عودة إلى احتمال انهيار أميركا

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

أسامة أبو ارشيد

 

 

قبل ثلاثة أسابيع، اختار موقع أميركيٌّ محسوبٌ على شبكة الإسلاموفوبيا والصهيونية شنَّ هجوم عليَّ، وهو الأمر الذي لا جديد فيه بالنسبة لي بوصفي ناشطا أميركيا للقضية الفلسطينية، إلا أن ما استرعى انتباهي، هذه المرّة، نوعية الاتهامات التي سيقت ضدي ومستواها. كنت قبل ذلك قد شاركت، في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، في مؤتمر أكاديمي في عمَّان، تحت عنوان “نحو ملامح استراتيجية عربية جديدة للتعامل مع الصراع العربي – الإسرائيلي”. بعيداً عن التفاصيل، عَمِدَ هذا الموقع إلى فبركة عباراتٍ على لساني لم أنطق بها أبداً، بالإضافة إلى التلاعب في مضامين (وسياقات) بعض القضايا التي ناقشتها في محاضرتي. من ضمن ذلك كان الزعم إنني “تمنيت” سقوط الولايات المتحدة، لأن ذلك سيقود إلى سقوط إسرائيل، وهو الأمر غير الصحيح بتاتاً، وقد وضعت الترجمة لما قلت، بحيث لا أترك فراغاً أمام كذبٍ بواح كهذا. المهم، نسب الموقع إليَّ القول إن ثمَّة نقاشاً في أميركا اليوم، على مستوى النخب المحسوبة على التيار السائد، عن احتمالية انهيار الولايات المتحدة. وهذا صحيح، على الرغم من أنها مسألة وردت عرضاً في سياق تحليل قدّمته للتحدّيات التي تواجه الدولة الأعظم. وأتبع تقرير الموقع ذلك بسؤال: “من غير الواضح من هم الخبراء البارزون (الذين يحيل إليهم أسامة أبو ارشيد) ممن يتنبأون بانهيار الولايات المتحدة الحتميّ؟”.

لا يعنيني هنا الرد على ذلك الموقع الذي لا يحظى بمصداقية إعلامية ولا أكاديمية، بقدر ما أني وجدت في ذلك فرصةً لاستكامل مقال كتبته ونشرتُه في “العربي الجديد”، في 12 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، تحت عنوان: “هل تنهار الولايات المتحدة؟”، وهو يقدم بعض الإجابة عن السؤال المطروح أعلاه، غير أن ثمَّة إضافات جديدة جاءت في بحر الأسبوعين الماضيين تعضد أطروحته. وهذا لا يعني تعبيراً عن مشاعر “مكبوتة” عندي، كما يزعم هؤلاء، وإنما هو تحليل علميٌّ موضوعيٌّ يناقشه كبار الخبراء العسكريين والأكاديميين والسياسيين في الولايات المتحدة. .. في 17 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، نشرت صحيفة واشنطن بوست مقالين مهمين، يقرعان أجراس الإنذار تحسّباً من حرب أهلية أميركية تلوح في الأفق، تضمّن أحدهما هواجس من مغبّة انهيار المؤسسة العسكرية نفسها. الأول كتبه ثلاثة جنرالات أميركيين متقاعدين، بول د إيتون، أنطونيو إم تاجوبا، وستيفن إم أندرسون، بعنوان “يجب أن يستعد الجيش الآن لتمرّد عام 2024”. الثاني للكاتب دانا ميلبانك، بعنوان “دراسة جديدة تقول: نحن أقرب إلى الحرب الأهلية أكثر مما يود أيٌّ منا تصديقه”.

في المقال الأول، يعبر الجنرالات الثلاثة عن القلق الذي يساورهم عمَّا سيكون عليه الحال بعد الانتخابات الرئاسية عام 2024، وذلك مع اقتراب الذكرى الأولى لاقتحام أنصارٍ للرئيس السابق، دونالد ترامب، مبنى الكونغرس، في السادس من يناير/ كانون الثاني 2021، احتجاجاً على ما رأوه تزويراً للانتخابات الرئاسية التي يرون أنها سُرقت من مرشّحهم ترامب. بكل وضوح، يقول هؤلاء الجنرالات “إن ثمَّة احتمالاً حقيقياً “لحدوث فوضى قاتلة داخل قواتنا المسلحة”. ويعلنون: “الأميركيون في خطر شديد”، ذلك أن “انقلاباً” قد ينجح في المرّة المقبلة. أما منبع مخاوفهم هذه فـ”تتمثل في أن إحدى نقاط قوة جيشنا مستمدّة من تنوّع سكاننا. إنهم مجموعة من الأفراد لديهم معتقدات وخلفيات متعددة. ولكن من دون متابعة وصيانة مستمرة، فإن احتمال حدوث انهيار عسكري يعكس الانهيار الاجتماعي أو السياسي أمر حقيقي للغاية”.

نشرت صحيفة واشنطن بوست مقالين مهمين، يقرعان أجراس الإنذار تحسّباً من حرب أهلية أميركية في الأفق

يمضي هؤلاء إلى أبعد من ذلك، بالتأكيد أن “ثمَّة بوادر اضطراب محتمل في قواتنا المسلحة”. وهنا يعرضون إلى بعض حقائق معروفة، إذ من بين كل عشرة من المتهمين بالهجوم على الكونغرس، مطلع العام الجاري، واحد إما أنه خدم في الجيش سابقاً أو أنه لا يزال في الخدمة راهناً. ويشيرون هنا إلى بياناتٍ أصدرها عسكريون متقاعدون يؤيدون فيها مزاعم ترامب أن الرئاسة سرقت منه عبر تزوير نتائج الاقتراع، وكذلك إلى رفض القائد العام لقوات الحرس الوطني الأميركي في أوكلاهوما (برتبة عميد)، أخيرا، أمراً من الرئيس، جو بايدن، يقضي بتلقيح جميع أفراد الحرس الوطني ضد فيروس كورونا. وحسب الجنرالات، فإن احتمال حدوث انهيار كامل في التسلسل القيادي للقوات المسلحة وارد جداً، في حال تنازع نتيجة الانتخابات بين مُرَشَّحَيْنِ يدّعي كل منهما “الشرعية”، ويصدر أوامر على هذا الأساس. حينها، كما يحذّرون، قد يلجأ أنصار المرشّح الخاسر داخل القوات المسلحة إلى تنظيم أنفسهم وراء “القائد العام” الذي يعدّونه شرعياً، وبذلك سيكون هناك تمرّد حقيقي. وتتضاعف المخاطر إذا ما دخلت المجالس التشريعية الولائية، والكونغرس، على الخط في محاولة تنصيب مرشّح خاسر رئيساً. ويختم هؤلاء مقالهم المتشائم بتوجيه نصيحة لوزارة الدفاع: “مع استمرار انقسام البلد، كما كان دائماً، علينا اتخاذ خطوات للاستعداد للأسوأ”.

.. يقرّر مقال ميلبانك من السطر الأول أن الديمقراطية الأميركية في أزمة حقيقية، مستشهداً بخبيرة أميركية مرموقة تتنبأ بأن الولايات المتحدة “على أعتاب حربٍ أهلية.. بشكل أقرب مما يود أيٌّ منا تصديقه”. هذه الخبيرة هي باربرا ف. والتر، أستاذة العلوم السياسية في جامعة كاليفورنيا في سان دييغو، كما أنها تعمل في لجنة استشارية تابعة لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه)، تسمّى “فرقة العمل المعنية بعدم الاستقرار السياسي”. وظيفة هذه اللجنة مراقبة الدول في جميع أنحاء العالم ومحاولة استشراف أي منها أكثر عرضةً لخطر التدهور نحو العنف. وحسب قراءتها، والتي ستصدر في كتاب الشهر المقبل (يناير/ كانون الثاني) بعنوان: “كيف تبدأ الحروب الأهلية”، فإنه “إذا كنت محللاً في بلد أجنبي وتنظر إلى الأحداث في أميركا، بالطريقة نفسها التي تنظر بها إلى الأحداث في أوكرانيا أو ساحل العاج أو فنزويلا، فإنك ستلجأ إلى قائمة التحقق، وتقييم كل الظروف التي تجعل حرباً أهلية محتملة. وما ستجده أن الولايات المتحدة، وهي ديمقراطية تأسّست منذ أكثر من قرنين، دخلت مرحلة خطيرة للغاية”. ويشرح ميلبانك، نقلاً عن والتر، إن الولايات المتحدة مرّت فعلاً بمرحلتين من ثلاث مراحل، تعتمدها “سي آي إيه” في تحديد ما إذا كان بلد مقبل على حرب أهلية، وهي “ما قبل التمرّد”، ثمَّ “الصراع الأولي”، وهما المرحلتان اللتان تجسدتا في اقتحام أنصار ترامب للكونغرس، وصولاً إلى “التمرّد المفتوح”.

حسب ثلاثة جنرالات، احتمال حدوث انهيار كامل في التسلسل القيادي للقوات المسلحة وارد جداً

أخطر من ذلك، تعتبر والتر أن الولايات المتحدة “تدهورت بشكل كبير في عهد ترامب لدرجة أنها لم تعد مؤهلة من الناحية التقنية أن تكون مصنفة كدولة ديمقراطية”، ومن ثمَّ تخلص إلى أن النظام السياسي القائم في أميركا اليوم هو “أنوقراطية” Anocracy، وهي حالة ما بين الديمقراطية والحكم الاستبدادي. وتذكر والتر أن الديمقراطية الأميركية حصلت في معظم تاريخها على درجة 10، أو قريبة منها، حسب مؤشّر “بوليتي” لقياس مستويات الديمقراطية في الدول. إلا أن الديمقراطية الأميركية انزلقت، في السنوات الخمس الأخيرة، أي منذ رئاسة ترامب مطلع عام 2017، إلى 5، وهو ما يجعل من الولايات المتحدة ديمقراطية جزئية لأول مرة في تاريخها. ثالثة الأثافي، حسب والتر، إن معدل 6 على مقياس “بوليتي”، الذي تستخدمه “سي آي إيه”، في استشراف مستقبل الدول التي تراقبها يعني أن هناك “مخاطر عالية” لحربٍ أهلية”، ذلك أن مزيجاً من الحكم السيئ والتدابير غير الديمقراطية المتزايدة التي تضعف المؤسسات أكثر، قد تدفع بسهولة نحو الصراع المفتوح. ويخلص ميلبانك إلى التنبيه: “ليس من قبيل المبالغة القول إن بقاء بلدنا على المحكّ”.

إذن، مسألة استمرار الولايات المتحدة قوة عظمى أم تضعضعها، أو حتى تفكّكها وانهيارها، ليست حديثاً في الهوامش، ولا هو من باب التمنّي والتشفي، وإنما هو نقاشٌ في المتن وعلى أعلى المستويات أميركياً. وأختم بعبارة جاءت في مقالي في 12 الشهر الماضي (نوفمبر/ تشرين الثاني): “انهيار الولايات المتحدة، في المدى المنظور، ليس قدراً مقضياً. عرفت أميركا في تاريخها مراحل أكثر صعوبةً مما تعيشه الآن واستطاعت أن تتخطّاها”.

إيطاليا تلغراف


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...