قصتي مع الاهتمام بعلم مقاصد الشريعة الإسلامية

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

*د. وصفي عاشور أبو زيد

 

 

أصبح الفكر المقاصدي في عصرنا روحا تسري في الفكر والفقه والعقيدة والأخلاق الإسلامية، ولا شك أن مجال التأصيل والتنظير قد قطع شوطا لا بأس به في الدرس المقاصدي، وكذلك مجال التفعيل في العلوم ولكن بدرجة أقل.

وبقي المجال الميداني والفضاء العام والقضايا المثارة التي تحتاج إلى نوع من الفهم الصحيح للشرع والاستيعاب الواسع للمقاصد والإلمام الدقيق بتفاصيل الواقع بما يمكّن من تصوره الصحيح السليم الأمين كما هو وبيان رؤية الإسلام في الأحداث المستجدة والنوازل المدلهمة التي تنزل بالأمة في ضوء المقاصد وبمنظور المقاصد، ولا سيما في مثل هذه الفترات التي تشهد تحولا ضخما شاملا في حياة الأمة والعالم كله، والتي عهدنا استدعاء الفقه المقاصدي والاستنجاد به في مثل هذه الفترات عبر التاريخ.

ومن فضل الله تعالى علي أن وفقني للاهتمام بالمقاصد وفكرها في وقت مبكر من حياتي، حيث بدأ اهتمامي الدراسي بها وأنا في الفرقة الأولى بكلية دار العلوم جامعة القاهرة عام 1414 هجري/1993 ميلادي، خاصة حين درَّسنا أستاذي الدكتور صلاح الدين سلطان -فرج الله عنه- مقرر “فقه العبادات” ونحن طلاب بالفرقة الأولى، حيث كانت له لمساته التربوية ونظراته المقاصدية في ما كتبه ودرَّسه لنا في فقه العبادات، بما يُظهر حيوية الفقه ونداوته ويجعلك تقف على عظمة الفقه وحلاوته.

لم يكن الدكتور صلاح الدين سلطان يركز فقط على الأحكام الشرعية للعبادات من حيث الفرائض والواجبات والسنن والمندوبات والآداب والمباحات والمحظورات والمكروهات والمحرمات، وإنما كان يتأمل في فروع العبادات وأركانها وآدابها وواجباتها وصفاتها، مما يمكنه من النفاذ إلى أعماقها، مستخرجا من خلال النصوص الشرعية مقاصدها وأسرارها، ومبينا أثرها في الفرد والأسرة والمجتمع والدولة والأمة.

كان يرصد آثار العبادات ومقاصدها الروحية والعقلية والجسدية، كان هذا منهجه في الطهارة والصلاة والصيام والزكاة والحج جميعا، ولا يزال حتى كتابة هذه السطور يوجه إلي النصح الصافي والتوجيه العلمي والتربوي حتى وهو في زنزانته حفظه الله وفك أسره.

وفي السنة التمهيدية للماجستير عام 1998 ميلادي كلفنا أستاذنا الدكتور محمد إبراهيم شريف -رحمه الله تعالى- ببحث لمادته نختاره من بين عدة بحوث، فاخترت عنوان “مقاصد الشريعة أصولا وفروعا”، حيث تهيأ لي أثناء إعداد هذا البحث الاطلاع على مصادر المقاصد ومراجعها.

ذهبت إلى فرع المعهد العالمي للفكر الإسلامي في حي الزمالك بالقاهرة الذي كانت مكتبته عامرة بكتب المقاصد وكتبت البحث، ومما أذكره منه أني ناقشت قضية “العِرض”، وهل يعد حفظه كلية مستقلة عن النسل أم لا، وأطلت في ذلك النفَس، مما كان له أثر كبير في تعميق هذا الاهتمام عندي، وقد ضاع هذا البحث مني، ولكن من لطف الله أن احتفظت بما قلته في موضوع العِرض وضمّنته بعد ذلك كتابي “رعاية المقاصد في منهج القرضاوي”.

أما شيخي الأكبر الإمام يوسف القرضاوي -نفع الله الأمة بعلمه وجهاده وشفاه وعافاه­- فقد كان لمؤلفاته التي تسري فيها روح المقاصد كما تسري الدماء في العروق أثر كبير في ترسيخ هذا الاهتمام وتوسيعه عندي، حيث كانت مؤلفاته بوابتي إلى معرفة الإسلام وفقه الشريعة حتى تم لقاء شخصي بيني وبينه عام 1999 ميلادي ثم التتلمذ المباشر عليه عبر لقاءات متتابعة في “ملتقى تلاميذ القرضاوي”، وفي تواصل شخصي وغير ذلك مما رويته في كتابي “ذكرياتي مع شيخنا الإمام يوسف القرضاوي.. ملامح علمية وإنسانية” (لم يطبع بعد)، مما كان له عظيم الأثر في نفسي وكبير التأثير في عقلي، وهو ما جعلني أنظر في القضايا والأحداث بمنظور المقاصد، وأوسّع مجالات تفعيل المقاصد والفكر المقاصدي والإفادة منه في مجالات العلوم، بل في مجالات الحياة وقضاياها جميعا.

كما كان لتواصلي -عبر البريد في البداية- مع شيخنا العلامة الدكتور أحمد الريسوني -الذي بدأ عام 2005 ميلادي قبل أن يبدأ عمله خارج المغرب- أثر ملحوظ في تعميق هذا الاهتمام عندي، ثم كان اللقاء به بعد ذلك والتواصل المباشر الحي والمناقشات حول المقاصد ومستجداتها ودراساتها وهمومها، والمراسلات والتساؤلات التي لم يكن يبخل علي أبدا بالإجابة عنها والإفادة فيها.

وقد حباني الدكتور الريسوني بقراءة رسالتي للدكتوراه “المقاصد الجزئية” قبل نشرها، وكتب لي 7 صفحات ملاحظات عليها، ثم تكرم بكتابة تقديم لها، ومما جاء فيه قوله “ورغم أن الدكتور وصفي كان -ولا يزال- يشتغل ويتحرك في اتجاهات عديدة فإن ذلك لم يضعف ولم يقلل من كثافة اعتنائه بالبحث عن مقاصد الشريعة وما يدور في فلكها، وبحكم الاهتمام والتخصص المشترك بيننا كان يأتيني كلما سنحت له فرصة هنا أو هناك أو يتصل بي بأي وسيلة ممكنة، ليسألني أو يستوضحني أو يناقش معي آخر مستجدات المقاصد، فأجد عنده من الجديد المفيد أكثر مما يجد هو عندي، ولفرط حرصه وتتبعه ومناقشته كل ما يتعلق بالمقاصد كنت أقول له ولبعض أصدقائه عنه “هذا مجنون المقاصد، ومن الجنون فنون كما يقولون”.

بل شاركتُ فضيلته -بدعوات منه- في ندوات خاصة بالمقاصد وفقهها وتفعيلها في المجالات المختلفة، فأكرم به من أستاذ قدوة وعالم عامل مجاهد! وأنعم به من معلم ومربٍ ورجل يعرف قدره وقدر العلم الذي يحمله! وما زلت في تواصل دائم معه حتى كتابة هذه الكلمات، حيث كنت في ندوة معه، لمناقشة كتابه “قواعد المقاصد” في ندوة أقامها المنتدى العالمي للوسطية.

وابتداء من مشواري في الدراسات العليا حتى الآن حاولت أن أتفاعل مع قضايا أمتي، وأنظر إليها في ضوء المقاصد وفقهها وفكرها، حيث تناولت قضايا فقهية وفكرية ونوازل معاصرة ووضعتها على ميزان المقاصد الهادئ الذي يبين أحكامها ويضبط مسارها ويرشِّد سيرها ويستوعب واقعها ويرسم ملامح مستقبلها.

وحين قدر الله لي أن أكتب في المناسبات والعبادات مثل الصيام أو الحج أو الهجرة نظرت إليها نظرات جديدة في ضوء منطلقاتها وسيرها وأهدافها من منظور المقاصد، وهكذا كان تناولي لقضايا الواقع والأمة حتى أظلنا عصر الربيع العربي، فكتبت عنه وعن قضاياه ونوازله في ضوء النظر المقاصدي إلى أن تعثرت مسيرة الربيع العربي وحدثت انقلابات عسكرية عليه كما يحدث للثورات عبر تاريخها من قبل الثورات المضادة، فوفقني الله تعالى لتناول هذه القضايا من منظور مقاصدي كذلك.

وقد أكرمني الله تعالى بأن كتبت مئات المقالات في الفقه والأصول والفكر والتربية والدعوة وقضايا الأسرة والسياسة والاقتصاد، ورأيت أنه قد يكون من النافع لي عند الله ومن المفيد لأمتي وقرائي أن أخص ما كتبته عن القضايا والوقائع من رؤية المقاصد دون غيره بالجمع والترتيب والتبويب وأخرجه إلى النور، ليكون إسهاما متواضعا في تفعيل فقه المقاصد والفكر المقاصدي في قضايا أمتنا المعاصرة عسى الله أن يتقبله بقبول حسن ويكتب به التغيير للأحسن، جمعت هذه المقالات المتنوعة وبوبتها موضوعيا، ففيها ما يخص العبادات وفيها ما يتعلق بالقضايا الفكرية، ومنها ما يتصل بقضايا تربوية ودعوية، ومنها ما يتحدث عن أفكار اقتصادية واجتماعية، ومنها ما يدور حول الأحداث الثورية والمناسبات الإسلامية، وسميتها “رؤى مقاصدية في أحداث عصرية”، صدرت منها 3 أجزاء حتى الآن، والرابع في الطريق.

وحين بدأت تجميع مادة الجزء الأول منها وتبويبها وصلني خبر بأن رسالة ماجستير نوقشت عن القضايا الفكرية المعاصرة “مجلة الأزهر نموذجا”، خص الباحث بالدراسة الفترة التي ترأس فيها المفكر الكبير الدكتور محمد عمارة تحرير المجلة.

وكان الدكتور عمارة قد دعاني للكتابة فيها حين تولى تحريرها، حيث أراد أن يبرز عددا من الكتّاب الشباب وأن يجدد دماء المجلة بما لديهم من فقه وفكر، واحتوت الرسالة على مبحث بعنوان “وصفي أبو زيد ومقاصد الشريعة” اقتصر فيه الباحث على ما وفقني الله إلى كتابته من مقالات في مجلة الأزهر فقط، وقد جعلته ملحقا في آخر هذا الكتاب، وهو ما يعزز أهمية التناول المقاصدي لقضايا العصر.

كما كان لكتابي “نحو تفسير مقاصدي للقرآن الكريم” (النسخة الإندونيسية المترجمة منه) أثر علمي في مجاله ووجود طيب في إندونيسيا، وتمت دراسته في رسائل ماجستير وبحوث أكاديمية محكمة وندوات أقيمت عنه ومقالات في بعض الصحف والمجلات هناك.

وما زلت أواصل الطريق الذي من الله علي به، وأنظر إلى قضايا الأمة والواقع من خلاله ومن منظاره حتى قال العلامة أحمد الريسوني في تقديمه لسلسلة “رؤى مقاصدية” إن “الدكتور وصفي عاشور أبو زيد -كالعهد به- يمدد ويوسّع إعمال المقاصد، ويزرع روحها ويُشيع أنوارها أينما حل ونزل وحيثما نظر وتكلم.. بل إني أزعم أنه أصبح لا يستطيع النظر إلا بنظارة المقاصد”.

أدعو الله أن يوفقنا لخير القول والعلم والعمل لما فيه رضا الله تعالى وما يحقق نهضة الأمة المسلمة وصلاح الإنسانية.

*أكاديمي مصري، وأستاذ مقاصد الشريعة الإسلامية، وعضو عدد من المؤسسات العلمية العالمية.

إيطاليا تلغراف


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...