محمد الدكالي
خبير في الشؤون الأفريقية
يبدو أن الحرب الأهلية المدمرة المتواصلة منذ ما يقرب من سنتين قد شارفت على الانتهاء كما يأمل السودانيون. هي حرب حضّرت لها الإمبريالية منذ أمد طويل عبر مراحل، بدأت بالحرب الأهلية الأولى بين “الشمال” و”الجنوب” ما بين 1955 أي بعد استقلال السودان مباشرة و1972 التي طالب فيها الجنوبيون بحكم ذاتي موسع، إذ تبنى السودان وقتها نظاما فيديراليا. ثم أعقبتها الحرب الأهلية الثانية التي دامت 21 سنة من 1983 إلى 2005 انتهت بمقتضى اتفاقية نيفاشا، قتل فيها مئات الآلاف من أهل الشمال والجنوب وعدة ملايين من النازحين. وفي يوليو2011 أعلن انفصال دولة جنوب السودان رسميا بعد استفتاء صوت فيه أغلب أهل الجنوب لصالح الانفصال، فكان حفل رسمي دولي كبير حضره الرئيس السوداني الأسبق عمر البشير.
كان هذا الانفصال إسفينا تصدع معه السودان بشكل عميق. ومع فشل الدولة السودانية منذ الاستقلال في إدارة النظام الفيديرالي بمتطلباته، وتفسخ النظام السياسي الشمولي الذي تحكم فيه الإسلاميون طوال ثلاثين عاما، لم يعد بإمكانهم السيطرة على عوامل الاحتراب الداخلي الدائر حاليا، وقد صنعوا بأيديهم بعضا من هذه العوامل، بينما اشتغلت الإمبريالية على عوامل أخرى خلال عشرين عاما الماضية، في اتجاه تمزيق السودان على النحو الذي نراه الآن، هادفة إلى تقسيم السودان إلى أربع أو خمس دويلات.
إلى ماذا ستفضي إليه إذا أوضاع السودان في المستقبل المنظور والأبعد؟ حمّال أوجه بطبيعة الحال، لكن في جميع الحالات يتوقف إنقاذ السودان على حكمة أهله وقدرتهم على استخلاص العبر والتوبة من الكبائر السياسية التي أوصلتهم إلى ما وصلوا إليه، والأهم، نفخ روح إعادة البناء الراشدة المقتدرة بالعلم في الدولة والمجتمع.
تاريخ اجتماعي كاشف
لا يمكن فهم الحالة السودانية دون فهم لتشكلاته السكانية الفسيفسائية ولتاريخها العميق، ولتوزيعها الجغرافي في بلد مساحته هائلة، وانتقال السودان فجأة من بلد عاش مسلما جامعا للقبائل والأقوام قرونا طويلة، بخصائص المجتمعات القديمة في تنظيمها الاجتماعي وفي بنياتها السياسية، إلى دولة جديدة ذات نظام فدرالي تسكنها كل الفوارق الإثنية المعقدة، مطالَبة باجتراح الصّيغ والأدوات التي تضمن بناء دولة حديثة وتماسك المجتمع، وفقا لهويته المسلمة المتجذرة، وكل هذا في سياقات سياسات غربية تتربص الدوائر بالدولة الناشئة.
وقد يسّر لي الله سبحانه أن أزور السودان في السنوات 1997، 2003، 2005،2004 2008، في شرقه ووسطه وغربه، فكانت فرصا لفهم أوضاع البلد بشكل أفضل.
السودان بلد استثنائي، تجتمع فيه ظاهرات جغرافية وسكانية وتاريخية وثقافية كبيرة الأهمية بالنسبة لإفريقيا كقارة وللعالم العربي، ولا أحسب أن هناك بلدا أفريقيا أو عربيا انصهرت فيه بالدين واللسان العربي والمصاهرة عدد كبير من القبائل والأقوام الأفريقية مثلما هو موجود في السودان. وبالنسبة لعلاقة السودان بالعالم العربي فهي مركزية في علاقة هذا الأخير بالقارة الأفريقية التي تتصارع عليها القوى الإمبريالية وتنهشها بوحشية لا مثيل لها.
هذه العلاقة مرتبطة تماما بقضايا كبرى، أولها مستقبل الإسلام نفسه في القارة، ثانيها قضية التحرر من السيطرة الإمبريالية على أفريقيا، وثالثها بناء المستقبل المشترك بين العالم العربي وكتلة الحزام الإسلامي العظيم الممتد من القرن الأفريقي إلى الواجهة الأطلسية غرب القارة.
جغرافيا هو بلد شاسع الأطراف (1.860.000 كلم مربع) تسكنه أكثر من 50 مليونا من الأنفس. ولتكوين فكرة بسيطة عن مساحته يكفي أن نعرف أن إقليم دارفور غرب السودان تبلغ مساحته قدر مساحة فرنسا. مَعْلمه الطبيعي الأبرز نهر النيل العظيم (6650 كلم) الذي يجري ثلثه من حيث الطول في السودان، وفيه يلتقي فرعاه الكبيران النيل الأبيض والنيل الأزرق. موقعه الاستراتيجي رباعي الأبعاد، فهو يجاور شبه الجزيرة العربية شرقا، ويجاور مصر وليبيا ذواتا القوة البشرية والطاقية، وله حدود مع تشاد غربا وإرتيريا شرقا وإثيوبيا وأفريقيا الوسطى جنوبا، ويبالتالي فهو نفتح، كما كان دائما عبر التاريخ، على سائر بلدان الحزام الإسلامي العظيم.
طبيعيا وبيئيا، تتعاقب على السودان ثلاثة نُظم، الصحراء في شماله، مهد الحضارة الفرعونية الأولى، وهي امتداد لشرقيّ الصحراء الكبرى الذي تشترك فيه مصر والسودان وليبيا، ثم منطقة السّفانّا الممتدة من البحر الأحمر إلى دارفور في غربه، وهي جزء من السفانا العظيمة الممتدة عبر مداري السرطان والجدي في القارة، ثم المناطق شبه الاستوائية والاستوائية في جنوب البلد وتمتد على سائر مساحة دولة جنوب السودان حاليا بعد الانفصال سنة 2011 كدولة مستقلة. معظم مساحة السودان سهلية وهضابية وتتركز مناطق جبلية غابية وسطية الارتفاع في ولايتي كردفان في جنوبه الحالي.
حبا الله السودان بثروات طبيعية هائلة، فهو يتوفر على مناطق زراعية شاسعة تبلغ حوالي 74 مليون هكتار أو ما يعادل حوالي 40% من المساحة الكلية، يُستغل منها حوالي 15% فقط، حتى في المناطق الشمالية الصحراوية توجد إمكانات زراعية ضخمة بحكم جريان النيل فيها ووجود سدّ مَرَوي الكبير. الثروة الحيوانية من جمال وأبقار وأغنام وماعز تزيد عن 100 مليون رأس وتشكل حوالي 20% من الناتج القومي. يزخر البلد كذلك بالمعادن المتنوعة من الحديد والنحاس والفضة والمايكا والتّلك والمنغنيز والألومينيوم والكروم والبلاتين والذهب، وهذا الأخير ينهب بشكل فوضوي وواسع النطاق حيث توجد مكامنه القريبة من سطح الأرض في شمال السودان، ولقيادة قوات الدعم السريع النصيب الأوفر من هذا النهب.(1)
يتوفر البلد كذلك على مصادر كبيرة من الطاقة الأحفورية (نفط وغاز)، اكتشفت سنة 1975 وبدأ الإنتاج في بدايات التسعينات الماضية، لكن انفصال الجنوب جرّد البلد من 85% من إنتاج النفط.
فسيفساء سكانية
لا يوجد بلد أفريقي تجتمع فيه أعراق وشعوب وقبائل من كل أفريقيا تقريبا مثل السودان، هذا حقيقة تشاهد على الأرض وتؤكدها الدراسات السكانية والأنثروبولوجية السودانية والغربية، فقد أتاح موقعه الجغرافي ودوره التاريخي تنوعا سكانيا مدهشا.
موقعه المجاور لشبه الجزيرة العربية التي يفصلها عنه البحر الأحمر، جعله مقصدا لهجرات متوالية، من اليمن ومن نَجْدٍ قلب شبه الجزيرة ومن الحجاز غربها منذ فجر الإسلام وإلى ما قبل مائة سنة تقريبا،(2) فانصهرت تماما مع القبائل السوداء الأصلية، باستثناء قبيلة “الرّشايْده” التي هاجرت من نجد والحجاز إلى شرق السودان واستوطنت منطقة كَسَلا في الثلث الأول من القرن الماضي، وما يزال الرّشايده في شرق السودان يحافظون على طابعهم البدوي الرّعوي حتى الآن، وهم أصحاب ثروة حيوانية كبيرة لها شعبيتها في أسواق الخليج، لم يتصاهروا مع غيرهم من القبائل السودانية في المنطقة، وقد رأيت نساؤهم ما زلن يلبسن على النمط الأصلي في وسط شبه الجزيرة العربية ويضعن على وجوههن قناع “البُرْػُع” وما زالوا يحافظون على عاداتهم
——————–
1. أخبرني د. صلاح الربعة رحمه الله في التسعينات الماضية (سوداني) وكان من كبار العلماء الجيولوجيين في العالم، وقد تشرفت بالعمل معه في منظمة “العون المباشر” (الكويت) المتخصصة في أفريقيا، أن السودان ينوفر على احتياطيات كبيرة من اليورانيوم.
2.كل القبائل السودانية التي تعرّف نفسها بأنها “عربية” في شماله وشرقه وفي الوسط والغرب، هي في واقع الأمر قبائل تشكلت بالمصاهرة بين العشائر العربية الوافدة من شبه الجزيرة العربية والقبائل السوداء الأصلية في السودان، فألوان البشرة تتراوح بين السّمرة الفاتحة والسّواد، لكن الإسلام جمعهم وشكّل هويتهم الثقافية والاجتماعية، ولغتهم تبقى عربية بلهجات قبلية مختلفة.
وأعرافهم البدوية القديمة إلى الآن. (3)
من جهة الشمال، تشكل قبائل “النُّوبة” ذات الامتدادات في جنوب مصر، العنصر البشري السائد، تشكلت بمصاهرات قديمة منذ آلاف السنين بين العنصر العربي الوافد من شبه الجزيرة العربية والقبائل النيليةالمحلية. وتزخر منطقة النوبة بالآثار القديمة للحضارة الفرعونية الأولى قبل آلاف السنين، من تشكّلات الأهرام في نسخها الأولى، وبقايا قصور ومعابد وتحصينات ومدن فراعنة النوبة، تتسم بقدرات هندسية مدهشة امتدت على مجرى النيل في شمال السودان وعلى امتداد مجراه في مصر. ومن بلاد النّوبة انتقلت الحضارة الفرعونية إلى جنوب مصر ثم إلى شمالها (الأهرامات الكبرى والمعابد والقصور ونظم الري) لتستأنف تلك الحضارة بسط نفوذها إلى الشام والعراق حتى الحدود مع بلاد فارس.
في غرب السودان وهي المناطق المعروفة ب”دار فور”، تسود قبائل “الفور” وهي أفريقية الأصل، لكن هجرات من شبه الجزيرة العربية تجاورت مع قبائل الفور عبر التاريخ الإسلامي للسودان، ومن أشهر هذه القبائل العربية “المرازيق” و”المسيرية” في شمال دارفور، وهي قبائل بدوية رعوية متنقلة يعرفون باسم “البقّارة” (من البقر) واشتهروا بالغلظة، ومنهم شكّل الرئيس السابق عمرالبشير مجموعات “جنجويد” التي ستتحول إلى “قوات الدعم السريع”. في المقابل يغلب على قبائل الفور الاستقرار والعمل في الزراعة وهم أصحاب طيبة بالغة وكرماء جدا، وقد جمع الإسلام واللسان العربي سائر هذه القبائل، وقد دخل إلى منطقة دارفور في القرن 14م. لكن هذا لم يكن ليحول دون حدوث منازعات وتعدّيات بين القبائل العربية البدوية وقبائل الفور بسبب بحث الأولى عن الماء والمرعى في أواضي الفور، لكن آليات فض النزاعات المتوارثة كانت تحل المشكلات بالوساطة مصالحة أو دفعا للدّيات أو بالقصاص أو التعويض. (4)
————————
3. الرّشايدة من القبائل الكبيرة في شبه الجزيرة العربية وهم من فروع بني عبس اليمنية الأصل، ولهم امتدادات أيضا في الأردن وفلسطين ومصر والسودان. يعرفون كفرع باسم “بني رشيد”. تعود أسباب هجرة فرع منهم إلى السودان كونهم ناصروا الدولة العثمانية خلال ما يعرف بالثورة العربية الكبرى (1916-1918) التي تحالف فيها الشريف بن علي حاكم الحجاز مع الانجليز للقضاء على الوجود العثماني في شبه الجزيرة العربية والشام (سوريا والأردن وفلسطين) والعراق والتي وعد فيها الإنجليز بإقامة دولة عربية مستقلة يحكمها الشريف بن علي. وقد دفع الرشايده ثمن نصرتهم للدولة العثمانية عندما تعرضوا لقمع متواصل من حاكم الحجاز ومن بعده الملك عبد العزيز آل سعود الذي تولى الحكم سنة 1926.
4. من بين عادات فض النزاعات التي كان يقوم عليها زعماء القبائل والمشايخ وقادة الصوفية، دور “الحَكّامات” وهن نساء يحظين بالاحترام في القبيلة يساهمن بالوساطة لإصلاح ذات البين.
شهد تاريخ دارفور ممالك وإمارات إسلامية ومن أشهر ملوك دارفور السلطان علي دينار الذي حكم دارفور من 1898 إلى 1916، ومن مآثره أنه كان يكسو الكعبة وأوقف أوقافا للماء وسكن للحجاج في مكة والمدينة ما تزال إلى يومنا هذا، حارب الإنجليز نصرة للدولة العثمانية التي حكمت أجزاء من السودان واستشهدفي معركة غير متكافئة مع الإنجليز.
لقد ربطت هذه المنطقة الكبيرة (دارفور) بين السودان والقبائل المسلمة الوافدة من تشاد والنيجر ومالي والسنغال حتى نيجيريا غرب القارة، وقد رأيت في أبريل 2004 سكانا في قرى جنوب دارفور من قبيلة “هَوْسا” المشهورة وأصولهم من جنوب النيجر ونيجيريا الموطن الأصلي للقبيلة، وسألت الأهالي الذين اجتمعنا معهم في مَحلّية أبو عجّورة جنوب نيالا عاصمة ولاية جنوب دارفور عن انتماءاتتهم القبلية، فأحصيت واحدا وعشرين قبلية من بينهم “هوسا”، فقال لي أحدهم عندما سألته متعجبا من وجودهم هناك عن أعدادهم فقال لي “إحنا كتير”. نفس ظاهرة التنوع السكاني القبلي موجود في غرب دارفور وغربه حيث تعيش قبائل “الزّغاوَة” ذات الامتداد في شرق تشاد المعروفة بشراسة أفرادها وشجاعتهم في الحروب.
ما تقدم من نماذج للتنوع السكاني في السودان ليس إلا غيضا من فيض، وإلا فهو أكثر تنوعا بكثير. فمن ظواهره العجيبة وجود أعداد كبيرة من “الفُلاّته” كما يسميهم السودانيون، أو “الفلاّنيون”، وأصولهم من “فوتا تورو” في شمال شرق السينغال. لقد انساح الفلانيون منذ قرون شرقا وهم موجودون بكثرة في مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد إلى دارفور وشرق السودان، كما انساحوا إلى الشمال الجميل في غينيا المجاورة للسينغال “فوتا تورو” ومنها انساحوا إلى عموم بلدان غرب أفريقيا ولهم تاريخ مجيد في نيجيريا. نفس الشيئ لدى قبائل “ماندينغ” و”صونغاي” في مالي ومن قبيلة “ِزرما” في النيجر، كلهم وغيرهم موجودون في السودان.
أما جنوب السودان وهو يشكل حوالي ثلث مساحته قبل الانفصال (644 ألف كلم2)، فهو منطقة استوائية بغطائها النباتي وبيئتها ومناخها. أهله قبائل رعوية وزراعية، أكبرها قبيلة دينكا ثم قبيلة النِّوير ثم قبيلة الشُّلُك وقبائل أخرى أصغر. بقيت مناطق الجنوب مغلقة يعتقد أهلها الديانات الوثنية، ومع ذلك وصلها الإسلام حديثا بفعل أنشطة الدعاة من الشمال خلال مرحلة الاستعمار الإنجليزي (1899-1956) وبعد الاستقلال، رغم أن الإنجليز حرصوا على عزل الجنوب عن الشمال بكل الوسائل. ويقدر عدد المسلمين في دولة جنوب السودان من 20% إلى 30% وهم نشطون في الدعوة ولهم مجلس إسلامي أعلى يمثلهم. وفي حين أن المسيحيين يشكلون أغلبية نسبية، ما تزال نسبة من الجنوبيين على دياناتهم التقليدية.
هي الحدود إذا خططها قادة الاستعمار الأوروبي فمزقوا بها الشعوب والقبائل الأفريقية في القارة برمّتها وفقا للتفاهمات التي جرت بينهم في مؤتمر برلين سنة 1884، وإلا فالمسلمون الأفارقة كانوا دائما أمة واحدة، رغم تعدد الممالك والإمارات في تاريخهم، جمعهم الإيمان وأخلاق الإسلام المبسوطة اجتماعيا والثقافة الإسلامية الواحدة.
الحجّ ومسارات الهجرات إلى السودان
إذا بحثنا عن عنوان جامع لظاهرة التنوع الإثني الكبير في السودان، فلن يكون سوى الحج، فموقع مكة يقابل تماما الشاطئ الشمالي للسودان على البحر الأحمر. ومع الطابع المفتوح في العلاقات بين الشعوب والممالك الذي ساد في الأمة قرونا طويلة، كان انتقال الأقوام بين أرجاءها طلبا للرزق تجارة أو رعيا أو زراعة أمرا عاديا جدا.
كان السودان وإلى وقت قريب جدا هو الممر الجغرافي الأهم لقوافل الحج من سائر بلدان الحزام الإسلامي العظيم من شرق القارة وغربها، بل حتى من شمالها. فعندما كان الأمن ينعدم في بلاد المغرب الإسلامي مثلا بسبب الحروب أوغيرها، كان الحجاج يسافرون متجهين جنوبا عبر الصحراء الكبرى إلى مالي ثم النيجر فتشاد ودارفور ثم إلى شرق السودان ويبحرون من هناك إلى الحجاز أو من السودان إلى مصر برا ومنها إلى مكة والمدينة.
يوجد في السودان عديد من ذوي الأصول المغربية ومنهم “الشّناػيط” كما يسميهم السودانيون نسبة إلى شنػيط بلاد المرابطين والموحدين، وقد رأيت مرة في الطريق إلى مدينة “مدني” لافتة تشير إلى قرية اسمها “المغارْبة” فأخبرني مرافقي أنها قرية يشتغل أهلها بالصيد في نهر النيل. لقد كان للمغرب وأهل صحراءه دور بارز في تشكيل الثقافة الدينية والاجتماعية في السودان عبر القرون، فبواسطتهم صار المذهب المالكي مبسوطا في السودان، وانتشار الطرق والأدبيات الصوفية، و”الثوب” الذي تلبسه المرأة السودانية هو نفس ثوب النساء الصحراويات في المغرب وموريتانيا.
وبالنسبة لوفود الحجاج القادمة من قبائل عموم غرب أفريقيا (بلاد السودان الغربي كما كانت تسمى في الأدبيات التاريخية القديمة)، من السينغال وغينيا وساحل العاج ونيجيريا عبر السودان، فهي لم تتوقف عبر القرون. ومن أشهر وفود الحج التي مرّت عبر السودان، حملة الملك العظيم أسكيا محمد توري (1441-1538) الذي حكم “مملكة صُنغاي” التي سادت في مالي وأجزاء من النيجر والسنغال، وحملة حج الملك العظيم مانسا موسى سنة 1324م ملك “”مملكة مالي التي امتدت هي الأخرى من مالي إلى الواجهة الأطلسية في غرب أفريقيا. كلا الحملتين كانتا موضوعا لكتابات كبار الرحّالة والمؤرخين القدامى، فقد سار موكب الملكين إلى السودان ومنه إلى مصر، ودخلا القاهرة في موكب ضخم من القادة والعلماء والتجار والناس العاديين، وأنفقا كميات كبيرة من الذهب على فقراء المسلمين وأوقفا الأوقاف ورجعا بأحمال كبيرة من الكتب.
كان هذه الاستطرادات ضرورية لفهم بعض الخصائص الأهم للمجتمع السوداني، فقد كان البلد دائما ممرا طبيعيا لوفود الحجاج، ولنا أن نتصور التأثيرات التاريخية لرحلات الحج ذهابا وإيابا، بالتلاقح السكاني والثقافي بين تلك الشعوب والقبائل بروح الإسلام ورحمة أخلاقه التي تغلغلت في تلافيف الثقافة الاجتماعية للسودانيين حتى الآن.
كل المعطيات المذكورة آنفا تساعد بشكل أفضل على فهم الأهمية الاستثنائية للسودان كبلد أفريقي عربي، ولماذا يستهدف من طرف الإمبريالية الغربية بالحروب والتمزيق.
نار الخلاوي والتصوف
ارتبط السودان العميق على امتداد تاريخه المدون بالإسلام، وتأثر اهل السودان في فهمهم وممارستهم للإسلام بما وفد إليهم من مصر والحجاز ومن بلاد المغرب خاصة، من علم وفقه وتربية صوفية أكثر من غيرهم. وستشكل الطرق الصوفية عبر القرون البنيات الدينية والثقافية للمجتمع السوداني متجاوزة تماما الانتماءات القبلية. وفي العصر الحديث، سيصبح للطرق الصوفية تأثير بارز في الحياة السياسية، بتوليفة فريدة لا نجد لها شبيها في البلدان العربية.
ولتغلغل الصوفية في المجتمع بشكل عميق خلفيات عدة، إذ توجد في السودان حوالي أربعين طريقة أبرزها القادرية والتيجانية والمهدية والميرغنية والختمية والسّمّانية وهي منتشرة في كل السودان ولها امتدادات خارجه. فطبيعة التصوف كفهم للدين وممارسة له بشكل منظم في الجماعة المنتمية، يتيح تنظيم الجماعة الصوفية بقدر كبير من التضامن والتماسك الاجتماعي خارج سلطة الحاكم أو الأمير أو الدولة، يعززه دائما تأثير وتوجيه قوي لشيخ الطريقة، الذي عادة ما يكون صاحب خلق وورع وزهد وخادم للناس البسطاء بتواضع، ويحظي باحترام غير عادي وله سلطة على النفوس.
هذه البنية الاجتماعية تستمر لزمن طويل بنوع من الاكتفاء الذاتي في الشعور بالحاجة إلى الانتماء وتأمين التعاون بين المنتسبين لإشباع الحاجات. هذه ظاهرات تتكرر عادة في كل المجتمعات المسلمة التي تنتشر فيها الطرق الصوفية. ومن أهم الصّيغ التي تبنّتها الجماعات الصوفية السودانية ما يعرف بـ”الخلاوي” (جمع خُلوة)، وهي أماكن بسيطة منتشرة في كل انحاء السودان يختلي فيها “المريدون” للتزكية الروحية بذكر الله عز وجل، وتكون هذه الخلاوي دائما مراكز لتحفيظ القرآن الكريم للأطفال والشبان ذكورا وإناثا ومراكز للتهذيب والتعليم، وقد تعاقب فيها الملايين على مدى القرون. ومما اشتهرت به الخلاوي نار يوقدونها وسط الخلوة ويتحلّق حولها عشرات من الحفّاظ لحفظ القرآن الكريم طوال الليل.
لكن السودان سيتميز في تاريخه المعاصر ببروز الطرق الصوفية كقوة سياسية قادرة على تنظيم وتحريك قطاعات كبيرة من المجتمع والتأثير في الحياة السياسية، وأبرز مثال “حزب الأمة القومي” (الطريقة المهدية، تأسس سنة 1953 وترأسه الصادق المهدي) و”الحزب الاتحادي الديموقراطي” (الطريقة الختمية، تأسس سنة 1945 وكان يترأسه عثمان الميرغني). وسيصبح لهذين الحزبين وللجماعات الصوفية الأخرى دور اجتماعي، بموازاة السياسي، عبر مؤسسات خدمية في التعليم والصحة والمساعدات الاجتماعية وإصدار الصحف. وسينشط الحزبان بشكل خاص بعد الاستقلال سنة 1956 وانسحاب قوات الاحتلال الإنجليزي ليشكلوا أهم القوى السياسية في مرحلة أولى.
ومع دخول البلد في حمى الانقلابات العسكرية (10 انقلابات ناجحة ما بين 1957-1989بما فيها انقلاب العسكريين الشيوعيين سنة 1973، عدا الانقلابات الفاشلة)، كلما جاءت حكومة مدنية أعقبها انقلاب أو انقلابات على الانقلابيين، سيصل السودان إلى حضيض ضعف الدولة ومزيد من الاحتراب السياسي بعد وصول حزب “الأمة القومي” إلى السلطة بانتخابات عامة سنة 1986، عندما لم تنجح الحكومة المدنية في التعامل مع المشكلات الداخلية ولا مع أخطار الحرب الأهلية في الجنوب التي قادها جون غارانغ الذي نجحت قواته في توجيه ضربات مؤلمة للجيش السوداني والسيطرة على مناطق كبيرة من جنوب السودان.
وابتداء من 1989 بعد انقلاب الجنرال عمر البشير على حكومة الصادق المهدي المدنية، وكان من تدبير الحركة الإسلامية السودانية، سيدخل السودان المعاصر في مرحلة جديدة من تاريخه المعاصر بتجربة سياسية واجتماعية على مدى ثلاثين عاما، مختلفة تماما عن كل ما سبقها، ستفضي بدورها إلى أعتاب مرحلة ثالثة تتبدى إرهاصاتها الآن.
(يتبع)
إيطاليا تلغراف