بيت الأب: قراءة في رواية «السقائف الزرق» لكليزار أنور

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

 

*صالح الرزوق

 

 

مع أن بطلة «السقائف الزرق» لكليزار أنور هي سيلاف الشابة المولودة في أمريكا لوالد عراقي، تبدو لي الحكاية سيرة مبسطة ومستقيمة لثلاثة أطراف.

الأب الذي يقترن بأمريكية داخل الحرم الجامعي، ومع ذلك هذا لا يجعل منها رواية كامبوس، على طريقة دافيد لودج في «تبديل الأمكنة» changing places أو بهاء الطاهر في «قالت ضحى». فالأحداث تتطور في المنزل، ووراء أسوار الجامعة، ونحن نتعرف على التفاصيل من خلال فلاشات يتكفل بها حوار بين الأب وابنته. وتساعد هذه الحوارات في فتح نافذة ننظر من خلالها إلى داخل الأب وأسلوب تفكيره، وذلك بمنهجية شخصانية. بمعنى أن الكلام يبرأ تماما من أي شبهة حضارية، ولا يقترب على الإطلاق من الهم السياسي أو الأخلاقي، الذي تتبناه روايات الرحلة العلمية، أو ما اصطلحنا على تسميته بسوسيولوحيا صدام الشرق مع الغرب.

ودون أي شك تتمسك الرواية بمنطق وفلسفة التقاليد والذاكرة، كما فعلت جين أوستن في «هوى وكبرياء». فالعلاقة بين الجيلين، السابق واللاحق يحكمها الانتماء والخضوع. وينطوي هذا السياق على مبدأ أوديبي نظيف، فالابنة تتمسك بوالدها وتكيل له المديح، لكن لا تحاول أن تذم أو تهجو الأم التي كانت بتعبير الأب نفسه «جدارا ينتهي العالم عنده». ولذلك خيم على الأسرة جو عاطفي يخمد أي صدام محتمل بين شرق مذكر وغرب مؤنث. ويلغي الحرب الدامية المتوقعة بين الأم الإلهة، ربة ينبوع المعرفة والتطور، والأب المتأله. ولا أنسى أن ألاحظ أن العائلة كانت سعيدة لأنها اتفقت على اقتسام الغنائم: البنت سيلاف للأب، والابن جيمي للأم. وليس صدفة خارقة أو عشوائية أن يكون للأب وابنته اسم عراقي، وللأم وابنها اسم أمريكي. هذا عدا عن فرض الغياب على دائرة الأم، فقد اختارت الرواية أن تكون هي وابنها بين الأموات. ويبدو لي أن الموت في الرواية مجرد مكان آخر، فهو في بنية الرواية عبارة عن «دهليز مظلم لا يفضي إلى شيء» وعلى الأحياء أن يمروا به قسرا من خلال إحياء الذاكرة القديمة، وأحيانا هو «ضباب يمنع الرؤية». بتعبير آخر هو مجرد حجاب أو جيب سري يخفي وراءه جزءا مهما من الذات.

الطرف الثاني هو الجد.. ويمكن التعامل معه على أساس أنه أب غائب، وهذه نقطة إضافية تنظف الرواية من التفسير السالب لعقدة أوديب، فهو أولا غير موجود. ثانيا نتعرف عليه من مذكراته التي كتبها في العمادية، مسقط رأسه، ولا يفوتني أن ألاحظ في هذه الحبكة الفرعية أمرين اثنين.

إن المذكرات مكتوبة، وليست مسموعة. وهذا يزيد من حجم الخط العازل بين الأطراف، فالكتابة لا تفترض الاتصال المباشر مثل الكلام. وهو ما يضاعف من قيمتها المجازية، ويزيد من عبء التأويل والتفسير، أو أنه يضاعف من دور الشك في بناء قناعات جازمة. ويحدو ذلك بسيلاف في خاتمة المطاف للسفر إلى العمادية لتحري الحقائق.

الأمر الثاني أن الجد شخصية تجميعية أو كولاج، فمذكراته ليست من كتابته بمفرده، بل تضم أيضا حكاية اليهودي عزرا والمسيحي متى، بمعنى أنها سيرة ثلاثية تناوبت عليها ثلاث شخصيات كل منهم نمط لشريحة. ولذلك لم يشكل هذا الجد الثلاثي خطرا داهما على سلامة العائلة، إن اتبعنا التفسير الفرويدي المبسط، فهو لا ينافس الأب على امتلاك ابنته، بمعنى آخر لا يلعب دور عشيق ويختلس الابنة من أحضان أبيها. وإذا كانت كل روايات الأجيال لا تخلو من هذه المشكلة، وتصور لنا بشكل واضح غراميات الأحفاد ببيت الجد – عمليا المهد المرتجى أو الملاذ، فإن «السقائف الزرق» تلغي المشكلة بالموت، وطول المسافة الفاصلة بين الأمكنة، ثم هجرة عزرا اليهودي بسبب حرب 1948 واختفاءه من الصورة، وتحوله إلى مجرد بقايا أو حطام أو «شاهدة قبر» كما ورد على لسانه، ولذلك لا يحتل الجد موضع أم مزيفة تختلس الأبناء من ذويهم، لكنه يأخذ قيمة روحية تلعب دورا إحيائيا في تنشيط الذاكرة ثم خلق ذاكرة إضافية للحفيدة، وهو ما يتحول مع تطور الأحداث لنقطة تنوير.

الطرف الثالث والأخير هو العمادية، المدينة التي تضطر سيلاف إلى اكتشافها – بالقراءة ثم إعادة اكتشافها – بالسفر، وتستعمل في هذا المحور إمكانيات بصرية لتصنيع واقع وجداني. وبهذه الطريقة ترتفع المشاهدات من المعاناة والمشقة إلى ما يشبه الإنشاد، وأي مقارنة بين الأمكنة التي تقدمها لنا «السقائف الزرق» مع الأمكنة التي صورها لنا أدباء سابقون من أمثال محيي الدين زنكنة، تؤكد اختلاف المصادر، ففي حالة أنور لا يوجد غير رغبات مكبوتة بإعادة تعيين الفردوس المفقود كأن المشاهد هي جزر عائمة ضلت طريقها، أو انفصلت عن جحيم الشرق الأوسط ودخلت في جنة البلدان المتطورة، وتكاد لا تخلو صورة من تفاصيل وألوان التعبيري فان غوخ. بينما تخيم على حواري ومدن زنكنة كوابيس تضعه مباشرة في مواجهة مع دولة أمنية مرعبة ومجتمع افتراسي غابوي.

يبقى ثلاث نقاط مهمة.
1- إن الرواية تكتب، جزئيا، عن أمكنة لم يسبق للكاتبة أن سافرت إليها. ولا بد من أنها اعتمدت بذلك على المخيلة مثل «مقتل بائع الكتب» لسعد رحيم، فقد كتب عن براغ وباريس من خلال قراءاته لكونديرا وسارتر. وأيضا مثل «حلم حقيقي» لمحمود الريماوي الذي كتب عن بنغلاديش من خلال قراءة تسليمة نسرين، وربما لهذا السبب كانت هذه الأعمال رواية شخصيات وأفكار وليس أمكنة ولا أزمنة. عموما بالنسبة لكليزار أنور احتل الداخل العراقي نصيب الأسد بالمقارنة مع المكان الأمريكي الذي اقتصر على تمهيد قصير. وبلغة فنية كان الجزء الأمريكي يعتمد على السرد الخاطف، والجزء العراقي على المشاهد البانورامية المسهبة.

2- تركز الرواية على جانب العودة، أو الهجرة المعكوسة، من الغرب إلى الشرق. وهو ما يسميه الناقد حمزة عليوي «سيرة العائد». وإن كان لا يسعني مقارنة ذلك بعودة الفلسطيني لدياره بعد اتفاقية أوسلو، أو عودة العربي إلى الأندلس بشكل سياحي، أستطيع أن أضيفه لسلسلة من روايات العائد التي تضاعفت أعدادها في الأدبين الهندي والروسي، وبالأخص في فترة 1999 وحتى 2020. أو في المرحلة الممتدة بين بيروسترويكا السوفييت وحرب روسيا بوتين. ومن بين هذه النماذج لا يغيب عن ذهني «النمر الأبيض» لأرافيند أديغا، وبعض القصص القصيرة لأولغا زلبيربورغ. وإذا كانت الأساليب والأسباب متباينة تبقى هناك رائحة نوستالجيا قوية للزمن المفقود. وتأخذ شكل حنين جارف للأمكنة المنهوبة التي تبدو، رمزيا، بشكل قلعة محارب مهزوم. وعلى ما أرى إن رواية أنور أشبه بانتقال من عالم الأمنيات إلى مملكة الأحلام، في المقابل إن قصص زلبيربورغ ورواية أديغا تقوم على هجاء الأضداد، وتختار أن لا تنتمي إلا لهوية مؤجلة، لذلك فإن التشابه بالمسار لا يدل على تطابق في الاتجاه. هي رواية عادات وتقاليد وليست رواية نظام وأيديولوجيا – أو نفي لعقيدة تحرق وتطحن رغبات الأفراد، ومنذ البداية وضعت أنور بيت الأب في سياق كوني بدءا من السقوف الزرقاء وحتى الغلاف الأزرق لدفتر المذكرات، فهو لون البحار والمحيطات، وكذلك لون السماء، ولذلك لا يسعني إلا أن أرى أنها رواية حدود، بل هي رؤية اجتماعية.

3- لا تتطور الرواية بشكل هرمي، لكن بطريقة دائرية، وتتقاطع فيها ثلاث دوائر متصلة هي بيت الأب، وعالم الموت أو الغياب، حتى أنه هو الذي يبني الجسور بين الشرق والغرب، وأصلا تدلف سيلاف من هذا الباب إلى ذاكرة أسلافها، أو ما يسميه أمين معلوف باسم الأصول origins في رواية حملت هذا العنوان. لقد كانت حركة هذه الدائرة عكسية، من الحاضر إلى الماضي. وهي حيلة أو خدعة نلجأ إليها للهروب من الذات والاختباء في ذات بديلة، أما الدائرة الثالثة والأخيرة فهي منطق الرحلة نفسه، ومن المؤكد أن التعرف والاكتشاف هما الجزء الأهم من العمل، وكانت الغاية هي بناء ذات وطنية على أساس معرفي، ولذلك يمكن أن تقول إن الرواية هي أنشودة الأب الميت الذي فرض نفسه مجددا على مسرح الحياة. وليست صورة للأم الميتة التي طواها العمل سريعا في طيات النسيان. إنها رواية مكتوبة بأسلوب غربي، وبعيون غربية، جدلا، عن ألغاز المشرق وعن جدواه وضرورته، وهو ما يحولها إلى عمل تبشيري له علاقة بروح الحضارة الميتة والمجتمع الحي والمتجدد.

صدرت الرواية في بغداد عام 2022

*كاتب سوري

إيطاليا تلغراف


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...