عندما يعود “القاعدة” إلى اليمن من البوابة الجنوبية

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

 

بشرى المقطري

 

 

تنشط الجماعات الدينية، على اختلاف مذاهبها في المجتمع اليمني، بوصفها قوة متنامية، عزز تقويض الدولة وطول أمد الحرب من فاعليتها، فمن الجماعات الدينية التي أصبحت جزءا من سلطات المرحلة الانتقالية، بما في ذلك سلطة الأمر الواقع في صنعاء، إلى جماعات دينية أخرى أقلّ فاعلية، تنشط هذه القوى بحيث تستطيع إعادة تنظيم نفسها. وفي مركزية الجماعات الدينية، يمثل تنظيم القاعدة في اليمن وجزيرة العرب إحدى القوى الفاعلة على الأرض، ومع أنه قلص من نشاطه تحت ضغط أزماته الداخلية، بحيث انخفضت عملياته في العام الماضي، فإن عودته إلى الواجهة، أخيرا، مؤشّر على قدرته على التكيف مع أي تحولات طارئة، إذ تسنده صراعات أطراف الحرب المحلية وسلطاتها، إلى جانب بيئة عُنفية مفقرة يتسيّد فيها الديني، بحيث تمنحه هذه المعطيات عوامل الاستمرارية.

كقوة إسناد أكثر من كونه طرفا، انخرط تنظيم القاعدة في حرب الفرقاء اليمنيين وحلفائهم الإقليميين، فقد قاتل في صفوف المقاومات المحلية ضد جماعة الحوثي التي خاضت الحرب أيضا على أساس مذهبي. وإذا كان قد استفاد من استراتيجية المتدخلين نتيجة تفاهماتٍ غير مباشرة مع السعودية، بحيث منحه ذلك غطاءً للحركة وتجنيد مقاتلين، بما في ذلك حصوله على عتاد عسكري، فإن تغيّر المقاربة الدولية حيال الحرب، والتي صعّدت من ضرورة دفع الأطراف لوقف الحرب/ مقابل تحريك ملف مكافحة الإرهاب، حوّل تنظيم القاعدة إلى هدف لحلفائه السابقين قبل خصمه العقائدي، إذ إن دفع عناصره في جبهات القتال عرّضه لانكشافٍ أمني أسفر عن استهداف عدد من قياداته. ومع انتقال زعامة التنظيم إلى خالد باطرفي، بعد مقتل قاسم الريمي في غارة أميركية في فبراير/ شباط 2020، واجه التنظيم أزمات داخلية، ونقص التمويل، إلى جانب اضطراره لمواجهة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) الذي ينشط في مناطقه في مدينة أبين. كما أن سيطرة جماعة الحوثي على معظم مديريات مدينة البيضاء شكّلت ضغطا آخر على تنظيم القاعدة، بحيث انسحب إلى مناطق جبلية، بما في ذلك استمرار استهداف قيادته الميدانية، منها مقتل صالح بن سالم بن عبيد عبولان، المكنى أبو عمير الحضرمي، أحد مساعدي زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن، في يناير/ كانون الثاني الماضي. وإذا كان التنظيم قد واجه ضغوطا عديدة، أثرت على نشاطه، فإن تحدياتٍ أكثر جذريةً دفعته إلى الواجهة مجدّداً، إذ يمثل قيام أي سلطة في مناطقه تحدّياً له، فعلى الرغم من إدارة علاقته مع الحلفاء الإقليميين وسلطة الرئيس عبد ربه منصور هادي وفق المصالح المتبادلة، بحيث ضمن له شكلا ما من الحماية، إلى جانب استفادته من حالة الصراع البيني التي شهدتها المناطق الجنوبية، بحيث خاض مقاتلوه المعارك مع القوى المتصارعة، بما في ذلك تنفيذه اغتيالاتٍ لصالحها، فإن تغيير مواقف الحلفاء من “القاعدة”، ثم تغيير شكل السلطة دفعاه إلى تبنّي موقف حاسم منها، إذ أعلن التنظيم في الـ17 من إبريل/ نيسان المنصرم رفضه المجلس الرئاسي، واتهمه بالتواطؤ مع جماعة الحوثي، وبأنه أداة بيدي السعودية والإمارات. ويبدو أن تبنّي هذا المجلس خيار مكافحة الإرهاب، بضغط من المموّلين الإقليميين والمجتمع الدولي، واحتمال التنسيق مع الإدارة الأميركية، جعل تنظيم القاعدة يستبق أي خطوةٍ تستهدفه في هذه المرحلة، إلى جانب أن تبنّي السلطة الحالية خيار التهدئة مع جماعة الحوثي لا يصبّ في صالح التنظيم، بحيث قد يوحّد الأطراف ضدّه، كما أن عودة السلطة إلى مدينة عدن، حتى مع ضعفهاـ تشكل تحدّيا لتنظيم القاعدة، واحتمال صدام مقاتليه مع القوى الأمنية، ولذلك اضطرّ للخروج عن سياق المهادنة حيال سلطةٍ قد تضيق عليه في مناطق نشاطه.

أصبحت المناطق المحرّرة بيئةً خصبةً للقوى والأحزاب الدينية، ومن ثم مخزونا بشريا محتملا لاستقطاب المقاتلين الجهاديين

مثّلت المناطق الجنوبية، بما في ذلك المحرّرة من سلطة الحوثيين، جغرافية ملائمة لنشاط الحركات الدينية الدعوية، بحيث سيطرت على المجال العام، مقابل تقويض الهامش المدني والديمقراطي، وإنْ ينطبق ذلك على جميع المناطق اليمنية، فإن سيطرة جماعةٍ دينيةٍ شيعيةٍ متشدّدة، كجماعة الحوثي، على المجال العام في المناطق الخاضعة لها، وتنكيلها بالقوى المختلفة، بما فيها الأحزاب السياسية، قلّصا من حضور القوى الدينية في العلن، فيما أصبحت المناطق المحرّرة بيئةً خصبةً للقوى والأحزاب الدينية، ومن ثم مخزونا بشريا محتملا لاستقطاب المقاتلين الجهاديين. وإذا كان تنظيم القاعدة قد واءم بنيته التنظيمية مع المجتمعات المحلية، فإن نطاقه الجغرافي تعرض لتمدد وانحسار بحسب التحديات المحلية وقوة السلطة وضعفها، إلى جانب تأثير أزماته الداخلية على نشاطه الميداني، إلا أن الرقعة الجغرافية وإنْ تغيّرت، فإنها لا تزال تمثل مناطق نفوذ للقاعدة، فمن المناطق الجبلية في مدينة البيضاء التي مثّلت طوقا آمنا إلى حد ما لعناصر التنظيم، نتيجة تمتعه بشكلٍ من العلاقات مع بعض زعامات القبائل، إلى مدينة أبين التي تعدّ أهم مناطق نفوذه استطاع في مراحل سابقة إقامة إمارته الإسلامية، على الرغم من تنافسه مع تنظيم الدولة الإسلامية في أبين، فإن تنظيم القاعدة استأنف نشاطه أخيرا، وذلك باختطاف موظفين أمميين. وإلى جانب أبين، حافظ على معاقله القبلية في أرياف مدينة شبوة، فيما مثلت حضرموت جغرافية ملائمة لنشاط التنظيم من المكلا، حيث أقام سلطته في العام الأول من الحرب إلى المناطق المتطرّفة والصحراوية في وادي حضرموت، بحيث عاود نشاطه في مناطقها، مستفيدا من فشل السلطة المحلية في تطبيع الوضع الأمني، إذ تمكّن، في منتصف إبريل/ نيسان الماضي، من إطلاق سراح عشر من قياداته في السجن المركزي في مدينة سيئون، بما في ذلك اختطاف خمسة موظفين أمميين في مارس/ آذار الماضي. وإذا كان نطاق انتشار المقاتلين السلفيين المهجّرين من منطقة دماج بمدينة صعدة قد ساعد تنظيم القاعدة في استقطاب بعض القيادات الميدانية إلى صفوفه، بما في ذلك الاستفادة من نشاطها الدعوي، فإنه ضمن جيوبا مُناصِرة في بعض أحياء مدينة عدن، وأرياف تعز ولحج، إلى جانب مدينة الضالع التي تنشط فيها عناصر السلفية الراديكالية، والتي أصبحت بيئة خصبة لنشاط التنظيم، إذ إن تداخل حدودها مع مدينتي البيضاء وأبين مكّن عناصر “القاعدة” من سهولة الانتقال إلى أريافها. كما ساعدت “سلفنة” الحياة اليومية التي كرّستها السلفية المتشدّدة بالضالع في تنمية أرضية لتوسّع التشدّد الديني، إلى جانب تنسيق “القاعدة” مع هذه القوى، ومن ثم منحها غطاء للحركة، بحيث استطاع التنظيم تنفيذ أول عملية اختراقٍ أمنيٍّ ضد سلطات المرحلة الانتقالية، وذلك باستهداف مقرّ الأمن في مدينة الضالع في السادس من مايو/ أيار الحالي، أسفر عن مقتل نائب قائد قوات الحزام الأمني، العقيد وليد الضامي، وقائد وحدة مكافحة الإرهاب، العقيد محمد يحيى الشوبجي، بما في ذلك مقتل القياديين في تنظيم القاعدة، الأخوين، سليم علي صالح المسن وصالح المسن.

اختلاف طبيعة المؤسسات الأمنية في المناطق الجنوبية وتباين ولاءاتها السياسية والقبلية، يسهلان نشاط وتنقل عناصر تنظيم القاعدة

للتمدّد الجغرافي مخاطر بالنسبة لقوى دينية اعتمدت على السرّية في التنقل وتنفيذ هجماتها، خصوصا مع حالة الانكشاف الأمني الذي يواجهه تنظيم القاعدة، كما أن حرصه على إطلاق سجنائه نتيجة عوائق تجنيد مقاتلين لصفوفه يحدّ من خياراته، إلى جانب أن تبنّي السلطة الرئاسية مكافحة الإرهاب أولوية في المرحلة المقبلة قد يجعل التنظيم في معركة مكشوفة، بيد أن قدرته على توظيف اختلالات أجهزة السلطة قد تقلّص من خسائره، إذ إن اختلاف طبيعة المؤسسات الأمنية في المناطق الجنوبية، من منطقة إلى أخرى، وتباين ولاءاتها السياسية والقبلية، لا يعيق فاعليتها فقط في مواجهة “القاعدة”، بل يسهل نشاطه وتنقل عناصره، كما أن اختراقه بعض الألوية العسكرية والأمنية التي شكّلت في الحرب، والتي تضم عناصر متشدّدة متعاطفة مع “القاعدة” يوفر له قدرا من الحماية، أو على الأقل قدرا من التنسيق الاستخباراتي، خصوصا في المناطق الجنوبية. وفي ظل عجز السلطة الرئاسية عن توحيد منظومتها الأمنية وإدارة المناطق المحرّرة، بما في ذلك الجنوبية، فإن غياب سلطات أمنية قوية وموحّدة، يُضعف قدرتها على ملاحقة عناصر التنظيم، كما أن تجاهل السلطات المتعاقبة، بما فيها السلطة الانتقالية، العدالة الجنائية لقضايا الإرهاب، يمنح عناصر تنظيم القاعدة والجماعات الراديكالية الأخرى غطاءً لاستهداف ضحايا آخرين، ومن ثم إفلاتها من العقاب، إضافة إلى أن تحوّل القوة السلفية الجنوبية المقاتلة إلى سلطةٍ ضمن المجلس الرئاسي، قد يمكّن “القاعدة” من إقامة تحالفاتٍ مع العناصر غير المنضبطة، فضلا عن إمكانية عقدها تحالفاتٍ مع القوى التي جرى استبعادها من السلطة. وإذا كان التنظيم قد استفاد من الثغرات الأمنية لتنفيذ هجماتٍ على قياداتٍ أمنية، بما في ذلك إطلاق سراح سجنائه، فإن استخدامه ورقة سياسية سلاح اتّخذته القوى ضد بعضها البعض، وهو ما يعزّز من قدرة التنظيم على توظيفه لصالحه، بما في ذلك عقد تفاهماتٍ مع خصومه العقائديين.

معظم عمليات “القاعدة”، تنطلق من مناطق تماسّ تسيطر عليها جماعة الحوثي، ما قد يعني تسهيل حركة عناصره لشن هجمات ضد خصومهما

في المعادلة المذهبية المحلية، يبرز تنظيم القاعدة مقابل جماعة الحوثي قوتين عقائديتين متناقضتين، تقدّمان نفسيهما ممثلين حصريين للإسلام، بشقّيه السني والشيعي، إلى جانب تماهي مشروعهما للدولة المذهبية التي تدير المجتمع. لذلك وإن بدت جماعة الحوثي وتنظيم القاعدة على طرفي نقيض، فهما بوصفهما قوتين مذهبيتين مقاتلتين، تعزّز إحداهما الأخرى، فمن جهة، إذا كان عداء جماعة الحوثي لتنظيم القاعدة هو اللافتة السياسية التي وظفتها لخوض حروبها في المناطق اليمنية، وتقديم نفسها قوة تكافح الإرهاب، فإن إرهابها المحلي كرّس التصدّعات المذهبية وحدّة الاستقطاب الديني، بحيث صبّ في صالحهما. ومن جهةٍ ثانية، وعلى الرغم من شنّ جماعة الحوثي حملات اعتقالٍ ضد المعارضين بتهمة الانتماء لـ”القاعدة”، فإنهما عقدا أكثر من صفقة تبادل أسرى، مقابل رفض الجماعة إطلاق سجناء سياسيين مدنيين، إضافة إلى أن معظم عمليات “القاعدة”، تنطلق من مناطق تماسّ تسيطر عليها جماعة الحوثي، ما قد يعني تسهيل حركة عناصر تنظيم القاعدة لشن هجمات ضد خصومهما.

وفي سياق دولي، يهدّد تحول جماعة الحوثي إلى خطر على الأمن الدولي والملاحة، بما في ذلك استهدافها منشآت نفطية في السعودية، بتفاقم مخاطرها على إمدادات الطاقة، ومن ثم نقلها إلى مستوى مشابه لخطورة تنظيم القاعدة على المصالح الدولية، ومن ثم تتقاطع أجنداتهما دوليا، وإنْ توقفت هجمات التنظيم العابرة للحدود. كل ذلك يضاف إلى تقاطع أجنداتهما في السياق المحلي، وذلك لعدائهما السلطة الرئاسية، بما في ذلك حلفاؤها الإقليميون، ما يجعلهما أقرب في هذه المرحلة إلى تنسيق أهدافهما، وإنْ بشكل غير مباشر، على أن الأخطر من تماثلات قوةٍ دينيةٍ تنهض على حساب استعادة دولة اليمنيين ومدنيتها، هو أن النموذج الطالباني، في نسخته الشيعية، الذي تحرص جماعة الحوثي على تطبيقه في المناطق الخاضعة لها، لا يعزّز فقط من تطرّف الجماعات الدينية، بما في ذلك “القاعدة”، بل يمنحها حظوظا أكثر في إنشاء نماذجها الدينية الخاصة.

إيطاليا تلغراف


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...