*إبراهيم عبد المجيد
هذا كتاب يأخذك كوجبة تشتهيها منذ زمن في بلاد مليئة بالسحر والجمال. أول ما يأسرك فيه هو لغة عزت القمحاوي المحملة بالحركة والحواس، من شم إلى لمس إلى رؤية إلى سمع وتذوق، تماما كموضوعه، فضلا عن الفكر والتحليل العميق والمعرفة الدقيقة بكل ما يكتب عنه. مؤكد كما ذكر هو أن هناك من الكتّاب من فطن إلى ما يكتب عنه، لكن أن يفرد كاتب لذلك كتابا كاملا هو «الطاهي يقتل ـ الكاتب ينتحر» فهو عمل جدير بالقراءة والتأمل. الكتاب صادر عن الدار المصرية اللبنانية في القاهرة أول هذا العام. لعزت القمحاوي أعمال سابقة مهمة منها، مجموعات قصصية مثل « مواقيت البهجة» وروايات مثل « بيت الديب» وكتب فكرية وتأملات مثل «الأيك في المباهج والأحزان» وغيرها. وصلت بعض أعماله إلى القائمة القصيرة لجائزة الشيخ زايد، وفاز بجوائز مثل جائزة سمير قصير لحرية الصحافة، وجائزة نجيب محفوظ من الجامعة الأمريكية عن روايته « بيت الديب».
يبدأ من الطفولة وهو يجلس مع أمه في بيتهم الريفي حين تطبخ أو تخبز وحولها الجارات، وكيف كانت تدهشة حكاياتهن التي يعلنّها أو يهمسن بها، ويتدخل أحيانا بالتعليق. لقد أدرك فيما بعد أنه بالحكاية والطبخ تمكن البشر من استئناس بعضهم، وصارت لدينا مجتمعات بشرية مهما تغيرت فيها الديانات، لا يزال فيها الاحتفال بالطعام الذي كانوا يتناولونه في دياناتهم القديمة. حتى المجتمعات الحديثة، فالأمريكيون مثلا على اختلاف معرفتهم بالكنيسة، لا يتخلفون عن اجتماع العائلة حول الديك الرومي في عيد الشكر. الوقت وتناول الطعام هو وقت الحكاية، وسيظلان من أهم مقومات التماسك الاجتماعي، بينما جاءت الوجبة السريعة والساندوتش تفسيرا مطبخيا لمعنى الفردية. الانسجام أو التناغم طموح الطبخ والإبداع الفني والأدبي. كلمة «التسبيكة» المستخدمة عن امتزاج عناصر الطبخ في سبيكة، هي نفسها التي تصف بها نصا جيدا بلغة الجرجاني «جيد السبك».
الطاهي أفضل حظا من الكاتب فليس من الوارد أن يطبخ لعدوه، إلا أن يكون أسيرا، أو زوجة لرجل عديم الحب، أو خادما في بيت قليل الإنسانية. غير ذلك يظل الطبخ تعبيرا أمثل عن الحب بلا خوف، ومن هنا يصلح الطبخ وصفة طبية لراحة الكاتب والسيطرة على خوفه من الكتابة وجلب القارئ الحبيب. عندما يقف الكاتب ليطبخ تتحرر روحه من التفكير في العدو. كان هو يحب الحلوى لكنه كان يخشى صنعها تماما كما خشي كتابة الشعر، واحتفظ بما كتبه من شعر في مراهقته لم يكشفه، فالحلوى تحتاج إلى رهافة لم يمتلكها، وسحر كسحر الشعراء لم يمتلكه. الرواية كالخبز يمكن أن تتضمن الحلوى في داخلها. ولأن الرواية كالخبز اتسعت سلطتها كما تتسع سلطة العادي. لا يستطيع الطاهي أن يعيد إلى مكونات طبخه الطازجة حياتها فهو يقتلها، بينما الروائي أو الكاتب ينتحر، فالرافد الأساسي لنهر الرواية هو روح الكاتب نفسه. آلامه ومشاعره التي يمكن أن تتوزع على شخصياته، وإن كان هناك من الكتّاب الكبار من يرفضون عن وعي وتصميم، تقبل فكرة قتل أنفسهم داخل النص ويبقون كبارا رغم ذلك، مثل هنري ميلر وجان جينيه ومارسيل بروست، فتبدو نصوصهم أقرب إلى فن السيرة، وإن كنا لا نعرف أبدا إلى أي حد تتشابه حياتهم في الرواية مع حياتهم الحقيقية.
السيرة هنا فن مراوغ أكثر من الرواية. يمشي مع ذلك كما يمشي دائما عند كتاب كبار كطه حسين ونجيب محفوظ وخوسيه ساراماغو ودوستويفسكي وكازانتزاكي وغيرهم كثيرون جدا. هكذا في كل فصل يبدأ من الطبخ ثم يتفرع بك إلى جماليات الرواية. الطاهي يحتاج إلى الصبر والحيلة، خاصة في الأسر الفقيرة، والكاتب يحتاج إلى الصبر والحيلة في البلاد الفقيرة إلى الحرية، حتى لا يصطدم مع حراس الاستبداد. الانسجام بين الطبخ والكتابة والفن كهدف يرتكز على التوازن والتكامل والحركة.
الحركة في اللوحة الفنية موجودة بصريا من خلال تشكيلات الخط والكتلة واللون، أما في الطبخ فهي الحركة الداخلية غير المرئية في تحول العناصر واتحادها. ذهاب الصلب إلى اللين والمالح إلى الحامض وعديم الطعم في اتجاه الحلو، وبعض الأنواع تحتاج إلى صحبة النار تحتها على المائدة للحفاظ على استمرار حركتها وتجانسها. يقول المصريون عن الطاهي أو الطاهية «عنده نَفَس» ويقول السودانيون» يدو طاعمة» والعراقيون «النفس طيبة» وكلها أوصاف متعددة للروح. الحنين إلى طبخة هو حنين لروح طاه محدد وليس إلى مادتها، وأرواح الطهاة هي الفارق.
ربما كان الطاهي أفضل حظا من الروائي، فأنواع المواد التي يتعامل معها أكثر من الحبكات الدرامية التي تنحصر في ست وثلاثين حبكة، كما يرى الكاتب والباحث الفرنسي جورج بولتي. وكما تحقق الطبخة استقلالها عن عناصرها النيئة، تحقق الرواية استقلالها عن الحياة الواقعية، والروايات الأخرى التي تتناول الموضوع ذاته، عبر الروح الفريدة لكاتبها. يقدم في كل رأي أمثلة على ذلك عند الكتاب وطبخاتهم المستقلة للموضوع نفسه، واختلاف أرواح الكتاب. ثم تأتي حكمة الشكل.. فكما ينفق الطاهي وقتا طويلا في تزيين شكل الأطباق يأتي شكل الرواية، وكما في الطعام لا تقف عند الشكل فقط الذي يطعم العين، بل يدخل الشكل في موضوعه. الشكل في الرواية هو جوهرها لأنه يمنح القارئ تواطؤه، ويجعله يوافق على ما فيها من خيال، باعتباره حقيقة. يضرب أمثلة بـ»ألف ليلة وليلة» فهي درس خفي في الشكل أول أساليبه اللغة، فحسب لغة شهرزاد للملك، نكتشف إلى أي حد تُناسب مُقتضى الحال في كل مرحلة من مراحل السرد. الليالي الأولى تختلف عما بعدها من التبجيل الأكثر إلى الأقل والتباسط. ويقف بتوسع عند شخوص ألف ليلة ولغاتها ومصائرها، وينتقل كالعادة إلى غيرها مثل ثلاثية نجيب محفوظ و»الحرافيش» من الواقع إلى الأسطورة، وأهمية الاقتصاد في استخدام العناصر، كما يمكن للطاهي الجيد أن يمد مائدة عامرة باستخدام سمكة واحدة، أو قطعة لحم صغيرة مع الكثير من الخضراوات.
ينتقل إلى لغة الرواية التي يصفها بعض النقاد بالمدهشة أو المميزة، بينما الراوية محفل لغات تتعدد بتعدد الفضاءات والشخصيات، وكالعادة يقدم الأمثلة من الآراء النقدية عند أعلام النقاد مثل باختين، أو من ألف ليلة وليلة وروايات المبدعين. تنتقل بين كل الفصول التي يتوغل فيها القمحاوي في الشرح الجميل المقنع، فتجد فصلا عن حسن المطالع، أي بدايات الرواية، وكيف تكون كاشفة لما بعدها أو مدخلا إليه. الجملة الأولي هي رأس الرواية، تجعل القارئ يتوقع وليدا موفور الصحة، وعادة ما تكون هذه الجملة حاكمة للرواية كلها شكلا وموضوعا. كما في الطبخ تعرف من الطريقة التي يقف فيها الطاهي في مطبخه ويرتب بها طاولته، أيّ وعد ينتظرك قبل أن يبدأ.
يعطي أمثلة من بدايات روايات عالمية كثيرة. كذلك الاستباق والإرجاء كما في الطبخ وفي الرواية. في الطبخ تقدم شيئا على شيء، فلا تقدم المشهيات والوجبة الرئيسية والحلو دفعة واحدة. رحلة مع مكونات الطبخة من بهارات وثوم وغيره، ومكونات الرواية وتمازجها. وكيف أن البوفيه المفتوح في الرواية يقتلها، إذ يقدم الكاتب في وجه القارئ دفعة من شخصيات الرواية تصيبه بالتشوش، حديث كالعادة عن ذلك ابتداء من ألف ليلة وليلة التي دائما في مقدمة التحليل والاستشهاد. المخفي في الروايات والأكل كما في «الميل فيّ» في الطعام. حتى تصل إلى «البايلا» أو «البقية» الإسبانية في التاريخ وتوالد الحكايات الجديدة من القديم. وهكذا. كتاب رائع وطواف جميل بين الطعام والرواية، وما قدمته مجرد أمثلة من كثير، ويعد سبقا لعزت القمحاوي. تنتهي منه وقد تعلمت فنون الطهو، لكن أيضا فن الرواية وأشكالها عبر التاريخ، بحديث يخاطب العقل والروح معا. مائدة تستحق الدخول إلى موسوعة غينتس كأكبر مائدة لنوادر الطعام والإبداع، وما وراءها من فلسفة وجمال.
*روائي مصري