الدكتور سيدي منير القادري بودشيش: نور التصوف المغربي في خدمة الوطن والإنسانية
عبد الله مشنون
كاتب صحفي مقيم بايطاليا
في زوايا المغرب العريقة، حيث تتعانق الروحانية مع الحكمة، وحيث يلتقي التاريخ بالمستقبل، يبرز اسم فضيلة الدكتور سيدي منير القادري بودشيش كوريث روحي للطريقة القادرية البودشيشية، وكشخصية جمعت بين العمق الصوفي، والامتداد العلمي، والرؤية الاستراتيجية لخدمة الوطن والدين. لم يكن مجرد حامل لسر أسلافه، بل كان رجل فكر، وباحثا أكاديميا، ودبلوماسيا روحيا، ومسؤولا عن استمرارية نور التصوف المغربي، الذي ظل على مدى القرون حصنا للهوية المغربية وثابتا من ثوابت إمارة المؤمنين.
حين جلستُ إلى فضيلة الدكتور سيدي منير القادري بودشيش في مداغ، لم يكن اللقاء عاديا، بل كان رحلة ممتعة إلى عمق التصوف المغربي، حيث كان حديثه الشجي يفيض بحب صادق للوطن، والتزامه العميق بإمارة المؤمنين، ودوره في تعزيز مكانة المغرب العالمية. لم يكن الرجل يتحدث عن التصوف كممارسة دينية فحسب، بل كان يرى فيه مشروعا حضاريا يعكس هوية المغرب كأرض للتسامح والانفتاح، ويجعل منه قوة ناعمة تمتد إلى العالم أجمع وهذا اهله ليكون في المستقبل شيخا معاصرا.
إرث التصوف المغربي والمسار العلمي والفكري لسيدي منير القادري بودشيش
الدكتور سيدي منير بشارة العارفين و وارث سر العارف بالله سيدي جمال الدين وهو شخصية روحية ورثت الطريقة القادرية البودشيشية، بل كان نتاج مسار علمي متعدد التخصصات، أهّله ليكون شيخا معاصرا قادرا على التفاعل مع قضايا العصر. وُلد في مداغ العامرة بالبركة ، وتلقى تعليمه في بركان ووجدة، ثم انتقل إلى الرباط، حيث حصل على شهادتين في الباكالوريا، ثم تابع دراسته في مدرسة دار الحديث الحسنية، حيث حصل على دكتوراه في العلوم الإسلامية. لكنه لم يكتفِ بذلك، بل واصل البحث الأكاديمي في جامعة السوربون بفرنسا، حيث حصل على دكتوراه أخرى في علوم التصوف، ليجسد بذلك نموذج العالم الصوفي المتمكن من التراث، والمطلع على قضايا الفكر الحديث، والقادر على تقديم التصوف بلغة علمية تناسب العصر.
هذا المسار العلمي لم يجعله يومئذ مجرد حامل لسرها فحسب وبشارة العارفين بالله، بل باحثا أكاديميا في التصوف، ومسؤولا عن تقديمه بصورة تتجاوز الطقوس التقليدية إلى كونه مدرسة فكرية وأخلاقية تسهم في بناء الإنسان والمجتمع .
التصوف المغربي كحصن للوطنية وإمارة المؤمنين
“إن التصوف ليس انعزالا عن المجتمع، بل هو مدرسة للوطنية”، قال لي وهو يستعرض تاريخ الزاوية القادرية البودشيشية. “لقد كانت الزوايا الصوفية دائما داعمة للعرش العلوي المجيد، وسندا لإمارة المؤمنين، ومدرسة لغرس حب الوطن في النفوس”.
كان يؤكد أن الطريقة القادرية البودشيشية لم تكن يوما منفصلة عن قضايا الوطن، بل كانت حاضرة في كل المحطات الكبرى، من مقاومة الاستعمار، إلى تعزيز الوحدة الوطنية، والدفاع عن قضية الصحراء المغربية، والمشاركة في الحوارات الدولية لنشر صورة الإسلام المتسامح والمشترك الانساني .
لم يكن يرى في التصوف مجرد ممارسة دينية، بل كان يعتبره ركيزة من ركائز الهوية المغربية، وأداة لحماية الأمن الروحي للمغاربة، وحصنا ضد التطرف والعنف والغلو في الدين.
“لقد أثبتت تجربة المغرب أن التصوف ليس مجرد تراث روحي، بل هو استراتيجية وطنية لتعزيز الاستقرار والتعايش، وهو ما جعل المغرب نموذجا عالميا في إدارة الشأن الديني”، قال لي وهو يتحدث عن الدور الرائد الذي يلعبه المغرب في تصدير نموذج التدين المعتدل.
دعم القيم الوطنية وترسيخ روح المواطنة
في صلب تعاليم الطريقة القادرية البودشيشية، كان الدكتور سيدي منير القادري بودشيش دائم التأكيد على أن حب الوطن عبادة، وأن الانتماء إلى المغرب ليس مجرد هوية جغرافية، بل هو التزام أخلاقي وروحي. من خلال لقاءاته ومواعظه، حرص على غرس حب الوطن في نفوس مريديه، وتعليمهم أن الولاء للمغرب لا ينفصل عن الولاء للدين، وأن خدمة الوطن من خلال العمل الصالح والتضحية والعطاء هي من أسمى درجات الإيمان.
لم تكن الوطنية عنده مجرد شعار، بل كانت مسؤولية أخلاقية وروحية، يسعى من خلالها إلى تعزيز قيم المواطنة الصادقة، والانضباط الأخلاقي، هذا الحب للوطن وملكه هو ثمرة عمل روحي حيث يصقل المريد قلبه ووعيه من خلال الممارسة والتوجه الى تعاليم شيخه ومع مرور الوقت يتجاوز هذا الارتباط حدود الكلمات ليصبح حقيقة راسخة في الداخل تتجلى في شعور متزايد بالمسؤولية واستقامة مثالية وروح مخلصة في الخدمة والتشبث بالولاء لجلالة الملك باعتباره أمير المؤمنين وحامي حمى الملة والدين. فقد كان يرى أن الاستقرار الذي ينعم به المغرب لم يكن وليد الصدفة، بل هو نتاج حكمة قيادته، وتماسك شعبه، وتلاحم مكوناته الروحية والثقافية.
الدبلوماسية الروحية ومكانة المغرب عالميا
حين تحدثنا عن العلاقات الدولية، كان الدكتور سيدي منير يؤكد أن المملكة المغربية الشريفة ليست فقط دولة ذات سيادة، بل هي أيضا قوة روحية تمتد إلى العالم أجمع.
“بفضل السياسة الحكيمة لجلالة الملك محمد السادس، استطاع المغرب أن يكون فاعلا أساسيا في المشهد الديني العالمي”، قال لي وهو يشير إلى دور إمارة المؤمنين في تعزيز الحوار بين الأديان والثقافات، ومواجهة الإسلاموفوبيا، وتقديم الإسلام بصورته الحقيقية كدين للسلام والتسامح.
“إن الملتقى العالمي للتصوف لم يعد مجرد لقاء سنوي، بل أصبح منصة دولية للحوار الفكري والروحي، حيث يجتمع العلماء والمفكرون والسياسيون من مختلف أنحاء العالم، ليبحثوا كيف يمكن أن يكون التصوف جسرا بين الحضارات، وحلا لمشكلات العالم المعاصر”وللتذكير فان كل الانشطة التي تقوم بها مؤسسة الملتقى للتصوف برئاسة فضيلة الدكتور سيدي منير لا تتلقى الدعم من أي جهة واظن ان الانشطة والتأطير واللقاءات العلمية والفكرية التي تقوم بها هذه المؤسسة يستحقون دعما ماديا من اجل تغطية مصاريف انشطة المؤسسة القيمة.
المواقف الثابتة تجاه قضية الصحراء المغربية
لطالما كانت الطريقة القادرية البودشيشية في مقدمة المدافعين عن الوحدة الترابية للمغرب، حيث كانت مواقفها تجاه قضية الصحراء المغربية ثابتة لا تتغير بتغير الظروف. لقد كان سيدي منير القادري بودشيش من أبرز الأصوات التي أكدت أن الصحراء المغربية ليست مجرد أرض، بل هي جزء لا يتجزأ من هوية المغاربة، وقضية مقدسة توارثتها الأجيال جيلا بعد جيل.
في مختلف المناسبات، شدد على أن الدفاع عن الصحراء المغربية ليس مسؤولية الدولة وحدها، بل هو واجب ديني وروحي لكل المغاربة. وكان يحث مريدي الطريقة القادرية البودشيشية على الدعاء لأجل نصرة القضية الوطنية، والالتزام بالدفاع عنها في كل المحافل، والعمل على توعية الشباب بأهميتها باعتبارها قضية وجودية.
الدبلوماسية الروحية كرافد لتعزيز صورة المغرب عالميا
إلى جانب مواقفه الصريحة تجاه قضايا المغرب الوطنية، آمن الدكتور سيدي منير القادري بودشيش بأن التصوف يمكن أن يكون أداة دبلوماسية قوية تعزز صورة المغرب على الساحة الدولية. فقد سعى من خلال الملتقى العالمي للتصوف إلى تقديم المغرب كبلد يؤمن بالحوار والانفتاح، ويدعو إلى التفاهم بين الشعوب من خلال القيم الروحية.
بفضل هذه الدبلوماسية الروحية، استطاعت الطريقة القادرية البودشيشية أن تكون صلة وصل بين المغرب ومختلف الدول، حيث أصبحت مراكزها في أوروبا وإفريقيا وآسيا سفراء غير رسميين لقيم المغرب، وللدور المحوري الذي يلعبه في نشر الإسلام المعتدل.
كان يؤكد دائما أن الدبلوماسية ليست فقط في الاتفاقيات السياسية والاقتصادية، بل أيضا في القيم الروحية التي تعكس الوجه الحقيقي للأمم، وكان يرى أن المغرب، بقيادة جلالة الملك، هو نموذج فريد في الجمع بين القوة الدينية والتأثير السياسي، وهو ما يجعله فاعلا أساسيا في المشهد الدولي.
رؤية سيدي منير للقضية الفلسطينية
حين انتقل الحديث إلى القضية الفلسطينية، كان واضحا أن الموقف المغربي من هذه القضية يتماشى مع رؤية جلالة الملك في دعم حل الدولتين، وحماية القدس كمدينة لكل الأديان.
“إن المغرب لم يكن يوما بعيدا عن القضية الفلسطينية، لكنه كان دائما يدافع عنها بالحكمة، وبالعمل الدبلوماسي الذي يحقق نتائج حقيقية، وليس بالشعارات الفارغة”، قال لي وهو يشير إلى دور جلالة الملك كرئيس لجنة القدس، في حماية المقدسات الإسلامية والمسيحية، ودعم الحقوق الفلسطينية بطريقة متوازنة تحفظ مصالح الأمة الإسلامية.
التاريخ النضالي للطريقة القادرية البودشيشية
لم تكن الطريقة القادرية البودشيشية مجرد زاوية للتعبد، بل كانت على مدى التاريخ حصنا للمقاومة، ومنبعا للروح الوطنية. فقد كان شيوخها في طليعة من تصدوا للاستعمار الفرنسي، وساهموا في نشر الوعي بضرورة التحرر الوطني.
هذا الإرث النضالي جعلها تواصل دورها في حماية الهوية المغربية، وترسيخ الولاء للعرش، والتأكيد على أن التصوف ليس انعزالا عن قضايا الأمة، بل هو في قلب الصراع من أجل الحفاظ على وحدة البلاد واستقرارها.
لم يكن فضيلة الدكتور سيدي منير القادري بودشيش ينظر إلى الطريقة باعتبارها إرثا صوفيا فقط، بل كان يراها امتدادا للنضال الوطني الذي بدأه أجداده، والذي يتواصل اليوم من خلال الدفاع عن ثوابت المملكة المغربية، والعمل على نشر قيم الوحدة والتماسك بين أبناء الوطن.
المشاركة في الأحداث الوطنية وتعزيز الاستقرار
إيمانا منه بأهمية المشاركة الفاعلة في القضايا الوطنية، حرص الدكتور سيدي منير القادري بودشيش على أن تكون الطريقة القادرية البودشيشية حاضرة في مختلف الأحداث الوطنية الكبرى.
فقد كان للطريقة دور بارز في دعم التعديلات الدستورية لسنة 2011، حيث كانت من بين الأصوات التي أكدت على أهمية تعزيز دور إمارة المؤمنين، وضمان استمرار المغرب في مسيرته الديمقراطية دون المساس بثوابته الدينية والوطنية.
كما كانت مبادراتها الإنسانية واضحة خلال أزمة كورونا، حيث ساهمت في تقديم المساعدات، ونشرت الوعي من خلال برناج ليالي الوصال والذي مازال يستمر الى يومنا هذا حيث كان هذا البرنامج الهادف يتطرق الى مواضيع شتى ومن بينها الالتزام بالتدابير الصحية، كما دعت الطريقة القادرية البودشيشية إلى دعم الجهود الوطنية للخروج من الأزمة بأقل الخسائر.
كانت الرسالة دائما واضحة: التصوف ليس انعزالا، بل مشاركة في بناء الوطن، ودعم لاستقراره، وعمل من أجل تقدمه وازدهاره.
الوصية: عهد واستمرارية
لم يكن ممكنا أن يمر حديثنا دون الإشارة إلى الوصية التي كتبها سيدي حمزة القادري بودشيش، والتي كانت بمثابة إعلان لاستمرار النور الصوفي عبر الأجيال.
“التصوف ليس ملكا لأحد، بل هو أمانة”، قال لي وهو يستحضر كلمات جده سيدي حمزة قدس الله سره. “وقد حملنا هذه الأمانة بكل إخلاص، وحرصنا على أن تبقى الطريقة مخلصة لقيمها، ومستجيبة لحاجات العصر، ومستمرة في دورها كركيزة من ركائز الهوية المغربية”.
لقد كان العارف بالله سيدي حمزة، في وصيته، واضحا في أن الإذن الصوفي سينتقل إلى سيدي جمال الدين، ثم إلى سيدي منير، وهذا لم يكن مجرد انتقال للسلطة الروحية، بل كان عهدا باستمرار رسالة التصوف في خدمة الإنسان والوطن.
حين غادرت مجلسه الرباني والذي تحس فيه بمعنى روحاني فريد يمزج بين الجلال والجمال، كنت أشعر أنني لم ألتق فقط بوارث سر صوفي، بل التقيت برجل دولة يحمل التصوف في قلبه، والمغرب في عقله، والإنسانية في روحه كان حديثه مزيجا من الحكمة والتجربة، من الروحانية والفكر، من الوطنية والانفتاح على العالم.
ولابد هنا ان اشير الى بعض حكمه القيمة حين قال ان التصوف لم يقتصر يوما على الزهد والعبادة بل يشمل كذلك التربية الروحية التي تدعو الى معاملة سائر الخلق بالحسنى وتهدف لتحسين العرقات الانسانية وبلورة اسس الحياة الطيبة الكريمة والمعاملة الحسنة بين الناس من خلال رؤية تنظر للناس كافة بعين الرحمة والمحبة ولتحسين العلاقات الانسانية.
إنه صوت التصوف المغربي في زمن التحولات، وجسر بين الماضي والمستقبل، ورجل يؤمن بأن التصوف ليس ماضيا فقط، بل هو مستقبل أيضا.
إن سيدي منير القادري بودشيش لم يكن فقط بشارة العارفين ووارث سر الشيخ الرباني سيدي جمال الدين حفظه الله وشافاه ورزقه الصحة والعافية وبارك في عمره، بل كان حاملا لمشروع حضاري وفلسفة حياة متكامل، يجعل من التصوف مدرسة للأخلاق، ومن المغرب نموذجا للتسامح، ومن إمارة المؤمنين ضمانة لاستقرار الأمة المغربية.
كان ذلك اللقاء بمثابة سفر روحي وفكري، جعلني أدرك أن التصوف المغربي ليس مجرد تراث ديني، بل هو مشروع متجدد، وقوة ناعمة، ورسالة حضارية قادرة على التأثير في العالم.