مزاعم التفوق الإنساني والأخلاقي الأميركية في خدمة التوحش

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

ذ.أسامة أبو ارشيد
كاتب وباحث فلسطيني مقيم في واشنطن

 

 

 

الشراكة الأميركية الكاملة في حرب الإبادة البشعة التي شنّتها (تشنها) إسرائيل على قطاع غزّة على مدى أكثر من 15 شهراً، منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023، ليست محلّ أخذ وردّ. هي مسألة ثابتة، لا تنكرها حتى واشنطن، وإنْ تسوّغها بفرية تمكين إسرائيل من “الدفاع عن نفسها”، التي في سبيلها أيضاً لا يمانع صانع القرار الأميركي أن يدوس حتى قيم التفوق الأخلاقي والدستوري والقانوني والسياسي، المزعومة داخلياً، تحت أقدام الجبروت الأمني والسياسي للدولة. من ثمَّ، لا ينبغي التعجّب عند استحضار ما فعلته (وتفعله) الولايات المتحدة في قطاع غزّة من تمكينٍ لحرب الإبادة الإسرائيلية بحقّ سكّانه. تستوي هنا إدارة ديمقراطية (إدارة جو بايدن) زعمت إيمانها ببعض “القيم التقدّمية”، وإدارة جمهورية (إدارة دونالد ترامب) لا تخفي عداءها أيّ قيمة أخلاقية مدّعاة أميركياً. كما يندرج في هذا السياق القرار التنفيذي الذي وقّعه ترامب أول من أمس الأربعاء، ويأمر بشنّ حملة صارمة على ما يصفه بـ”معاداة السامية” في الأحرام الجامعية الأميركية، بما في ذلك إلغاء تأشيرات طلبة أجانب وإبعادهم، إذا ثبت أنهم شاركوا في تظاهرات أو أنشطة ضدّ جرائم إسرائيل في قطاع غزّة.

في الحقيقة، تاريخ الولايات المتحدة، حتى منذ ما قبل قيامها رسمياً عام 1776، ومنذ أول استيطان إنكليزي فيها عام 1607، قام على العنف والتطهير العرقي والتوسّع وجرائمَ ضدّ الإنسانية والإبادة والاستعباد. يشهد على ذلك ملايين السكّان الأصليين الذين أبادهم المستعمرون الأوروبيون البيض (تؤكّد مصادر أن الأرقام تصل إلى عشرات الملايين)، وكذلك ملايين السود الأفارقة، الذين جلبوا بالقوة عبيداً إلى “العالم الجديد”، وكذلك التوسّع الإمبريالي في الفضاء الجغرافي المباشر لأميركا، كما في المكسيك، ثمَّ في أميركا الجنوبية والمحيط الهادئ، وصولاً إلى شنَّ حروب في العالم، وارتكاب جرائمَ يندى لها جبينُ الإنسانية، كما في اليابان وألمانيا وفيتنام وشبه الجزيرة الكورية وأفغانستان والعراق. هذا تاريخ معروف ولا يزال يثير حساسيات كبيرة في الولايات المتحدة، بين من ينفيه، وهم أقلّية، وبين من يُقِرّ به، ولكنّه يعدّه أخطاء تاريخية صُحِّحت أو ينبغي التعلّم منها، وبين من يصرّ على أن هذا التاريخ هو الحاضر، وسيبقى المستقبل إن لم تُتَّخذ إجراءات عميقة تعالج هذه البصمة الجينية في عمقها ومن جذورها (من ذلك مثلاً نظرية العرق النقدية: Critical Race Theory).

في سبيل إسرائيل لا يمانع صانع القرار الأميركي أن يدوس قيم التفوق الأخلاقي والدستوري والقانوني والسياسي المزعومة داخليا

واحدة من المفارقات اللافتة في حكاية الولايات المتحدة أن الحقب التي يكاد يُجمَع على أنها سوداء في تاريخها كانت ملازمةً ومرافقةً لمزاعم التفوّق الإنساني والديني والأخلاقي والقيمي والدستوري والسياسي. من ذلك أن المستوطنين الأوروبيين الأوائل في أميركا كانوا من التطهيريين أو البيوريتانيين، وهم من تفرّعات البروتستانتية المسيحية، الذين كانوا يعانون من التضييق والاستهداف والملاحقة في بريطانيا، ومن ثمَّ كانوا ينشدون الحرّية الدينية فيها. وعندما اصطدم المستوطنون الأوائل بسياسات الإخضاع البريطانية، بما في ذلك فرض الضرائب الباهظة عليهم، شنّوا حرباً تحريرية (1775 – 1783)، انتهت بدحر قوات بريطانيا العظمى حينها، رغم أنهم هم أنفسهم استمرّوا في التوسّع واحتلال أراضي غيرهم. وقد سعى الآباء الأميركيون المؤسّسون إلى صياغة منطق التفوّق الإنساني والديني والأخلاقي والقيمي والدستوري والسياسي عبر وثيقة الدستور الأميركي نفسها (1778)، فجاء في مقدّمته: “نحن شعب الولايات المتحدة… رغبة منّا في إنشاء اتحاد أكثر كمالاً، وفي إقامة العدالة، وضمان الاستقرار الداخلي، وتوفير سبل الدفاع المشترك، وتعزيز الخير العام وتأمين نِعَمِ الحرّية لنا ولأجيالنا القادمة، نرسم ونضع هذا الدستور للولايات المتحدة الأميركية”. وفي عام 1791، أُقرَّت التعديلات الدستورية العشرة الأولى، التي تعرف بـ”وثيقة الحقوق”، وأول تلك التعديلات تنصّ على ضمان حرّية العبادة والتعبير والصحافة، وحقّ الاجتماع والتظاهر السلمي، من دون أيّ قيود أو تدخّل من سلطات إنفاذ القانون. لكن الواقع كان مغايراً، وبقي إلى حدّ كبير مغايراً.

الحقب السوداء في تاريخ الولايات المتحدة لازمتها مزاعم التفوّق الإنساني والديني والأخلاقي والقيمي والدستوري والسياسي

بداية، كان نفي حقوق السكّان الأصليين والسود في أن يكونوا ضمن مكونات “شعب الولايات المتحدة”، الذين لهم حقّ في العدالة والاستقرار والتمتّع بالحرّية، فكان أن استمرّت جرائم الإبادة والتمييز العنصري والقمع بحقّهم قروناً طويلة مقبلة. الأمر نفسه يتعلّق بالحرّيات الدينية، إذ وجد الكاثوليك، على سبيل المثال، أنفسهم محلّ استهداف وتضييق من الأغلبية البروتستانتية ثلاثة قرون ويزيد، منذ مطلع القرن السابع عشر. ثمَّ كانت هناك الحقبة المكارثية في خمسينيّات القرن العشرين، وشهدت مرحلةَ قمعٍ واضطهاد سياسي وفكري لكلّ من يُتَّهم بأنه يحمل أفكاراً يساريةً أو يُشَكّ في تعاطفه مع الاتحاد السوفييتي والشيوعية، وكان ضحايا هذه الحملة هم السياسيون والصحافيون والممثّلون والطلّاب والموظّفون الحكوميون المشكوك في ولائهم، بناءً على مزاعمَ اتضح أن غالبها الأعظم كان ملفَّقاً. طبعاً، ما بين تلك الحقب حقب ثانية، وما يطرح هنا أمثلةٌ لا محاولة للإحاطة والحصر. وتلي ذلك حقب أخرى ما زالت قائمة، مثل الاستهداف التنميطي والممنهج للعرب والمسلمين الأميركيين بعد هجمات 11 سبتمبر (2001). ومرّة أخرى، في حالة من المفارقة الساخرة، تزعم الولايات المتحدة في كلّ حقبة أنها تدافع عن التفوّق القيمي، وأنها تدافع عن الحرّية والعدالة والمساواة وحقوق الإنسان، في الوقت نفسه الذي تكون فيه قدمها الثقيلة تسحقها تحت حذاء عسكري أو أمني أو فكري أو إعلامي.

من ثمَّ، وبناءً على ما سبق، مزاعم التفوّق الأميركي على مختلف الصعد، خصوصاً قيمياً، ما هي إلا من أدوات القوة الناعمة التي توظّفها الولايات المتحدة في خدمة المشروع الإمبريالي الوحشي الاستبدادي نفسه. إنها مساحيق التجميل التي تذوب الآن معرّيةً حقيقة الوجه البشع الذي تحتها.


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...