بلجيكا تحت وابل الرصاص: تصاعد العنف المسلح في قلب أوروبا

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

عبد القادر الفرساوي

 

 

 

عندما يتردد صوت الطلقات النارية في أزقة بروكسل، وتتحول شوارعها الهادئة إلى مسارح للجريمة، يدرك المرء أن شيئا ما قد كُسر في قلب أوروبا. بلجيكا، التي كانت تُعرف بعاصمتها السياسية للاتحاد الأوروبي، باتت تتصدر العناوين لأسباب أشد قتامة: تصاعد العنف المسلح، وانتشار الأسلحة النارية في تصفية الحسابات بين العصابات.

ليست هذه هي المرة الأولى التي تواجه فيها بلجيكا تهديدا أمنيا خطيرا. ففي عام 2016، هزّت تفجيرات بروكسل الإرهابية البلاد، حين استهدف انتحاريون مطار زافنطم ومحطة مترو مولمبيك، مما أسفر عن مقتل 32 شخصا وإصابة المئات، في واحدة من أسوأ الهجمات الإرهابية في تاريخ أوروبا الحديث. قبلها بعام واحد، وفي يناير 2015، قامت الشرطة البلجيكية بمداهمة خلية إرهابية في مدينة “فيرفيي”، ما أدى إلى اشتباك مسلح عنيف قُتل فيه اثنان من الإرهابيين.

كانت تلك السنوات تذكيرا مؤلما بأن بلجيكا، رغم حجمها الصغير، باتت نقطة ارتكاز للجماعات المتطرفة في أوروبا. لكن مع مرور الوقت، وبعد حملات أمنية مكثفة و بفضل التعاون الاستخباراتي الوثيق مع دول صديقة.
خفتت نيران الإرهاب، ليحلّ محله خطر من نوع آخر: تصاعد العنف المسلح المرتبط بالجريمة المنظمة.

بحلول عام 2024، بدا أن بلجيكا دخلت مرحلة جديدة من عدم الاستقرار. لم تعد التفجيرات الإرهابية هي التهديد الأكبر، بل كانت الأسلحة النارية التي تتجول بين الأيدي وكأنها أوراق نقدية.

في مارس 2024، استفاقت بروكسل على وقع حادثي إطلاق نار منفصلين، أسفرا عن مقتل شخصين، أحدهما في بلدية لاكن، والآخر في وسط المدينة.
وفي شهر شتنبر وأكتوبر، شهدت منطقة “أومالي” في أندرلخت خمس حوادث إطلاق نار خلال أسبوعين فقط، وهو رقم يثير القلق ويعكس هشاشة الوضع الأمني.
أما شهر دجنبر 2024، فكان مسرحا لجريمة أخرى، حيث لقي شخص مصرعه وأصيب آخر في حادث إطلاق نار جديد في أندرلخت، وهي المنطقة التي أصبحت مرادفا للعنف المسلح وتصفية الحسابات.

بحسب التقارير الأمنية، بلغ عدد حوادث إطلاق النار في بروكسل 89 حادثا في عام 2024، مقارنة بـ43 حادثا فقط في 2023. تضاعف العدد في عام واحد، وكأن الرصاص بات اللغة الرسمية لتسوية النزاعات.

لم يكن عام 2025 مختلفا عن سابقه، بل بدأ على إيقاع العنف ذاته. ففي 4 فبراير، شهدت بلدية أندرلخت حادثي إطلاق نار منفصلين، أحدهما بالقرب من محطة مترو “كليمونصو”، حيث أصيب شخص في ساقه. لم تمر 24 ساعة حتى وقع إطلاق نار جديد أمام المحطة نفسها، مما أدى إلى إخلاء جزئي للمترو وتعطيل الحركة في المنطقة.

وفي 6 فبراير، قُتل رجل في “بيتر بوس”، حيث هرعت الشرطة إلى المكان بينما فُتح تحقيق جديد، في مشهد بات مألوفا لسكان بروكسل.

لكن الرعب الحقيقي عاد اليوم 15 فبراير، حيث شهدت محطة مترو “كليمونصو” في أندرلخت جريمة جديدة قُتل فيها رجل بعد أن أُطلقت عليه النار في الساعة التاسعة والنصف مساءً. الضحية سقط ميتا على الفور، بينما بدأت الشرطة عمليات بحث مكثفة عن المهاجمين. هل كان الأمر مجرد حلقة جديدة في سلسلة تصفية الحسابات التي تهز بروكسل، أم أن المدينة مقدّمة على موجة عنف أوسع؟ التحقيقات لا تزال جارية، لكن الثابت الوحيد هو أن الدماء باتت تسيل بوتيرة متسارعة في شوارع العاصمة الأوروبية.

وراء هذه الحوادث تكمن شبكة معقدة من العصابات الإجرامية، التي وجدت في بلجيكا بيئة خصبة لتصفية الحسابات. ويرى المراقبون أن هذه العصابات، المرتبطة غالبا بتجارة المخدرات، تعمل بأسلوب لا يختلف كثيرا عن التنظيمات الإرهابية: تهديد، ابتزاز، وعنف بلا حدود. الفرق الوحيد هو أن هدفها ليس أيديولوجيا، بل مادي بحت.

مع تصاعد العنف، تتساءل الأوساط الأمنية والسياسية عما إذا كانت بروكسل قد فقدت السيطرة على المشهد. فبينما تواصل الشرطة البلجيكية تنفيذ حملات أمنية، يبدو أن تأثيرها لا يزال محدودا، خاصة مع تدفق الأسلحة إلى أيدي المجرمين بسهولة مقلقة.

منذ سنوات، كانت بلجيكا تشتكي من كونها “قاعدة خلفية” للإرهاب، حيث كانت الشبكات الجهادية تتخذ من بروكسل نقطة انطلاق نحو عملياتها في باريس ولندن. اليوم، باتت المشكلة أكثر تعقيدا: لم يعد الخطر يأتي من الخارج، بل من الداخل نفسه.

هل يمكن السيطرة على هذا الانفلات الأمني، أم أن بلجيكا مقدّمة على سنوات جديدة من الفوضى؟ السؤال يبقى معلقا، لكن الأكيد أن 2024 و2025 قد دوّنا اسميهما في سجلّ سنوات الرعب، لا بالمتفجرات هذه المرة، بل بالرصاص الحيّ.

قد يكون الإرهاب قد خفت صوته، لكن الجريمة المنظمةرفعت رايتها، لتحلّ محل الخلايا المتطرفة شبكات أكثر براعة في التحايل، وأكثر استعدادا للضغط على الزناد بلا رحمة.

إيطاليا تلغراف


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...