مصر وكراتين رمضان والمجتمع المدني المؤمّم

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

عمر سمير

 

 

 

تحت لافتةٍ كبيرةٍ مكتوب عليها “إحنا المجتمع المدني”، بدت صورة أسطورية لاستاد القاهرة، حيث تجمع ضخم للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وأنصاره، إيذانا بإطلاق أكبر حملة لتوزيع كراتين رمضان بواقع خمسة ملايين كرتونة لمواجهة الأزمات المتكرّرة في السلع الغذائية التي تحدُث في الشهر الكريم عادة. ورمضان الحالي، كما رمضان العام الماضي، شديد القسوة على المجتمع المصري في ظل مؤشّرات تضخّم غير مسبوقة.

يُرجع النظام هذه الموجات من التضخّم الكبير في أسعار الغذاء للأزمة المتعلقة بالحرب الروسية الأوكرانية، إبراء لذمّته أمام الشعب، وكأن مشكلات المصريين في عهده بدأت فقط في فبراير/ شباط 2022، وكأن معدّلات الفقر الرسمية لم تكن تتجاوز 32% ومعدلات الفقراء بين العاملين بأجر تتجاوز الثلثين وفقا لجهاز الإحصاء الرسمي في العام 2018.

ظاهرة توزيع كراتين المساعدات والحصص الغذائية في مصر ليست جديدة، لكن الجديد هو اهتمام النظام المصري بها، إلى درجة أصبح من السهل معها القول إنها سياسة دولة ونظام، وليست فقط مساعدات موسمية من المجتمع المدني، أو حتى بعض الأحزاب والتيارات السياسية خارج السلطة. تريد هذه الدولة المتخلّية رسميا عن غالبية الأدوار الاعتيادية للدولة الحديثة تجاه حقوق مواطنيها الاقتصادية والاجتماعية أن تقول للناس إن النظام بجانبكم، ولكن بطريقته الخاصة، وليس بطريقة الدول.

يؤمّم النظام في مصر المجتمع المدني في صورة تحالفٍ تقوده جمعياتٌ مسيطَر عليها من جنرالاتٍ

لطالما عاب النظام ومؤيدوه وقسم كبير من معارضيه على جماعة الإخوان المسلمين مسألة توزيع مثل هذه المساعدات والسلال الغذائية في المواسم الرمضانية وغيرها، مفترضين أنهم يشترون الأصوات الانتخابية عبر هذه المساعدات، على الرغم من أنها جماعة دعوية دينية بالأساس، وليست مؤسسة دولة أو حزب حاكم على مدار تاريخها، ولم تكن كذلك إلا عاما واحدا. كانت كل الأحزاب فيه تقوم بالعمل نفسه، سواء عبر خيام المساعدات الرمضانية أو حتى الجمعيات التابعة لها. يصمت هؤلاء اليوم إزاء تقديم النظام والحكومة تلك المساعدات وترويجها تليفزيونيا نجاحا رئاسيا، وهما المتخليان عن أية برامج حماية اجتماعية حقيقية تقي الناس من الفقر، وعن أي قانون عادل للعمل لا يترك الملايين فقراء رغم العمل.

اللافت هنا اللافتة نفسها باعتبار أن من هم في الاستاد فقط هم المجتمع المدني، ومن خارجه ليس مجتمعا ولا مدنيا، بل مجموعة من العملاء المموّلين من الخارج أو أي شيء آخر غير أن يكونوا مجتمعا مدنيا. هذا النظام الذي أغلق آلافا من جمعيات المجتمع المدني في عاميه الأولين حتى يونيو/ حزيران 2015 يؤمّم المجتمع المدني في صورة تحالفٍ تقوده مجموعة من الجمعيات المسيطَر عليها من جنرالاتٍ، يسميه تحالف المجتمع المدني، والذي لم يستطع إدارة أزمة كورونا، حيث كانت نتائج إغلاقه كل تلك الجمعيات بالغة السوء، فقد كانت كثير منها تقدّم خدمات طبية شبه مجانية لملايين الفقراء في بلدٍ ليس فيه نظام حقيقي للتأمين الصحي بعد، أو لنقل إن النظام الحالي للتأمين الصحي بعيوبه لم يصل إلى أغلب المصريين بعد.

يبدو النظام كأنه يوجه رسالة إلى ملايين المصريين الفقراء بهذه الطوابير الطويلة للمساعدات

هكذا، يريد النظام تصدير نفسه وحاشيته، نحن المجتمع المدني فقط، نحن الأحزاب، نحن الدولة، وما خارج هذه القناعات وذلك التحالف هم الأعداء أينما كانوا. وليته كان ناجحا بتحالفاته الأشبه بمريض توحّد أعجبته الحالة، فقرّر البقاء فيها وتعزيزها، فتصالح مرغما مع كل أعداء الخارج، بينما لم يتصالح مع نفسه ومع المصريين.

تتصاعد على الهامش أصواتٌ، سواء في السوشيال ميديا أو من تبقى لديهم عقل في الأوساط الأكاديمية ومعارضة الداخل والخارج، لتتساءل: لماذا لا يوزّع النظام هذه الحصص الغذائية المليونية على بطاقات التموين بكرامة، وكجزء من مظاهر الدولة الاجتماعية، بدلا هذه الصور والمشاهد الحاطّة من كرامة المصريين؟ والإجابة البسيطة عن هذا السؤال أن هذه الأنظمة لا تريد مواطنا يعيش بكرامة، أو يعرفها حقا، أو يطالب بها حتى. والكرامة هنا عدوٌّ له، سواء كونها شعارا لثورة يناير التي لا يفتأ يحذّر المصريين منها في كل مناسبة وفي غير مناسبة.

من ناحية أخرى، يبدو النظام كأنه يوجه رسالة إلى ملايين المصريين الفقراء بهذه الطوابير الطويلة للمساعدات، وتلك المعارك اليومية للمواطنين للحصول عليها، مفادها بأن هذا هو الوضع ونحن في الحكم ومستقرّون، فماذا إذا تزعزع النظام ودخلنا في فوضى مثل الحالة السورية أو الليبية أو اليمنية. كأنه يريد أن يقول لهم هناك انحطاط للكرامة أفضل من هذا. بعبارة أخرى، يقول للناس “أنا أو الفوضى” لكن على طريقة من يملك مفاتيح كانتين الكتيبة، ويستطيع تذنيب الجنود أياما جائعين إذا لم يخضعوا له تماما، ويدفعوا التكلفة وفق ما يقدّرها.

النظام في طوابير المساعدات يفتقد القدرة على التنظيم وفرض الانضباط، بالقدر الذي يفرضه بصرامة في المعسكرات

في التحليل الأخير، فإنّ نظاماً أمّم الحياة السياسية برمتها لصالح الفرد الحاكم، ويستخدم الأحزاب والجيش في تجارة اللحوم، ويذهب إلى أردأ الأسواق ليحقّق أعلى مكاسب ممكنة، لم يكن من الممكن له ترك المجتمع المدني من دون أن يؤمّمه ويستخدمه لصالح الفرد الحاكم، وليس لصالح المجتمع، فيعتاد الناس العوز والطوابير، بدلا من الكرامة التي حبس غالبية الداعين إليها خلف أسوار سجونه، أو هجّرهم مسبقا، حتى لا يتبقى مجتمع ولا تتبقّى مدنية.

واعتياد الطابور هنا تقليد عسكري. لكنّ النظام في طوابير المساعدات يفتقد القدرة على التنظيم وفرض الانضباط، بالقدر الذي يفرضه بصرامة في المعسكرات. وربما يحسُن به أن يعمل على هذا في الفترات المقبلة، فنرى طوابير المساعدات منظمةً مثل طوابير المؤسّسات الحكومية، ويصبح هذا أقصى آمال المجتمع أن يتلقّى المساعدات بشيءٍ من كرامة، وضمن برامج حكومية للمساعدات، وليست توزيعات عشوائية موسمية، تماما كسكان المخيمات واللاجئين في المناطق المنكوبة.

 


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...