السودان وتحديات العِبر (3)

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

 

محمد الدكالي
خبير في الشؤون الأفريقية

 

 

لتقييم تجربة حكم الإسلاميين في السودان يتعين فهم ما الذي حدث منهم وفيهم، بالوقوف عند طرائق التعامل مع الأحداث والمشكلات الكبيرة في تاريخ التجربة، فجدوى الأفكار النظرية والشعارات تقاس، من بين أشياء أخرى، بقابليتها للتحقق ونجاحها في حل المشكلات بتكاليف معقولة، وبقدرة أصحابها على تحويلها إلى برامج ومشاريع تنفع الناس، تطعمهم من جوع وتأمّنهم من خوف، وتحقق كرامتهم وتحفظ حقوقهم.
سنستمر في هذه الحلقة الأخيرة في التذكير ببعض المشكلات والأحداث الكبيرة في تجربة “النظام الإسلامي” في السودان وكيف تعامل معها.
عقوبات قاتلة
كان اللون الإسلامي الفاقع للشعارات التي رفعها النظام الإسلامي بعد الانقلاب في كل المجالات، واختياره للحرب الشاملة كحل نهائي لمشكلة الجنوب، بمثابة استفزاز كبير للقوى الإمبريالية والإقليمية المتربصة، فموقع السودان الجيوسياسي حساس جدا ليس بالنسبة لموقعه المجاور لشبه الجزيرة العربية ومصر فقط، بل بالنسبة لموقعه كبلد مسلم كبير في القارة، وبما يتوفر عليهمن موارد بشرية وطبيعية ضخمة وثقل ثقافي مؤثر في شرق وغرب ووسط القارة، فتوالت من ثمّة سلسلة طويلة من العقوبات الصارمة، خنقت اقتصاد البلد وساهمت في تعويق تقدمه.

لقد سمحت إيرادات النفط ابتداء من 1998من تدارك الوضع الاقتصادي المنهار بفعل العقوبات وسوء التدبير، بتغذية حزينة الدولة قبل أن تخرج الثروة النفطية من يد النظام بعد انفصال الجنوب سنة 2011، حيث توجد 85% من مكامنه في الجنوب. ونتيجة لهذا الانتعاش في موارد الدولة نفذ النظام بعض المشاريع الاستراتيجية مثل الطرق الواصلة بين الخرطوم والشرق حتى بور سودان وكسلا، ومع شمال البلاد التي بنى فيها سدّ مَرَوي، وتلك الواصلة مع ولايات دارفور غرب البلاد، وبناء عدد من الجامعات والمطارات والمستشفيات. لكن هذه المشاريع، مع أهميتها، هي أبعد ما تكون عن التنمية الشاملة، رغم ثلاثين عاما من الاستفراد بالحكم.
لقد حاول النظام السوداني طوال سنوات حكمه أن يتجاوز تأثيرات العقوبات الخانقة التي فرضتها أمريكا وأوروبا ومجلس الأمن، لكنها كان محكمة بحيث لم تترك له مجالا للمناورة، كما أن مقاطعة السعودية والإمارات ومصر له والضغوطات الدولية الكبيرة كان لها تأثير سلبي كبير على البلد. لم تُعدم مبررات هذا الحصار، فجاءت تهمة ارتكاب جرائم القتل والنهب والاغتصاب في ولايات دارفور، وتهمة إيواء وتمويل عمليات إرهابية أبرزها محاولة اغتيال الرئيس المصري حسني مبارك الفاشلة في أثيوبيا سنة 1995 بواسطة عناصر مصرية كانت متمركزة في السودان، وهوما وضع النظام في حرج كبير جعل أحد كبار أقطاب النظام يتساءل آنذاك بعد تلك المحاولة الفاشلة، “ماذا نعمل؟”.

لقد فتح النظام أبواب البلد لاستقبال وإيواء كثير من العناصر الإسلامية المعارضة ممن ضاقت بهم الأرض بما رحبت من مصر وتونس وفلسطين العراق وسوريا وليبيا، أو ممن كانوا في أفغانستان وباكستان وطوردوا بعد انتهاء الاحتلال السوفييتي. لم يكن كل أولئك اللاجئين عقلاء، بل ظهر منهم من ورطوا البلد في مشكلات كبيرة مثل أولئك الذين حالولوا اغتيال حسني مبارك ومصر بلد مجاور له وزنه الكبير، ولم تكن لمحاولة الاغتيال تلك أية جدوى. كما كان للجوء أسامة بن لادن إلى السودان قادما من أفغانستان واستثماره لأمواله في البلد تداعيات سياسية كبيرة في شكل ضغوط خارجية اضطر معها النظام إلى الطلب من أسامة بن لادن الخروج من السودان سنة 1996 وعاد إلى أفغانستان بعد أن مكث فيه أربع سنوات. كان واضحا أن أجهزة النظام السياسية والأمنية تعاملت بقلة مسؤولية مع هذا مثل هذه الملفات الحساسة، إذ كان في مقدور من هب ودبّ أن يدخل البلد ويخرج منه دون تدقيق أو ضبط. تجب الإشارة كذلك إلى أن النظام السوداني آنذاك تبني المقاومة الفلسطينية سياسيا وإعلاميا ودعمها بالسلاح الذي كان يوفره من مخازن الجيش أو مما كان يأتي من إيران، وكان السودان ينقل هذا السلاح إلى شواطئ شرق سيناء ومنها كان السّيناويون الشجعان يهرّبونه إلى حدود غزة ثم ينقل عبر الأنفاق بين مصر وغزة، وقد حدث أن ضربت “إسرائيل” أكثر من مرة حركة نقل السلاح هذه من الجو أو بحرا أو في سيناء عندما كان ينجح في رصد مثل هذه الحالات. على أية حال يبقى هذا الملف مجهولا وربما تكشف الأيام عن أسراره.

الحرب الأهلية الثالثة
وهي التي بشهد السودان فصولها المروعة الآن منذ حوالي سنتين، فهي ليست بين شمال “مسلم” وجنوب “مسيحي”، بل بين المكونات المسلمة للشعب السوداني في معظم مناطق السودان، ولا أحد يستطيع أن يفهم كيف غرق نظام سياسي “إسلامي” في فتنة عارمة من هذا النوع. لقد رأيت خلال زياراتي المتعددة كيف صنع النظام أهم عوامل هذه الحرب الأهلية الثالثة. ورغم ما يردده الجيش السوداني عن قرب حسم المعارك ضد قوات الدعم السريع، إلا أن احتمالات استدامتها واردة وصولا إلى انفصال ولاية أو أكثر من ولايات دارفور، فقد تم التخطيط والتحضير لهذه المرحلة من الحروب الأهلية بعناية من طرف القوى الإمبريالية مستغلة التناقضات الداخلية، والأخطر من ذلك كون النظام “الإسلامي” هو الذي صنع أداتها الرئيسية التي ستأتي عليه أولا، وعلى مؤسسات الدولة، وعلى ما بقي لها من مقدرات، وعلى البلد بأكمله.
مخاطر استدامة هذه المرحلة الثالثة من الحرب الأهلية واضحة تماما، دولة ضعيفة جدا لا مؤسسات لها إلا الجيش، واتساع رقعة الحرب في وسط وغرب البلاد وجنوبها في كردفان، بين جيش نظامي بيروقراطي ثقيل، وميليشيات مسلحة جيدا سريعة الحركة ولها السبق في المبادءة بالهجوم وتحظى بمصادر تسليح وتمويل خارجي لا تتوقف، وتتغذى بشريا من داخل السودان ومن جواره، ومأساة إنسانية هائلة لا تملك ما بقي من مؤسسات حكومية شبه مشلولة إزاءها شيئا.

كانت الأوضاع في ولايات دارفور قد بدأت في الانفجار منذ سنة 2003 عندما تصاعدت المواجهات المسلحة بين النظام في الخرطوم والحركات المسلحة المعارضة التي أعلن بعضها صراحة أنها تسعى للانفصال. كانت تلك الحركات خليطا من جماعات حملت السلاح بالحق أو بالباطل في وجه النظام بدعوى استئثار لون واحد بالسلطة واتخاذ القرار، وتهميش الأطراف وإهمال تنميتها، ومجموعات أخرى تحركها القوى الإمبريالية لتفسيخ الأوضاع في البلد وصولا إلى تقسيم البلد مرة ثانية وثالثة.. كل تلك الفصائل كانت تحصل على التسليح والتمويل بأشكال مختلفة ومنها ما كان يساهم به ديكتاتور ليبيا السابق معمر القذافي. لقد نجم عن هذا المواجهات المسلحة حركات نزوح كبيرة للمدنيين الأبرياء في ولايتي غرب وجنوب دارفور بشكل خاص، وانتشرت مخيمات النازحين في مناطق مختلفة من الولايتين بكل ما يعنيه هذا النزوح واسع النطاق من مآسي اجتماعية، وتوقف لسبل العيش للسكان في مناطق واسعة في دارفور الذين يعتمدون على الزراعة والرعي. وبشكل تلقائي، يؤدي نزوح الأهالي من بلداتهم وقراهم إلى تحفيز كثيرين من أبناء تلك القرى على الانخراط في الجماعات المسلحة المتمردة، وما شاهدته على الأرض، قصة يجب أن تروى.

كان على فريق عمل منظمة “قطر الخيرية” التي عملت فيها سبع سنوات، زيارة أكبر مخيم للنازحين في ولاية جنوب دارفور في أبريل 2004، وكان الهدف استطلاع أوضاع النازحين في مخيماتهم في مدينة نيالا عاصمة ولاية جنوب دارفور، وزيارة من عادوا منهم إلى قراهم المدمرة بعد أن قهرتهم ظروف الحياة البائسة في المخيمات، فقد وصلت أخبار تؤكد عودة عديد من النازحين إلى قراهم، ومن ثمة لتحديد احتياجات العائدين وتأمين متطلبات استئناف حياتهم العادية في قراهم التي عادوا إليها.
سافرنا بطائرة مدنية من مطار الخرطوم إلى نيالا واستغرقت الرحلة ساعة ونصف، وهذا يعطينا فكرة عن مساحة البلد. لاحظت أن الرشوة كانت حاضرة بشكل “طبيعي” في المطار الذي كان غاصا بالركاب في الرحلات الداخلية. وعندما نزلنا في مطار نيالا كانت هناك طائرات حربية تابعة لسلاح الجو السوداني، وهي طائرات حديثة نسبيا آنذاك، طائرات ميغ 25 وأخرى من نوع Mi21 السّمتية (هلكوبتر) التي استعملها الروس بكثافة في أفغانستان. فوجئت بالكيفية التي استخدم بها نظام الجنرال البشير سلاح الطيران، فقد قصفوا القرى “المحسوبة” على الحركات المتمردة والانفصالية في جنوب دارفور، فأحرقوا بيوتها الريفية وزرائب الأنعام.. رأيت عددا من القرى المحروقة التي اضطر أهلها نساء وأطفالا وكبار السن إلى النزوح في عدة مخيمات والعيش في الخيام في ظروف سيئة جدا، وهم القرويون الذين تعودا العيش بكرامة وحرية في أكناف الطبيعة والحقول والغابة، يحرثون أراضيهم ويرعون أنعامهم. كان مخيم “كِلْما” الذي زرناه يقع على بعد 17 كيلومترا جنوب شرق نيالا وكان الأكبر من بين المخيمات في ولايات دارفور يعيش فيه حوالي 90 ألفا من سكان قرى الولاية. كانت حياة أولئك الناس البسطاء المعروفين بالحفاظ على أعراضهم وتمسكهم بدينهم، بائسة جدا، وقد رأيت حزنهم في العيون بعد أن جردهم العيش في الخيام من كل خصوصيات العِرض ويعيشون على “المساعدات” الدولية بطريقة مذلّة. وفي واقع الأمر لم يكن مخيم كِلْما سوى نموذجا يتكرر في عديد المناطق. ساعتها أدركت أن النظام السوداني لا يختلف في جوهره عن أي نظام عسكري دكتاتوري عربي آخر.

لم يكتف النظام باستخدام الطيران لقتل وحرق السكان الآمنين وتدمير بيوتهم الريفية البسيطة، بل كوّن وحرّك وسلح مجموعات من ولاية دارفور الشمالية من القبائل العربية أشهرها قبيلة المحاميد والرّزيقات المعروفين بالبجمّالة والبقّارة، لمواجهة حركات التمرد المسلحة إلى جانب الجيش السوداني. وبغض النظر عن السياقات المعقدة للأوضاع المحلية آنذاك في ولايات دارفور وكردفان في علاقاتها بالحرب مع الانفصاليين الجنوبيين الذين قيل أن حركتهم تسلح بعض الجماعات في دارفور أو كردفان، أو تدخلات رئيس تشاد السابق إدريس ديبي لدعم بعض الجماعات المتمردة، لكن ما هو أساسي هو أن النظام السوداني اختار الحرب وأصر على ذلك، وبأية طريقة؟ بتأليب فئات من الشعب السوداني ضد فئات أخرى!! لم تفلح قطر التي رعت في الدوحة مفاوضات طويلة استمرت ثلاث سنوات للتقريب والمصالحة بين النظام والجماعات المتمردة، خاصة وأن النظام لم يبد استعدادا لاقتسام السلطة فعليا، أو التفكير في إعادة صياغة النظام السياسي وفق أسس جديدة تستوعب الجميع بالعدل، كما أن عددا من قيادات تلك الجماعات كان خاضعا لتوجيهات القوى الإمبريالية.
وسيصبح للسودان جيشان حقيقيان يخضع أحدهما إسميا لقيادة الجيش النظامي (قوات الدعم السريع). لكن الجنرال البشير سيمكّن للجيش الرديف (جنجويد سابقا) بشكل خرج عن السيطرة تماما. ومثلما اقترفت مجموعات جنجويد جرائم كبيرة في دارفور استدعت إصدار قرار من مجلس الأمن يعتبر الجنرال البشير وقادة جنجويد كمجرمي حرب مطلوبين للاعتقال والمحاكمة بتهم القتل والاغتصاب والنهب، وستقوم قوات الدعم السريع بقتل مئات من السودانيين والسودانيات عندما في انتفاضة 2019 ضد النظام الدكتاتوري الفاسد، كما ستتوسع تلك القوات في نفس تلك الجرائم لاحقا لكن على نطاقات أوسع وأبشع بكثير من السابق في كل أنحاء السودان تقريبا، وستتحول المواجهات إلى حرب أهلية حقيقة ثالثة.

السودان الآخر
حيثما ذهب المرء في بلدان الخليج، سيقابل وجوها سودانية، في الجامعات والمدارس والمستشفيات والمحاكم والإدارات الحكومية والشركات، لها تاريخ من المساهمات المشهودة في بناء المجتمعات الخليجية، كما توجد العقول السودانية بأعداد كبيرة في البلدان الأوروبية وأمريكا، وفي المنظمات الدولية التابعة للأمم المتحدة نجدهم بأعداد لافتة كمسؤولين وخبراء.
ليس من العدل في شيء النظر إلى السودان فقط من خلال السياقات المحزنة التي عاشها البلد تحت حكم “الإسلاميين”، فهناك السودان الحقيقي الأصيل الذي تحرص الإمبريالية على تمزيقه منذ سبعين عاما. من اللافت للانتباه والإعجاب فعلا ظاهرة العقول الكبيرة، الفكرية والعلمية والمهنية، والطاقات الشبابية النشطة التي يتوفر عليها السودان والتي لم تعط لها الفرصة للمساهمة في بناء النهضة في بلدها. وسأشير هنا إلى جوانب فقط من مساهمات أبناء السودان من أصحاب العقول والنهى في مسارات التجديد والبناء:
1. الصفوات العلمية والفكرية: فقد أنجب السودان قامات فكرية وعلمية عالية المستوى، في الفكر الإسلامي وفي فقه القضايا المعاصرة في نسختها السودانية وعلى مستوى قضايا الأمة، برؤى تجديدية جرئية تتجاوز ما شاع من فهومات تعيد إنتاج ما سبق إنتاجه عبر القرون في سكونية عجيبة، وهي رؤى أصيلة تنتمي لنفس المدرسة التجديدية المعاصرة برموزها الكبيرة المعروفة. تجب الإشارة كذلك إلى مساعمات القامات العلمية السودانية في نشأة وتطور مدرسة الفكر الإسلامي المعاصرة في الولايات المتحدة، في مشروع “اسلمة المعرفة” التي أسس لها الشهيدان د. إسماعيل راجي الفاروقي وزوجته الأمريكية د. لمياء مع ثلة من العلماء العرب والمسلمين حضر فيها السودانيون بشكل بارز، ولأخذ فكرة عن هذه المساهمات يمكن الرجوع إلى مجلة “المسلم المعاصر” ومجلة “إسلامية المعرفة” وإلى الأنشطة والإصدارات العلمية للمعهد العالمي للفكر الإسلامي، ولأدوارهم في تأسيس الجامعة الإسلامية العالمية في ماليزيا كأول جامعة تتأسس وفقا لرؤية مشروع أسلمة المعرفة. وباستثناء فكر حسن الترابي رحمه الله، يبدو أن هناك قصورا في الأوساط الثقافية العربية في التعريف بالمدرسة السودانية، التي اجتهدت لإعادة النظر في أصول فهم الدين وفي سبل التمكين له وفق سياقات ومتطلبات العصر. ومن المفارقات الغريبة أن هذه المدرسة لم يقع أصحابها فيما وقعت فيه أطراف عدة من الحركات والجماعات الإسلامية من جنوح إلى العنف والمواجهة بالسلاح مثلا، أو بالغلو في فهم الدين وتطبيقاته في الحياة اليومية من عبادات وعلاقات اجتماعية مثلا، بل سارت في مسارات اليسر والتيسير، لكن عندما وصلت فئات من القيادات الإسلامية السودانية إلى الحكم، إذا بها تتنصل من كبريات ما حرص أصحاب التجديد على التأكيد عليه من المفاهيم الراشدة حول إعادة البناء، ونهجت بشكل عام، خيارات الدكتاتورية والشطط في المواقف والأساليب كما رأينا آنفا.
2. جامعة أفريقيا العالمية: وهي صرح علمي وتنويري كبير ليس بالنسبة للسودان فقط، بل على مستوى أفريقيا المسلمة والعالم العربي. فقد تخرج آلاف من الطلبة والطالبات الذين ساهموا في العمل الدعوي وبناء الوعي الإسلامي الرصين في بلدانهم، ويعود الفضل في هذا الخير إلى رئيس الجامعة الجهبذ د. حسن مكّي وصفوة كبيرة من الأساتذة الجامعيين. كما يتبع الجامعة مركز الدراسات الأفريقية، وهو أفضل المراكز المتخصصة في هذا المجال في العالم العربي بدون منازع، وميزته المتفردة تعود لاعتبارين، أولهما أن رؤية المركز العلمية تركز على أفريقيا المسلمة المنسية عند العرب وهي الممتدة في ثلاثة أرباع القارة بمعايير الجغرافيا والتاريخ والديموغرافيا والهوية الثقافية. الاعتبار الثاني يعود لاهتمامات المركز بالأبعاد الجيوسياسية والثقافية والاقتصادية والأمنية بالغة الأهمية بالنسبة للعلاقات بين العالم العربي وأفريقيا حاضرا ومستقبلا. وقد أصدر مركز الدراسات الأفريقية كمّا كبيرا من البحوث وعقد عديدا من المؤتمرات العلمية حول هذه الموضوعات، وهذه الرؤية والمساهمات العلمية لا نجدها لدى أي من مراكز الدراسات الأفريقية في البلدان العربية.
3. منظمة الدعوة الإسلامية: وهي منظمة جمعت بين التعليم والعمل الدعوي والثقافي والإغاثة في عدد كبير من بلدان القارة، ساهمت بأشكال نشطة في نشر الثقافة الإسلامية في شرق وغرب وجنوب القارة، وكان أصحابها مدركين تماما للمخاطر التي تكتنف هوية الشعوب المسلمة الأفريقية بمفاعيل برامج القوى الإمبريالية، ومنها التنصير، وجميعهم اشتغلوا طويلا وبإمكانات ضخمة لتجفيف منابع الهوية في أفريقيا المسلمة عبر التعليم والإعلام والثقافة.
ولعل ما هو أهم في السودان الآخر، محافظة أهل السودان على تعلقهم الشديد بالإسلام كأخلاق وثقافة اجتماعية متجذّرة في تلافيف البنيات الاجتماعية في الحواضر وفي الريف على السواء، فقد اشتهر أهل السودان بالرحمة في علاقاتهم الاجتماعية وبطيبة النفس في التعاملات والمسارعة إلى رفد المحروم وابن السبيل، وغيرها من مكارم الأخلاق كممارسات يومية تلقائية. هذه الخصائص تشكل عامل قوة هائلة يمكن البناء عليها لتحويلها من تقاليد عفوية، إلى بناء مجتمع أكثر تماسكا ووعيا عبر التمكين بالتعليم والتربية والإعلام الباني، وبناء القدرات والمهارات لدى الأجيال الصاعدة، بمرجعية المبادئ الإلهية القرآنية الصافية والأنموذج النبوي الشريف، الخالية من شوائب الموروثات التاريخية المعوّقة للنهضة. كان هذا الخيار فرصة متاحة لكنها أهدرت مع الأسف.
هذه شذرات فقط عن السودان الآخر، وهي ما تزال حية رغم كل ما حدث ويحدث، والأمل في الله كبير أن يثوب أهل السودان إلى مواقع الريادة وإعادة البناء في أفريقيا وهم أهل لذلك.
وماذا بعد؟
لطالما داعبت خيال المنتسبين للحركات والجماعات الإسلامية فكرة “الدولة الإسلامية” و”تطبيق الشريعة الإسلامية”، كما جنح التفكير في استخدام السلاح والقتال كلما أمكنهم ذلك واعتبر أسلوبا مقبولا ومبررا بل “شرعيا”، وقد رأينا هذا في سوريا في السبعينات الماضية وليبيا وفي الجزائر في التسعينات الماضية، وبعضها حاول استلام الحكم بالانقلاب من داخل مؤسسة الجيش، وكلها تجارب أفضت إلى مآس شتى.

لقد سبق أن كتب د. أحمد الريسوني وذكر في محاضراته أن تطبيق 80% من مبادئ وأحكام الشريعة إنما يعود لمسؤوليات المجتمع المسلم، بما يعني من بين مايعنيه، أن مقاصد الإسلام لا تتوقف فقط ولا بشكل أساسي على وجود “دولة إسلامية”، كما لو كان مفهوم هذه “الدولة” نموذجا جاهزا ومعرّفا كأي مصطلح شرعي، وهذا وهم. لا وجود لمصطلح الدولة في النسق القرآني ولا خطاب موجه لكائن بهذا المعنى، بل جاءت النصوص الواضحة الصريحة وبصيغ عديدة ترشد المسلمين إلى الوظائف الكبرى للأمة في التوحيد بمعانيه الشاملة العميقة والرحمة و التقوى والقسط والشورى والتعارفية والإحسان والإتقان وأمثالها من كبريات المفاهيم والمقاصد التي نسيها المسلمون في فهمهم لدينهم وفي ممارساتهم اليومية، ولجاسم السلطان كتابات ومحاضرات مهمة جدا في إعادة تعريف وتصنيف هذه الوظائف من خلال صلب مفاهيم ومبادئ الوحي. وفيما يتعلق بالمواصفات الحقة لمفهوم الأمة نفسه، أي الخيرية والشهادة على الناس، فقد وردت كذلك بوضوح تام في النسق القرآني كمسؤوليات عظمى، وللشاهد البوشيخي كتابات عميقة حولها، وبالمثل عند حسن الترابي رحمه الله.. أما الدولة كنظام ومؤسسات وطرائق تدبير، فهي من المتغيرات التي ترك للناس التوافق بشأنها بما يحقق جلب المصالح الشاملة ودفع المفاسد الشاملة.
كثيرا ما يغفل المتحمسون لفكرة الدولة الإسلامية أو “الخلافة”، أن مصطلح الدولة هو مصطلح حديث ومعاصر تشأ وتطور في مفاهيم فلسفة السياسية لدى الأوروبيين، وتطورت مفاهيمها كذلك عبر تجارب التدافع بين سلطان الحكم المطلق والشعب، وانتزعت الشعوب الأوروبية تراكميا على مدى قرون حقوقها انتزاعا إلى أن استقرت في أعراف دستورية، وترسخت بالتحسين بأشكال وتجارب شتى على الشاكلات التي نراها الآن. إن الظن الذي ساد طويلا بأن إيجاد “الدولة الإسلامية” هو الأولوية، كان انطلاقة خاطئة، وقد أثبتت التجارب أن الانطلاقة الخاطئة تفضي حتما إلى نتائج خاطئة، فالدولة بنية فوقية بامتياز، بينما يبني المنهاج الإسلامي القواعد في القلوب والعقول والسلوكيات بالمفاهيم القرآنية، كُبراها وأوسطها وأدناها، فكان مجتمع المدينة الأنموذج الإيماني والأخلاقي الذي أزهر فأنتج الحضارة الإسلامية.

نهضة الأمة مرهونة بالفهم الصحيح والعمل الراشد بمقتضى المنهاج الإلهي لتحقيق مقصدي الخيرية والشهادة على الناس، ويا لها من مقاصد عظمى، فهما جماع التكليف وجوهر الصراط المستقيم بمعانيه وأبعاده الشاملة، وهو أول وأهم مسؤوليات العاملين الساعين لبناء نهضة الأمة، وهذا من أخطر ما نسيته الأمة كحظ عظيم مما ذكّرت به، وقد وصلت إلى أسفل دركات الانحطاط حسب تعبير أحمد الريسوني وقبله أبي الحسن الندوي في كتابه الفذ “ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين”.
ما ظهر في التجربة السودانية هو الغياب غير المبرر لجهود تنزيل الوظائف الكبرى كثقافة وممارسة يتشبع بها الناس، بالتعليم والتربية والتثقيف والإعلام وبناء قدرات ومهارات البناء والممارسة في جميع أكناف المجتمع في كل المجالات، مثل الصلاة والصوم والحج. وبقدر ما تمتلأ قلوب وعقول الناس فهما ووعيا بالمفاهيم القرآنية العظمي، وبقدر ما يقتنص العاملون الفرص ويتجهزون بأدوات العمل الصحيحة، سيبدعون أشكالا لا تحصى من العمل الباني ارتقاء بالمجتمع في مقامات النهضة، أي الخيرية أمرا بالمعروف بمراتبه كلها، ونهيا عن المنكر بأصنافه كلها، وصولا إلى مقامات الشهادة على البشرية. ومن تمام الحكمة و الرشد، الاستفادة من التجارب الإنسانية النافعة في طرائق التمكين الثقافي والسياسي المجتمعي، وهي تجارب غنية لاحبة، وهذا ما زهد فيه كذلك مع الأسف إسلاميو السودان والإسلاميون عامة إلا من اغترف منهم غرفة بيده.

إيطاليا تلغراف


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...