هل أصبحنا كائنات “صورية”؟

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

د.الحبيب ناصري

 

 

رحم الله الأخوين لوميير. هما من اخترع/أبدعا هذه الوسيلة التعبيرية الفنية والتي اسمها السينما. وثقا بصورة متحركة العديد من مظاهر الحياة في عصرهما. صورا، ولأول مرة، وبطريقة متحركة، خروج العمال من المعمل، ووصول القطار للمحطة، الخ. اندهش العالم بسبب هذه الصورة المتحركة. نحن اليوم أمام تدفق صوري ( من الصورة) لا حدود له. من الصعب حصر كم صورة تلتقط في كل ساعة، بل في كل دقيقة، وكل ثانية في عالم تتجاوز ساكنته سبعة مليار نسمة؟. ساكنة تحمل في جيوبها هواتف محمولة، تشغلها في كل لحظة لالتقاط محتويات. وحده من يتحكم في هذه الهواتف المحمولة من يستطيع عدها. إذن نحن اليوم نعيش في حضن الصورة. دخلت إلى بيوتنا، وجعلتنا وكأننا نعيش ليس في قرية صغيرة، بل وكأننا نعيش داخل غرفة واحدة صغيرة. الكل يشاهد الكل. سقطت المسافات، وراحت الحميميات. عالم مفتون بالصورة. الناس فيه يبحرون في عوالمها كل رمشة عين. أصبحنا “مقولبين” وأعيد تشكيل وعينا ولا وعينا، وفق من يتحكم فيها ويطوعها لغرض من الأغراض. أينما وليت وجهك، تحاصرك منتوجات، تشاهدها وتتسرب إلى عوالمك الداخلية أردت أم كرهت. في خضم هذا التصارع والتسارع، من الممكن القول إننا اليوم بمثابة كائنات “صورية”، وربما قد أزاحت صفة كائنات “حية” التي عرفنا بها أهل العلم وغيرهم.

الناس مشغولة بهواتفها. الكل يقبض الهاتف في القطارات والباصات والمطاعم، بل الكل يأكل ويشاهد ويصور وينشر تفاصيل صغيرة، تخص جزيئات ما يأكل ومع من؟ وأين ؟ الخ. عالم مجنون بالصورة. لم نعد نتذوق طعامنا ونمضغه بشكل صحي غير مضر بمعدتنا، الخ، بل المهم أن نزين الصحن ومكان وضعه، الخ، ونقبض على صورة ونتبعها بابتسامة، وربما مغشوشة، ونقذف بها في عوالم شبكات التواصل الاجتماعي، و”نؤرخها” بزمكانها، وبهذا تكون لذة الطعام الحقيقية قد راحت، بل وقد برد طعامنا إن كنا في فصل الشتاء، أو قد يكون مشروبنا سخن، إن كنا في فصل الصيف. لا يهم هذا. المهم تقاسم الصورة. المهم النزول من السيارة والتقاط صورة بجانبها والقذف بها في عوالم تكنولوجية، ليصبح بالإمكان مشاهدتها في أي مكان في هذا العالم.

هل راحت سعادتنا الإنسانية وأصبحنا كائنات “صورية”؟. هل أصبحنا أصناما جديدة مخدومة وفق هذه العولمة الرهيبة؟.
عديدة هي التحولات الكبيرة التي بدأت تعرفها البشرية، والتي فقدت جزءا مهما من إنسانيتها، بسبب سوء استعمال التكنولوجيا الحديثة. اليوم صار العديد ممن يصنعون “محتويات” تافهة بمثابة نجوم ومداخليهم تفوق ربما العديد من الجامعيين وغيرهم. عالم عار وحضارة سائلة نحو متاهات عديدة. يكفي أن تضغط على زر من أزرار هاتفك، لنقل ما تريد، وبشكل مباشر، أو لنشر ما يحلو لك ولبناء ذات منفوخة ب”الأنا” والأوهام. فماذا أعددنا في مدارسنا ومنظومتنا التربوية لتلقيح الأجيال ضد قبح الصورة، ولتعليمهم كيفية بناء صورة ناهضة على القيم الإنسانية والجمالية..بل صورة تساهم في انتشالنا من الوهم ومرض الذات المنفوخة بالتفاهة وإرجاعنا نحو ما تبقى لدى البشرية من إنسانية.

إيطاليا تلغراف


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...