السودان وتحديات العِبر (الحلقة الثانية) من هم الإسلاميون السودانيون؟

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

محمد الدكالي
خبير في الشؤون الأفريقية

 

 

ارتبط السودان عبر تاريخه، ككل بلدان وشعوب الأمة بالإسلام دينا وثقافة اجتماعية وحياة سياسية بأنماطها القديمة. وقد رأينا في المقالة السابقة كيف صاغ موقع السودان كطريق للحج وانتشار الصوفية تاريخه، إذ تعاقبت فيه ممالك إسلامية شتى أبرزها السلطنة السِّنّارية (1502-1821) في جنوب شرق السودان حاليا، وسلطنة دارفور غرب البلاد (1650-1916)، والدولة المهدية (1881-1898) وأصلها ثورة على السيطرة المصرية-الإنجليزية حاصر فيها الثوار مدينة الخرطوم وانتهت بقتل قائد القوات الإنجليزية الجنرال شارلز غوردون سنة 1885.
وسيشهد السودان في العقود الثلاثة التي تلت الاستقلال سنة 1954 مرحلة حافلة بالصراعات السياسية الحزبية والانقلاباتالعسكرية، وتميزت كذلك بصعود أسهم الإيديولوجيا الماركسية عندما صار الحزب الشيوعي السوداني أقوى الأحزاب الشيوعية العربية، كما أسهم القومية العربية بتأثيرات الفكرة القومية والناصرية وحزب البعث. لقد بدا وقتها أن الإسلام، الذي صاغ حياة القبائل والمجتمعات المحلية في السودان قرونا، قد انحسرت تاثيراته بعد الاستقلال في الحياة السياسية. لكن الفكرة الإسلامية التي اعتملت في مصر المجاورة، ستصل إلى السودان في أواخر ثلاثينات القرن الماضي كما وصلت إلى سائر البلدان العربية، وحصلت مبايعة الإمام حسن البنا رحمه الله سنة 1945.
وستعرف الحركة الإسلامية الناشئة في السودان آنذاك عدة تجارب تنظيمية حكمها هدفان: الدعوة للفكرة الإسلامية ونشرها، ثم مواجهة الشيوعيين الذين أعلنوا الإلحاد وعملوا على نشره وهو ما كان شيئا صادما بالنسبة للسودانيين. وفي سنة 1947 ستؤسس مجموعة من الشبان في بداية المرحلة الجامعية، وكان من بينهم شاب اسمه حسن الترابي (1932-2016)، “حركة التحرير الإسلامي” كتنظيم طلابي مع واجهة علنية سموها “جبهة الدستور الإسلامي” أهدافها: مناهضة الاستعمار، الدعوة للدستور الإسلامي، مقارعة المد الشيوعي وسط الطلاب.

وستتطور الحركة الإسلامية الناشئة في السودان الحديث كتركيبة من التنظيمات السياسية التي تتبنى الإسلام كمرجعية ثقافية وسياسية وهوياتية للدولة والمجتمع في السودان، وستتطورت تلك التنظيمات تباعا نتيجة لتأثيرات سياقات الحياة السياسية في السودان أحيانا، أو نتيجة لانقسامات داخلية متوالية في مرحلة لاحقة بعد الوصول إلى الحكم. لكن الحديث هنا سيتركز على الحركة التي ستؤثر في الحياة السياسية والثقافية وستصبح الطرف الرئيسي فيها، وإلا فهناك حركة “الإخوان المسلمون” و”أنصار السنة” ذات الاتجاه السلفي وكلاهما ما زالتا موجودتين ولها مكانها ودورها في المشهد الإسلامي العام، وكذلك التنظيمات الحزبية المعبرة عن التوجهات السياسية للجماعات الصوفية الأبرز كما رأينا في المقالة السابقة.
كانت بدايات ظهور الحركة الإسلامية السودانية متأثرة بحركة “الإخوان المسلمون” التي امتدت تأثيراتها خارج مصر في بعض البلدان العربية ومنها السودان عندما أعلن عن التأسيس الأول سنة 1954، وستعرف الحركة حالة كمون لعقد من الزمن في عهد الجنرال عبّود الدكتاتوري، ثم لتعاود الظهور سنة 1964 بعد الثورة الشعبية التي أطاحت بالجنرال عبّود، وكان الشاب حسن الترابي أحد أبرز قادة تلك الثورة. وسيدرك هذا الأخير بعد توالي حملات التصفية على تنظيم حركة الإخوان في مصر بعد محاكمات وإعدامات قيادات الحركة سنتي 1954 و1965، ولاعتبارات أخرى تتعلق بتقديرات فهم الواقع السوداني، أن الارتباط بتنظيم الحركة في مصر سيكون مسارا خاطئا، فحصل فك الارتباط سنة 1969 مع تنظيم الإخوان والإعلان عن جبهة الميثاق الإسلامي، وكانت وثيقة الإعلان أكثر التصاقا بقضايا بناء الدولة والمجتمع والخصوصيات في السودان، من طروحات الإخوان في مصر التي كانت تركّز على مفهوم إقامة الخلافة الإسلامية التي نادى بها حسن البنا رحمه الله كرد فعل لسقوط الدولة العثمانية.

وستشهد الحركة الإسلامية السودانية حالة من القمع الشديد في عهد الجنرال جعفر النميري الذي استولى على الحكم بانقلاب سنة 1969، وأنهى الحياة الديموقراطية واضطهد القوى الوطنية والحركة الإسلامية بتأثيرات الشيوعيين والقوميين الذين دعموا النميري وكانت معادية للاتجاهات الوطنية والإسلامية، فكانت ابتلاءات شديدة بالاعتقالات والسجن والإعدامات طالت الإسلاميين بالدرجة الأولى. وبعقلية براغماتية صبورة سينجح حسن الترابي في إقناع الجنرال النميري بتغيير توجهاته نحو تبني المرجعية الإسلامية، وصولا إلى صدور إعلان تطبيق الشريعة الإسلامية سنة 1983 عندما تمت مراجعة منظومة القوانين وفقا للشريعة وبموجبها تم تطبيق حد السرقة في بعض الأشخاص ومنع وتدمير مستودعات الخمور مثلا. إلا أن التفاهمات التي حصلت مع النميري لم تمنع القوى الوطنيةوأبرزها الحركة الإسلامية من تنظيم انتفاضة شعبية أطاحت بالنميري سنة. استلم السلطة إثرها الجنرال عبد الرحمن سوار الذهب الذي سلم الحكم للحكومة المدنية المنتخبة ديموقراطيا في 1986. وفي نفس هذه السنة ستؤسس الجبهة الإسلامية القومية كتنظيم جديد للحركة الإسلامية. وطوال هذه فترة ما بعد الاستقلال، أظهرت الحركة الإسلامية السودانية قدراتها في التنظيم والتمكين لفكرها وثقافتها السياسية في السودان عندما كثفت جهودها في استقطاب شباب الجامعات من الجنسين وإعداد قيادات سياسية ومجتمعية وازنة لصالح توجهاتها.

بعد سيطرة الإسلاميين على الحكم سنة 1989 ستدخل الحركة الإسلامية كتنظيم، في مراحل أخرى عنوانها الانقسام نتيجة للشرخ العمودي الذي حصل في علياء السلطة بين حسن الترابي والجنرال عمر البشير. انقسمت الحركة عندما والت مجموعة من قيادات الحركة عمر البشير وكانت في مواقع مؤثرة في هيكل السلطة، بينما استمرت مجموعة أخرى على ولاءها لحسن الترابي ولفكره الفقهي والسياسي، فأسس الطرف الأول حزب المؤتمر الوطني السوداني سنة 1998 بقيادة عمر البشير كحزب سياسي حاكم. وفي سنة 2001 أسس حسن الترابي حزب المؤتمر الشعبي كحزب منشق معارض، ومن أهم ما طالب به تنزيل المبادئ الدستورية حول إدارة الدولة الاتحادية وقضايا الحريات والحد من صلاحيات الرئيس التي اتجهت إلى التوسع بشكل متزايد. وتحت هذا الضغط من التيار المعارض بادر إلى حل البرلمان سنة 2000 وكان يرأسه حسن الترابي وأعلن الأحكام العرفية. لم تعرف العلاقات بين طرفي الحركة الإسلامية منذ ذلك الوقت سوى مزيدا من التأزم.

الإسلاميون في الحكم
بعد خمس وثلاثين سنة من النشأة، قدرت قيادة الحركة الإسلامية في السودان أن الفرصة مواتية للسيطرة على الحكم وهو ما تم بانقلاب 1989 قاده الجنرال عمر البشير، لكن العقل المدبر كان حسن الترابي. كان تقدير تلك القيادات وقتها أن البلد قد وصل إلى مرحلة خطيرة من التردي، حكومة مدنية ضعيفة غير قادرة على اجتراح حلول للمشكلات الاقتصادية والاجتماعية المزمنة التي كان يغرق فيها السودان، وهو البلد الغني، والأخطر من ذلك تعاظم تهديدات الحرب مع الجنوبيين التي تقودها الحركة الشعبية لتحرير السودان، وكانت وقتها قد وصلت إلى ولاية النيل الأبيض التي لا تبعد كثيرا عن ولاية الخرطوم.
ولفترة وجيزة نجحوا في التمويه على علاقة الحركة الإسلامية بالانقلاب وساد الاعتقاد في الأوساط الدولية والإقليمية بأنه من تدبير الجيش فقط، لكن سرعان ما تبينت الحقيقة فباتت الطبقة الحاكمة المدنية-العسكرية مستهدفة بشراسة من طرف قوى دولية وإقليمية ولن يمر وقت طويل حتى ستبدأ مرحلة العقوبات الدولية والحصار.
نجح الإسلاميون في مرحلة أولى بعد الانقلاب في السيطرة الكاملة على جميع المؤسسات المدنية للدولة وعلى الجيش والمؤسسة الأمنية (الاستخبارات والشرطة)، كما السيطرة على قطاعات اقتصادية وتجارية حيوية عبر مجموعات من رجال الأعمال المنتسبين للحركة الإسلامية أو المتعاطفين معها، كما سيطروا على قطاع الإعلام المرئي والمكتوب والمسموع مقابل تضييق على وسائل الإعلام التي لم تكن خاضعة لتوجهاتهم. كما سيطروا على البرلمان عبر الدعاية المكثفة والتمويل الحزبي، وعلى القضاء والجامعات التي تحولت إلى مواقع قوة كبيرة بفعل برامج أدلجة واستقطاب منظمة جدا، وعلى النقابات العمالية والمهنية كالأطباء والمحامين والمهندسين، بينما كانت أجهزة المخابرات تراقب كل شيء.
كان نجاح الإسلاميين في هذه السيطرة نتيجة لجهود استمرت ثلاثة عقود من الاستقطاب والتكوين والتنظيم لآلاف من شباب الجامعات وهو ما أتاح للحركة أن تتوفر على عدد كبير من الأطر في تخصصات مختلفة كأساتذة جامعيين وأطر عليا في مؤسسات الدولة الاتحادية والولايات، إلى جانب الجيل الأول من القيادات العلمية والسياسية من جيل التأسيس. وبالنسبة للجيش فقد عملوا طويلا على دفع أعداد كبيرة من الشباب للانتساب إلى الكليات العسكرية المختلفة حتى أصبحوا يتوفرون على قاعدة حقيقية من الضباط بسرية ناجحة. ومع نضج التجارب السياسية وتطور الفكر السياسي لدى الحركة، كانت عوامل نجاح الوصول إلى الحكم قد اكتملت.
كان الإسلاميون أذكياء وواقعيين بما فيه الكفاية بعد استيلاءهم على السلطة، فلم يلغوا الأحزاب السياسية وتركوا لها هامشا من المشاركة السياسية التي لم تتحقق فعليا، فقد كانت الأحزاب تقاطع الانتخابات احتجاجا أو ضعفا أمام قوتهم الكاسحة، مع “وجبات” من القمع والسجن التي طالت شخصيات سياسية معارضة ومن أبرزهم زعيم “حزب الأمة القومي” الصادق المهدي، ومنع صحفهم بأحكام قضائية لا تخلو من التعسف لنشرها مقالات تنتقد النظام السياسي للإسلاميين.
وسيبقى الإسلاميون في السلطة ثلاثين عاما في السلطة، وكان حكمهم للبلد شموليا فعلا، وسيُختبرون اختبارات عسيرة في قضايا كبيرة، أولها حل قضية العلاقات مع أهل الجنوب، وقضية الديموقراطية، وقضية التنمية، وقضية بناء الدولة الاتحادية القوية، والعلاقات الخارجية مع قوى دولية وإقليمية معادية ومتربصة.

خسارة الجنوب
أثبتت الحرب الأهلية الأولى مع الجنوب (1954-1972) أن الحرب لم تحل المشكلات بين الشمال والجنوب، بل بقيت عواملها كامنة سواء من جهة إهمال المركز في الخرطوم للجنوب طوال عشر سنوات بعد الاستقلال، أو من جهة مفاعيل القوى الامبريالية التي تهدف إلى تقسيم السودان، وغرق البلد في صراعات حزبية أو انقلابات. لم يحظ السودان طوال عشر سنوات بعد الحرب الأهلية الأولى بأية حكومة قوية تهتم بمشكلات التنمية في البلد بما فيه الجنوب. وفي سنة 1983 ستشتعل نيران الحرب الأهلية الثانية مرة أخرى وستستمر اثنتين وعشرين عاما، وسيخسر السودان ثلث مساحته تقريبا في شكل دولة جديدة على حدوده الجنوبية.

كان تقدير الحكّام الجدد بعد الانقلاب أنه لا يتوفر حل سياسي للمشكلات مع الجنوب، لأن قوات الجنوب باتت تهدد ولاية الخرطوم، وما جعل الوضع أكثر خطورة وتعقيدا دور القوى الغربية وأخرى إقليمية في تأجيجها أصلا وتغذيتها بالسلاح والمال والدعم السياسي والإعلامي، فقررت القيادة حسم مشكلات الجنوب بالحرب.
نجح النظام السياسي الذي بدا متماسكا في مرحلة أولى في القيام بتعبئة شعبية هائلة لكسب الحرب في الجنوب، فتم تجنيد عشرات الآلاف من الشباب السودانيين وعدد كبير من كبار الكوادر من أساتذة الجامعات والأطباء والمهندسين الذين شاركوا في القتال في شكل تنظيمات عسكرية رديفة للجيش. كانت مستويات التعبئة عالية ترافقها دعاية مكثفة تعتبر أن قتال الجنوبيين جهاد محض، وهو ما أوحى بشكل أو بآخر بأنها حرب دينية بين شمال مسلم وجنوب مسيحي، حتى وإن كان الموقف الرسمي يؤكد على مواجهة “التمرد” و”الانفصال”.
تمكن النظام فعلا في مرحلة أولى من الحرب الثانية في دفع المقاتلين الجنوبيين وتقهقرهم إلى مشارف جوبا عاصمة الجنوب. لكن يبدو أن القيادة السياسية في الخرطوم لم تتوقع أن تتحول الانتصارات التي تحققت في مراحل أولى ستتحول إلى فخ استراتيجي. فمن جهة المسافة بين الخرطوم وجوبا 1600 كلم مما يعني أن خطوط الإمداد طويلة جدا ويصعب تأمينها من الهجمات الجانبية، ومعظم هذه المسافة يقع في مناطق استوائية فيها مساحات شاسعة من الأدغال والمستنقعات بأمراضها المستوطنة، ومن جهة ثانية كانت قوات الجيش والميليشيات الرديفة في حالة إنهاك كبير وبعيدة عن بيئاتها، بينما كان الجنوبيون يتحركون في بيئاتهم الطبيعية والاجتماعية. وستحدث مقتلة كبيرة في صفوف القوات السودانية وستضطر إلى التراجع والانسحاب شمالا لتصبح ولاية النيل الأبيض خطوط تماس جديدة، وهو ما كان يعني فعليا هزيمة عسكرية، أفضت إلى إيقاف الحرب رسميا سنة 2005 ثم اعتراف الخرطوم رسميا بدولة جنوب السودان بعد استفتاء 2011.

كانت حربا بشعة هلك فيها عشرات الآلاف من أبناء السودان شماله وجنوبه والخسائر هائلة في الاقتصاد والقدرات العسكرية وفرص التنمية. لكن الخسارة الأكبر كانت الشرخ في صلب العلاقات بين أبناء الوطن الواحد، وعاد مليونان أو أكثر من أهل الجنوب الذين كانوا يعيشون في الخرطوم، في ظروف مزرية فعلا بسبب الفقر، ولكن دون أن يحصل اضطهاد أو عدوان عليهم لا من الحكم ولا من أهل الخرطوم، بل عاش الجميع بروح التعايش والتسامح الذي اشتهر به السودانيون فعلا. وبالنسبة لمسألة الانفصال، يجب التذكير بحقيقة هامة، وهي أن هناك دلائل قوية على أن زعيم جيش التحرير الشعبي السوداني جون غارانغ لم يكن يسعى إلى انفصال الجنوب، بل كان يهدف إلى تحقيق استقلال ذاتي موسع ضمن دولة فدرالية وتوزيع الثروة القومية بالعدل بين مناطق السودان خاصة وأن معظم مكامن النفط في السودان توجد في الجنوب، وكان هناك تحالف سياسي مع حسن الترابي سنة 2001 الذي أيد مطلب الجنوبيين بالاستقلال الذاتي الموسع. لكن تصلب النظام وحرص القوى الإمبريالية على التقسيم، تمت تصفية جون غارانغ في “حادثة”طائرة بعد الاتفاق على وقف الحرب مباشرة وخلفه نائبه سيلفا كير الذي عمل على تحقيق هدف الانفصال.

الهرّة تأكل أولادها
بدأت عوامل الانقسام والصراع الداخلي تفعل فعلها مبكرا بعد الاستيلاء على السلطة في قمة النظام نفسه بين د. حسن الترابي والجنرال البشير وصولا إلى حدوث الشرخ التنظيمي الكبير، فانقسمت القيادات بمستوياتها المختلفة تبعا لذلك. كان حتما أن يحصل الشرخ بعد سنتين أو أقل من الانقلاب لسبب بسيط، فقد كان النظام السياسي يُديره في البداية رأسان، ولم يكن ممكنا إدارة الدولة ومصالح البلد بوجود رأسين حتى مع وجود مهام مختلفة، فأحدهما في أصله مفكّر وقائد سياسي قوي ينظر بعين المبادئ ويفكر كفقيه دستوري، والثاني عسكري يمسك بأزمّة الحكم بقوة الجيش والمخابرات ومسكون بعقلية الأوامر العسكرية، وليست له خبرة سياسية حقيقية، بينما تتطلب إدارة دولة متخلفة وكبيرة جغرافيا، بوضع جيوسياسي معقد وحساس، وتنوع إثني قبلي بثقافات اجتماعية قبيلية صرفة، أكثر بكثير من التنظير الجيد، ومن عقلية العسكر.
كان التنظير السياسي قويا لدى إسلاميي السودان، فقد طرح د. حسن الترابي رؤية تأصيلية تجديدية لفلسفة الحكم الإسلامي، ضمن الإطار الفدرالي، وإن لم يكن النظام الفيديرالي شيئا جديدا من حيث المبدأ في التجارب السياسية السودانية بعد الاستقلال، لكن كان على الإسلاميين أن يحلّوا كمّا هائلا من المشكلات الداخلية حتى يمكن تطبيق وتحقيق مقاصد النموذج الجديد لفلسفة الحكم في الدولة والمجتمع. وبحكم اختيار النظام السياسي للإسلاميين المضي في الحرب لحسم قضية الجنوب، فقد كان تحقيق مقاصد فلسفة الحكم، وبناء دولة حقيقية حديثة وبما لا يقل أهمية تأهيل المجتمع بالتعليم والتربيو التكوين والتمكين، وتحقيق التنمية، وكسب الحرب بما تتطلبه من تسخير كل جهود وموارد الدولة، والتعامل مع الضغوط الدولية الهائلة، في نفس الوقت، أمرا متعذرا تماما. هكذا أصبحت معالجة كل هذه المعضلات مجتمعة مصدر أكبر التحديات للنظام السياسي نفسه، فانعكست عليه بانقسام كبير وعميق.

وبقدر ما كانت معارضة حسن الترابي ومن معه من القيادات المدنية الوازنة صريحة في انتقاد سياسات النظام، بقدر ما كان تصلّب الجنرال البشير يزداد ومعه الشق الآخر من قيادات الحركة الإسلامية. وسيلجأ المتحكمون في السلطة تلقائيا إلى القمع بسجن المعارضين وإزاحتهم من المواقع في أجهزة الدولة، فنال المنشقين المعارضين النصيب الأوفر من المحاكمات وكان أبرزهم حسن الترابي نفسه الذي اعتاد على الاعتقال وأحكام السجن وقد بلغ مجموعها سبع سنوات وهو في السبعينات من عمره على عهد النظام الذي أسسه أصلا، كما طال القمع والسجن عددا من القيادات والقواعد التي ساندته. أذكر أنني التقيت بفيادي بارز في العمل التطوعي السوداني سنة 2008 في أحد المؤتمرات الدولية وحدثني عن ممارسات التعذيب في حق المعارضين بتوجيه من “الإسلاميين” المتشبثين بالسلطة.

وفي واقع الأمر تعلق الأمر بصراع بين اتجاه انغمس بشكل متزايد في الدكتاتورية بقوة الأجهزة الأمنية، وجناح كان يطالب ببسط الشورى والحريات العامة وبناء مؤسسات الدولة الفدرالية على أسس من “الشورى الديموقراطية” ونبذ المحسوبية والولاءات الشخصية، ومحاربة الفساد الذي تفشى في النظام، وعادة ما تفرض قوة البطش نفسها.
ومع أن النظام “الإسلامي” في الخرطوم بقي مصرا على استقلالية قراره الوطني في كثير من القضايا الداخلية والخارجية، سيجد نفسه محاصرا سياسيا واقتصاديا منذ بدايات عهده وصولا إلى حد الخنق، عبر سلسلة طويلة من العقوبات الأمريكية والدولية، وهو ما سيسرّع في تعميق أزماته، بل سيتخذ قرارات وينتهج سياسات داخلية ستوصله إلى السيناريو الذي خططت له القوى الإمبريالية طويلا، أي الاحتراب الداخلي في اتجاه مزيد من التقسيم، أي السيناريو الذي يحدث الآن.
(يتبع الجزء الأخير)

إيطاليا تلغراف


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...