحجيم وجوده، بل إنها لم تنتصر حتى لأحزابٍ من رحمها الإدارية، وتركت اللعبة مستمرّة عقدا، حتى قرّر الناخب المغربي إغلاق القوس بكل سلاسة، وبقبول مصدوم للنتيجة من الحزب نفسه.
لم يسبق لأي حزب أن سقط هذا السقوط. كما لم يسبق أن قاد حزب واحد رئاسة الحكومة عقدا، في ظروف صعبة ومستجدّة للغاية، منها ما تتعلق بانطلاق الاستراتيجيات الكبرى في البنيات التحتية والفلاحة والسياحة والموانئ، والتطلع إلى نموذج تنموي جديد، يستوجب روحا توافقية أكثر من الروح المتفرّدة التي عمل بها الحزب الإسلامي. ولقد استخلص القادة السياسيون والتنظيميون ما يجب استخلاصه بتقديم استقالة جماعية. والحق أن هذا غير مسبوق، ولم يحصل أن قدّمت قيادة سياسية، بكامل أركانها، الاستقالة جزءا من تحمّل المسؤولية في الهزيمة الكبيرة التي تعرّض لها الحزب الإسلامي، وهو أمر يستوجب بالفعل القراءة الهادئة من زاوية التاريخ السياسي الحزبي في المغرب.
الهزيمة غير مسبوقة، ورد الفعل غير مسبوق كذلك، والسياق العام غير مسبوق، والتجربة كلها غير مسبوقة في نهاية المطاف.

إيطاليا تلغراف


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...