الطيب الصديقي كما عرفته

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

طلحة جبريل

 

 

كنت أتصفح بعض الصور القديمة فوجدت بينها صورة متميزة مع الطيب الصديقي أحد أساطين المسرح المغربي.
عرفت الطيب الصديقي في تألقه وهو يتفوق على نفسه فوق الركح.
عرفته شخصاً ودوداً لطيفاً يطلق القفشات دون انقطاع.
عرفته فناناً يحرص على تخومه الفنية والشخصية.
عرفته شخصاً معتز بنفسه لا يتردد أن يستعمل لغة شرسة إذا شعر بالضيق.
عرفته مسرحياً مبدعاً إما أن تحبه وتتحمس له، وإما أن تتركه وشأنه.
فوق خشبة المسرح كان يبدو إنساناً خالياً تماماً من البوهيمية التي التصقت به ولم يتعلق بها، رجل لا ينسى عقله أبداً.
حين تحول عنه الزمان لم يقنط، عندما زرته في منزله وجدته وهو يصارع المرض مثل جبل أشم يمر به السحاب وتهب الأعاصير ولا يتزعزع. كان في حياته يسعى دائماً لقهر الموت، مدركاً أنه أسرف في الحياة.
كان أول لقاء لي معه حكاية تروى.
ذات يوم وجدت الصحافي الراحل عبد القادر شبيه في مقهى “باليما” في شارع محمد الخامس بالرباط، وقتها كان المقهى المفضل للصحافيين والكتاب والمثقفين والمبدعين في الرباط.
كان شبيه يجلس مع الطيب الصديقي، فدعاني للجلوس معهما. كان الطيب الصديقي يضع أمامه كتاباً بالفرنسية، عن الخط ويشتمل على رسوماته، وعندما جلست، تناولت الكتاب من فوق الطاولة ورحت أتصفحه، أشاهد الصور ولا أقرأ النصوص التي كتبت بالفرنسية.
ربما لم يتقبل الطيب الصديقي تلك الطريقة في تصفح الكتاب، ولم يكن يعرفني، فالتفت إلى شبيه وقال بطريقته الساخرة “من هو هذا.. الذي يتفرج على النصوص ويقرأ الصور؟”.
كاد شبيه أن يسقط على قفاه من شدة الضحك.
وقال له “هذا شاب سوداني يعمل محرراً في صحيفة العلم”.
كان رد الصديقي “آه، فهمت، هذا شخص من أولئك الذين يسكنون في الغابات ومساكنهم عبارة عن شجرة، وإذا سألت أحداً عن عنوانه يقول لك إنه يسكن في الغابة الفلانية من الجهة اليسرى في الشجرة الخامسة على اليمين”. لم يقف الصديقي عند هذا الحد.. بل راح يطلق الكثير من العبارات الساخرة والمسيئة.
لم أعقب، وجمت. من عادتي عندما أسمع كلاماً مسيئاً ألتزم الصمت.
والواقع أن تعليقات الطيب الصديقي، على الرغم من جرحها، كانت ساخرة فعلًا، وفيها جرعة كبيرة من التفكه والكثير من قدرات المسرحيين عندما ينطلقون في الحديث.
انتهت تلك الجلسة على إيقاع سخريته اللاذعة، لكن هذه الواقعة ستكون مدخلاً إلى علاقة صداقة متينة جمعت بيني وبين الطيب الصديقي، وظلت مستمرة إلى أن غادر دنيا الناس هذه قبل تسع سنوات.
سيقدم الطيب الصديقي لي بعد تلك الواقعة بسنوات اعتذاراً علنياً بطريقته الخاصة أمام جمهور مسرح محمد الخامس في الرباط أثناء عرض مسرحيته “بديع الزمان الهمذاني”.
تضمنت تلك المسرحية مقاطع يقول فيها الطيب الصديقي عبارات مثل: “هل عرفتم القعقاع بن المقفع؟ هل عرفتم زهير بن أبي سلمى؟ هل عرفتم امرؤ القيس، وعمرو بن كلثوم؟”، وهكذا راح يردد أسماء وازنة من التراث العربي. وقبل أن ينهي ذلك المقطع صاح قائلاً: “وهل عرفتم طلحة جبريل”.
لم أحضر ذلك العرض المسرحي، لكن حضره أصدقاء نقلوا لي الواقعة، وكيف أن الطيب الصديقي ذكر متعمداً اسمي في مسرحيته. اعتبرت الأمر التفاتة جميلة من الطيب الصديقي، بل تلقيت الحكاية باعتزاز كبير، وعبرت له بعد ذلك عن مشاعري.
لم يكن أمراً هيناً أن يذكر الطيب الصديقي اسم صحافي في بداية مشواره المهني آنذاك أمام جمهور عريض في مسرحية من مسرحياته التي طبقت شهرتها الآفاق.
ظل الصديقي يتذكر تلك الواقعة جيداً كلما التقيته. وبقيت محفورة في ذاكرتي.
المؤكد أنني كنتُ أكنّ له تقديراً ومودة، وكان يبادلني الشعور نفسه، وربطت بيننا صداقة متينة وقوية. يحزنني الآن أن تلك العلاقة لم تتبق منها سوى أصداء بعيدة.
نعم.. رحل الطيب الصديقي لكن ترك الكثير.
تقول الكثير. بل ترك تاريخاً.
طوبى للعظماء.

إيطاليا تلغراف


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...