عن أزمة المعارضة التركية وارتداداتها الانتخابية

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

 

محمود علوش

 

 

 

على مدى عقدين من حكم الرئيس، أردوغان، سادت مقولة في السياسة المحلية، مفادها بأنّ أردوغان محظوظٌ بمعارضةٍ ضعيفة تفتقر القدرة على تقديم خطابٍ سياسيٍّ منافس، ولا تتمتع بالمهارات التي يمتلكها في اللعب على تناقضات السياسة الداخلية.

ومع أنّ تجربة التحالف السداسي، الذي جمع ستة أحزاب معارضة، بهدف هزيمة أردوغان في الانتخابات المقبلة، نجحت جزئياً ولفترة قصيرة في تبديد هذه المقولة، إلا أنّ الأزمة التي عصفت بالتحالف، بسبب الخلافات على المرشّح الرئاسي المشترك، أثبتت أنّ هذه المقولة لا تزال تعمل. بينما فجّرت معارضة زعيمة الحزب الجيد، ميرال أكشنار، لترشيح زعيم حزب الشعب الجمهوري، كمال كليجدار أوغلو، للانتخابات الرئاسية، الأزمة الراهنة، إلا أنها ترجع، بشكل أساسي، إلى حقيقة أن التحالف السداسي ارتكز، أولاً، على المنافع المتبادلة لمكوّناته من دون أن ينجح في إيجاد هويةٍ سياسيةٍ واضحة، تُحوّله إلى جبهة سياسية منسجمة بشكل متكامل وقادرة على إنتاج رؤية استراتيجية بعيدة المدى وإدارة فعالة لمعالجة التنافس بين أطرافه. في الواقع، بدا أنّ التحالف قريبٌ من إيجاد هذه الهوية بعد تقديم رؤية سياسية عريضة لمستقبل تركيا والاتفاق على وثيقة السياسات المشتركة، إلا أنّه أخفق، بشكل قاتل، في معالجة أزمة الثقة وصراع الإرادات بين المكوّنين الأكبر له، حزبي الشعب الجمهوري والجيد.

يقوم مبدأ التحالفات الحزبية، بشكل أساسي، على المنافع المتبادلة. لذلك، لم يكن بناء التحالف السداسي على هذا الأساس ظاهرةً غير صحّية في لعبة السياسية. لقد شكّل أردوغان، على سبيل المثال، تحالفاً مع حزب الحركة القومية، عندما التقت مصالحه مع القوميين، من أجل الحفاظ على السلطة. مع ذلك، استطاع أردوغان وزعيم الحركة القومية، دولت بهتشلي، تشكيل ثنائي قيادي، بشكل استثنائي ومُنسجم إلى حدّ كبير في الرؤية الاستراتيجية بعيدة المدى. على العكس من ذلك، لم يستطع كليجدار أوغلو وأكشنار تشكيل ثنائية مماثلة وتطوير شراكتهما بعد عام 2018، إلى رؤية استراتيجية بعيدة المدى. كانت الشراكة قائمة على المصالح قصيرة النظر لكلّ منها. مع أنّ حالة أردوغان شكّلت دافعاً قوياً لحزبي الشعب الجمهوري والجيد لمواصلة الشراكة، ثم ضمّ أحزاب صغيرة إلى “تحالف الأمة”، إلاّ أنّ تأثير أزمة الثقة وصراع الإرادات ظلّ مهيمناً على ديناميكية التحالف. لذلك، لم يكن مفاجئاً أن يطفو صراع الإرادات بين كليجدار أوغلو وأكشنار عند أول اختبار حقيقي. لقد قضى التحالف وقتا كثيرا في وضع استراتيجيات لما بعد الانتخابات وافتراض النصر، لكنّه لم يمتلك الجرأة الكافية لمناقشة صريحة لمسألة المرشّح الرئاسي المشترك، لأنّ أزمة الثقة وصراع الإرادات كانا أقوى من الهدف الرئيس الذي تشكّل على أساسه التحالف، وهو مواجهة أردوغان.

الفترة المتبقّية للانتخابات قد تشهد مفاجآتٍ كبيرة في سياسة التحالفات الحزبية

لم يكن سرّاً منذ عام تقريباً أنّ كليجدار أوغلو يرغب في الترشح للانتخابات الرئاسية، ولم يكن سراً أيضاً أن أكشنار عارضت بقوة هذا الترشّح، بل أبدت رغبة علنية بترشيح رئيس بلدية إسطنبول، أكرم إمام أوغلو، أو رئيس بلدية أنقرة، منصور يافاش، للانتخابات الرئاسية. مع أنّ إمام أوغلو ويافاش هما من حزب الشعب الجمهوري، إلآّ أن أكشنار ترى أنهما استطاعا انتزاع رئاسة أهم بلديتين في تركيا من حزب العدالة والتنمية بفضل أصوات تحالف الأمة قبل أصوات حزب الشعب الجمهوري. في الواقع، لم تكن شراكة حزبي الشعب الجمهوري والجيد متكافئةً بقدر ما كانت فائدة لكليجدار أوغلو أكثر من أكشنار. مع أن كليجدار أوغلو يدين بالفضل لأكشنار بمساعدتها في عام 2018 بتشكيل كتلةٍ برلمانيةٍ بعد نقل 15 برلمانياً من حزب الشعب الجمهوري لصالحها، إلا أنها، في الانتخابات المحلية بعد عام، لم تُحقّق مكاسب خاصة بها، بينما فاز مرشّحو حزب الشعب الجمهوري برئاسة 11 بلدية حضرية. كانت مواصلة هذه الشراكة في الوقت الحالي تنطوي على مخاطر كبيرة لأكشنار أكثر من أي وقت مضى. علاوة على أنّ جزءاً كبيراً من الناخبين القوميين المحافظين يعارضون ترشيح كليجدار أوغلو، كان هناك خطرٌ آخر بانتقال الأصوات العلمانية في الحزب الجيد إلى حزب الشعب الجمهوري. قد تؤدّي مغادرة أكشنار الطاولة السداسية إلى تشكيل تهديد وجودي لحزبها، إلا أنّ تكاليفها ستبقى أقل في أي حال، خصوصاً على صعيد حاضنتها الشعبية. مع أنّ خروج الحزب الجيد من التحالف السداسي قد يُسهّل على الأحزاب الخمسة الأخرى الدخول في مفاوضات علنية مع حزب الشعوب الديمقراطية (الكردي) لضمّه إلى “التحالف”، سيما أنّ وجود القوميين في التحالف كان عقبة رئيسية أمام انفتاحه على الحزب الكردي، لكنّ عامل الوقت قد لا يكون كافياً. كما أنه سيكون من الصعب على “التحالف” تعويض فقدان أصوات الحزب الجيد بشكل مضمون أو تعزيز حضوره الانتخابي. إضافة إلى ذلك، فإنّ انضماماً محتملاً لحزب الشعوب الديمقراطية إلى “التحالف” قد يؤدّي إلى فقدان بعض الأصوات في القاعدة الانتخابية للمعارضة، ويساعد أردوغان في تصوير الصراع الانتخابي مع المعارضة صراعا مع تحالفٍ يضم حزباً مرتبطاً بشكل وثيق بحزب العمال الكردستاني المُصنّف إرهابياً. لا تزال قوة أكشنار في المعادلة السياسية والتحالفات الحزبية تكمن، بشكل رئيسي، في أنّ الحاجة لها من أحزاب المعارضة الأخرى ستزداد في حال لم تُحسم الانتخابات الرئاسية من الجولة الأولى، كما هو مُرجّح، فضلاً عن الحاجة لها في المعادلة البرلمانية أيضاً، وهو ما يمنحها هامشاً أكبر لتعزيز أوراقها التفاوضية، والسعي إلى الحصول على قدر أكبر من المكاسب مقابل دعم المرشّح المنافس لأردوغان الذي يصل إلى الجولة الثانية.

نجح أردوغان عقدين في الحفاظ على السلطة والفوز في عشرة استحقاقات انتخابية بفضل مهارته السياسية وقدرته على تحويل الأزمات إلى فرص

بالنظر إلى أنّ الفترة المتبقّية للانتخابات قد تشهد مفاجآتٍ كبيرة في سياسة التحالفات الحزبية، سيكون من المبكّر تقديم تقييم دقيق لتداعيات أزمة التحالف السداسي على “الستاتيكو الانتخابي” قبل اكتمال صورة التحالفات الحزبية، فضلاً عن حسم خيارات كلّ من أكشنار والأحزاب الخمسة الأخرى في التحالف بعد هذا التشظّي.

أخيراً، يُمكن استخلاص نتيجتين أساسيتين للتحوّل الدراماتيكي الذي طرأ على جبهة التحالف السداسي. أولا، سيكون من الصعب إعادة ترميم الشراكة بين كليجدار أوغلو وميرال أكنشار، حتى لو أُعيد ترميمها، فإنّ الأزمة ألحقت، على نحوٍ كبير، ضرراً معنوياً بائتلاف المعارضة، وأظهرته أنه سيكون غير قادر على تحقيق استقرار سياسي في السلطة، فيما لو وصل إليها بعد الانتخابات، وهذا من شأنه أن يُغيّر السلوك التصويتي للناخب الذي لم يحسِم خياراته بعد، ويُريد استقراراً سياسياً لا تبدو المعارضة قادرةً على فعله. وثانياً، يبدو الرئيس أردوغان الرابح الأكبر، لأنّ الأزمة ستمنحه مساحة إضافية لتعزيز صورته رئيسا وحيدا قادرا على إحداث استقرار سياسي، في ظلّ التحولات الكبيرة التي تمرّ بها تركيا على المستويات الداخلية والاقتصادية والخارجية، فضلاً عن تداعيات الزلزال المدمّر.

نجح أردوغان عقدين في الحفاظ على السلطة والفوز في عشرة استحقاقات انتخابية بفضل مهارته السياسية وقدرته على تحويل الأزمات إلى فرص، لكنّه أيضاً محظوظ بهذا النوع من المعارضة.

 

 


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...