الخليفة العادل والتاجر العاشق: انقلاب الأدوار في المدينة العربية الوسيطة

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

*محمد تركي الربيعو

 

 

غالبا ما بدأت قصص ألف ليلة وليلة بشخصية شهرزاد، وهي تروي للحاكم شهريار قصصا عن الحب والمجون والعفاريت والعجيب والغريب من كل عالم حتى الصباح، لتعود في اليوم التالي بقصة أخرى. وهكذا، لا تتوقف القصص، وتبقى شهرزاد بطلة هذا العالم وساردته. لكن في مقابل هذه الحكاية التقليدية، لاحظ بعض الباحثين في الليالي العربية، أنّ شهرزاد لم تكن هي الوحيدة التي اختصت بالسرد والقص، وإنما هناك رجال شاركوها في هذا الجانب.

وهذا ما تكشف عنه مخطوطات عديدة حُقِّقت في السنوات الأخيرة. ومن الأمثلة على ذلك، مخطوطة «الزهر الأنيق ومطاوعة العشيق» التي حقّقت في السنوات الأخيرة وصدرت عن دار الجمل بعنوان «الماجريات: خمس وعشرون حكاية عمن القرن الرابع عشر» ويروي فيها عدد من الرجال قصصاً عن نساء القاهرة وبغداد ودمشق في ذاك الزمن، والأساليب التي يتبعنها لخيانة أزواجهن. ونرى في هذه القصص رجالا مسنين يسيرون في شوارع دمشق خلف العصرونية بحثا عن مدوّن هذه المخطوطة ليرووا له قصصا عن غراميات النساء في هذه المدينة، لأنهم من خلال فعل السرد يعيدون ما فعلته شهرزاد، التي ضمنت لنفسها الحياة عبر تكرار وسرد القصص.
فسرد الحكايا والذكريات، كما يرى البير سويل، لا يتحول إلى مقبرة واعتراف بعبرات آخر العمر، وإنما إلى ينبوع لاستعادة الشباب وتبديل الحال.

وربما هذا البحث عن شراء الزمن (الحياة) لأصحابه، في القرن الثامن عشر، هو ما دفع الشاب الحلبي حنا دياب إلى مرافقة أنطوان غالان إلى باريس. وهناك أخذ المفسرون يروون لنا الحيلة التي قام بها غالان مع دياب، فهو لم يكن يرمي من خلال أخذ دياب، نقله إلى عالم آخر، وإنما كان يسعى فقط إلى سرقة قصصه عن مصباح علاء الدين والأربعين حرامي (التي يقال أنّ غالان نقلها عنه). لكن ما يغيب عن هذه القصة هي دوافع دياب بالمقابل، والتي يبدو أنها لن تقتصر على رؤية أجزاء أخرى من العالم، من أجل المتعة والهروب من أن يكون رجل دين في إحدى كنائس حلب، بل ربما ليزيد ويكتسب صورا جديدة تتيح له المزيد من السرد، ما يضمن له عدم الخروج من الحياة والعيش لزمن طويل. وهذا ما حدث بالفعل، فمن خلال رحلته تلك، استطاع دياب، بعد خمسين سنة تقريبا، تدوين ذكرياته عنها وعن طقوس أهالي باريس في التعذيب والطعام وغيرها. وهذا ما ضمن له البقاء إلى يومنا هذا، بينما غاب كثيرون ممن كانوا يعيشون في زمنه.

عامة وتجار وبنات الخليفة

الطريف أيضا في سرد الرجال أحيانا، أنه كان يأتي بقصص مختلفة بعض الشيء عن القصص المكررة حول عشق الخلفاء لبعض الجواري (قصص هارون الرشيد) أو تنكرهم بزي التجار، ليسيروا في شوارع المدينة، حيث نرى قصصاً تنفتح على مشهد آخر مختلف، يظهر فيه العامة والتجار يتنكرون هذه المرة ليتلصّصوا على قصر الخليفة، أو ليصلوا إلى أحد جواريه. كما نرى الخليفة نفسه ينقلب دوره أحيانا، فيظهر في بعض هذه الليالي الرجل الحالم الواصل بين العاشقين. ونعثر على هذا الجانب من القصص وغيرها في المخطوطة التي حقّقها الباحث العراقي في الليالي العربية سعيد الغانمي بعنوان «نزهة الأشواق في أخبار المتيمين والعشاق». وقد عثر المؤلف على هذه المخطوطة في برلين، ويعود تاريخ كتابتها إلى سنة 1079. وتضمّ المخطوطة مجموعة من الحكايا عن مدينة بغداد، وبعض هذه الحكايا قد تكرّر ذكرها في أماكن أخرى.

ويبدو أنّ كاتبها مجهول الهوية، كحال العديد من مخطوطات الليالي العربية، ومما يلاحظ في هذه القصص أنّ هناك قاسما مشتركا يجمعها وهو الخليفة العباسي هارون الرشيد. إذ يظهر في غالبية الحكايا يسير خارج قصره بحثا عن عاشقين قد جار عليهم الزمن، فتاهوا في شوارع وأزقة بغداد. وهذا ما نراه في أول حكاية (عاشق البيمارستان) عندما قرر الرشيد النزول للمدينة متنكرا بزي تاجر مع معاونه جعفر البرمكي وحارسهم. وفي المدينة وجد نفسه أمام بيمارستان (مشفى المجانين) فما كان منه إلا أن دخل باحثا عن متعة وقصص تذهب عنه بعض الضجر، فإذا بهم أمام حكاية تاجر شاب وقد غدا مجنوناً بعد فقدانه لحبيبته. فطلب منه الرشيد قصّ حكايته، وهنا سيروي لنا الشاب حكاية إحدى النساء التي كانت تختطفه كل أسبوع عبر امرأة عجوز (قوادة) إلى منزلها، وهناك كان ينقلب دوره من أحد تجار المدينة ليصبح الرشيد بذاته، وكل ذلك بشرط أن يبقى زوجا مخلصا لا يقترب من أي جارية أو سيدة أخرى في السوق، لكن الشاب سيتعرّض في أحد الأيام لمكيدة إحدى الجواري، فما كان من زوجته إلا أن أسقته خمرا، ليستفيق بعدها في إحدى المقابر دون أن يدري كيف يصل إلى طريق منزلها مرة أخرى، فكان الجنون طريقه الآخر بعد أن يئس من البحث عنها.

والمفاجئ في القصة، أن الرشيد لن يكتفي بسماعها كما كان يفعل شهريار، وإنما سيقرر أيضا أن يلعب دورا في القصة، فهي التي تضمن له الحياة كما قلنا. ولذلك سيقرر الرشيد فتح نص الحكاية مرة أخرى ليساهم في إكمالها، وهذه المرة من خلال إعلام الشاب المجنون أنّ الفتاة التي يبحث عنها هي ابنة عم الخليفة، وأنه سيتكفل بتزويجه إياها. وهنا يصبح الخليفة سببا في إنقاذ الشاب من الجنون، وبالتالي في هذه القصة نرى الرشيد فوكويا (نسبة لميشيل فوكو) فهو لا يرى أنّ علة الشاب صحية، بل هي ناجمة عن عالم رمزي آخر(الحب). والغريب في القصة، موافقة الخليفة على تزويج واحدة من الأسرة الحاكمة إلى تاجر بسيط. كما نشهد هذا التحول في علاقة الخليفة بالعامة والتجار في قصة أخرى (حكاية ابن غياث الجوهري مع نزهة القلوب جارية الرشيد). ففي هذه الحكاية سيكتشف الرشيد أنّ قلب جاريته قد تولّع برجل تاجر يعمل في الجواهر، فغضب لبرهة من الوقت قبل أن يتمالك أعصابه ويطلب لقاء الشاب المعشوق ليحاكمه ربما، فكيف يتجرأ على الاقتراب بأحلامه من قصر الخليفة. لكن الشاب لن يأتي، لأنه كان قد توفي جراء عذابات عشق الجارية، وهنا نرى رشيدا آخر، فهو لن يشمت بجاريته، بل سيبدو رجلا يدرك معنى الحب والفناء لأجله. لذلك أخذ، كما تروي القصة، يبكي على الشاب، ثم طلب من جاريته أن تقوم بزيارة حبيبها. وهذا تنازل من الخليفة لصالح رجل تاجر، لكنه يبقى من العامة.

وخلال الزيارة ستشهق الحبيبة شهقة عظيمة قبل أن تفارق الحياة، فأمر الخليفة بدفنها إلى جانب حبيبها، وبناء قبة (مزار) عليهما. وهكذا أصبح هذا المزار دليلا على انتصار عشق العامة على عشق الخليفة. ولعل هذا الانقلاب، في مكانة التاجر بالأخص، والذي سيتمكن من أن يغلب الخليفة في ساحة قلوب الجاريات والجميلات، قد لا يعكس أمرا يتعلق بعالم العشق حسب، وإنما أيضا قد يرمز إلى تغير علاقات السلطة وبروز دور التجار بشكل أوسع في القرون العباسية المتأخرة. فالاقتراب من قصر السلطان والهيام بإحدى فتياته، لا يعدّ أمرا بسيطا، بل مغامرة قد تكون شبه مستحيلة في الزمن العباسي الذهبي، إلا أنّ تغير الظروف ربما ساهم في اقتراب التجار أكثر من القصور ليلعبوا أدوارا أكثر فعالية مع انهيار خزائن الدولة. وهذا ما نراه في حكاية «علاء الدين (تاجر) وجارية المتوكل» الذي سيتنكر بزي الخليفة، ليتمكن من الدخول للقصر، وعند وصوله لغرفة شجرة الدر (الجارية) «قالت: قد صرت تلبس ملبوس الخلفاء». وفي هذا القصة الرمزية، نرى انقلاب الأدوار، فيصبح التاجر/ابن السوق هو الحاكم المعشوق في قصره. وهو انقلاب وإن بدا مؤقتا، لكنه ربما يحمل ملامح واقعية عن ذاك الزمن، فابن الجصاص الحسين بن عبد الله الجوهري كان يقدر على انتشال الدولة من الإفلاس. وينقل أبي بكر بن يحيى الصولي في كتابه الأوراق، أنّ الخليفة الراضي بالله (934ـ 940) نعى على عصره غياب أمثال ابن الجصاص ممن يلجأ إليهم عند الأزمات.

الرشيد الرقيق

تبقى هنا نقطة في صورة الرشيد، لا بد من تسليط الضوء عليها. وتتعلق بما الذي يدعو جامع هذه المخطوطة إلى التركيز على صورة الرشيد (الحازم والقاطع للرؤوس وفي الوقت ذاته الجامع بين العشاق)؟ هل لأنّ تركيزه جاء فقط على قصص العشاق؟ أم أن هناك أيضا رغبة في التركيز على صورة ما. فخلال القصص، يبدو الرشيد في البداية متوعداً جعفر البرمكي بقطع رأسه إن لم يرو لهم قصة أو حكاية ما تسليه، لكن ومع دخوله أسواق المدينة وسماعه لقصص العشق، يختفي سيفه وحراسه (حارس واحد فقط) ويظهر لنا رشيدا آخر. يحاول هذا الرشيد الآخر الوقوف إلى جانب العامة وتجار المدينة، حتى لو كان الأمر على حساب التقاليد (تزويجهم من بنات القصر).

واللافت أنّ هذه المخطوطة بنسختها الموجودة قد جمعت في فترة سيطر فيها السلاجقة على الخلافة وبغداد، وهي فترة ستترافق، كما سيلاحظ الباحث الألماني كرستيان لانغ في كتابه «العدالة والعقاب في المتخيل الإسلامي» مع نظام آخر للعقوبات والحكم. ولذلك يخيل لنا أن استرجاع قصص الرشيد بين العامة من خلال ليالي ألف ليلة وليلة وكأنه يأتي في سياق ما دعاه الأنثربولوجي أرجون أبادوراي باستعادة الحق في الخيال. ففي ظل السلاجقة وتأسيسهم لإجراءات قمعية جديدة في فضاء بغداد، يبدو أن كاتب المخطوطة (قد يكون تاجرا) حاول من خلال تركيزه على صورة الرشيد قاطع الرؤوس من جانب، ورقيق القلب من طرف آخر مع التجار، أن يعتمد الحكاية لمقاومة واقعه آنذاك. ففي ذلك الواقع، كانت شخصية المحتسب في أسواق بغداد قد تضخمت في زمن السلاجقة بعد أن تجاوز دوره مراقبة المعاملات التجارية، نحو التشهير أحيانا بالتجار ومعاقبتهم، في الوقت الذي كان الرشيد يلبي مطالبهم، حتى إن طالت أسوار قصره وهيبته. ولذلك تبدو نصوص هذه المخطوطة وغيرها من نصوص الليالي العربية تحمل على عاتقها مهمة الحفاظ على خيال العامة وشحنه دائما بصور أخرى، وربما هذا ما يفسر استمرارها وحملها للجديد إلى يومنا هذا.

*كاتب سوري


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...