حين ينطق الجسد بما تعجز عنه الدبلوماسيّة: سيميائيّات الوجه في قراءة الـ” الاشمئزاز والتشنج” الدبلوماسي الجزائري

إيطاليا تلغراف

 

 

 

* الدكتور عَبْدُ اللَّه شَنْفَار

 

 

في حقل التحليل السياسي، حيث تتراكم الخطابات وتتناقض السرديات، يبرز الجسد كوثيقة صادقة تعيد تشكيل هندسة المعنى.
هذه الدراسة تحاول تفكيك لحظة انكشاف دبلوماسي عبر سيميائيات الوجه، مقترحةً إطارًا تحليليًا يتجاوز التلقي السطحي إلى فضاء التأويل النقدي.
– الجسد كنص سياسي في فضاء التشظي الرمزي
لم يعد الفعل الدبلوماسي حكرًا على الخطاب اللفظي، بل تحوّل إلى مشهد مركب تُنتج فيه الأجساد دلالات موازية. هنا، يتحول الوجه إلى حقل دلالي، ينطق بلغة بصريّة تختزل هوة بين الخطاب الرسمي والواقع السياسي. فكيف يمكن لحركة عضليّة عابرة أن تتحول إلى بيان سياسي؟ وأي قوة رمزيّة تكمن في تلك المسافة بين ما يُقال وما يُعبر عنه جسديًا؟
* الأول: تشريح الـ Grimace – من الفيزيولوجيا إلى السيميائيات
تشكل تعابير الوجه في اللحظات الحرجة نظامًا علاماتيًا قائمًا على الترميز المزدوج:
1. الفيزيولوجيا كنص أولي:
الانقباض غير المتناظر في الشفاه، والنظرة الشاردة، وانكماش الحاجبين، ليست سوى شفرات جسديّة تعبر عن صراع بين الإرادة الرسميّة والانفعال الشخصي.
هذا التشابك العضلي يفضح التوتر بين الأداء المقصود واللاوعي الجسدي.
2. السيميائيات التطبيقية:
بحسب نموذج العالم “بيرس” السيميائي، تتحول الـ Grimace من مجرد حركة إلى “أيقونة انفعالية” تجسد الحسرة واعتصار الألم مباشرة دون حاجة إلى وساطة لغوية.
أما العالم “بارت”؛ فيرى فيها مستويين: الدلالة الحرفية (الحركة العضليّة) والدلالة الإيحائيّة (انهيار الخطاب السياسي).
فهل يمكن اعتبار هذه الحركات اللاإرادية شكلاً من أشكال “المقاومة الجسديّة” ضد خطاب سياسي مفروض؟
* الثاني: الجسد كفضاء للصراع بين الرسمي واللاواعي
في لحظة التصويت، يتحول الجسد إلى ساحة صراع بين:
– سلطة الخطاب التي تسعى لفرض السيطرة والتماسك.
– اللاوعي الجسدي الذي ينفلت من هذه السيطرة معبرًا عن الحقيقة المكبوتة.
هنا، لم تعد حالة التشنج مجرد تعبير عن خيبة أمل، بل أصبحت “جملة بصرية” مكتملة الأركان (فاعل، فعل، مفعول)، تعلن إفلاس الخطاب الرسمي.
لكن أين تكمن حدود التحكم الدبلوماسي في الجسد؟ وهل يمكن للبروتوكول أن يهزم الفيزيولوجيا؟
* الثالث: الصورة كحدث دلالي – من التوثيق إلى إنتاج المعنى
تتحول الصورة في هذه اللحظة من مجرد وسيط توثيقي إلى فاعل في إنتاج المعنى السياسي. فهي تلتقط:
– التقاء خطابين متعارضين: الخطاب الرسمي (سردية المظلومية) والواقع السياسي (نتيجة التصويت).
– لحظة الانزياح الدلالي حيث ينتقل مركز الثقل من اللغة إلى الجسد.
فهل تشكل هذه الصورة نموذجًا لما يمكن تسميته “اللحظة اللالفظية الحاسمة” في صناعة الرأي العام؟
* الرابع: من الفردي إلى الجمعي: التشنج كاستعارة جماعيّة
لا تقتصر دلالة الـ Grimace على الدبلوماسي الفرد، بل تتحول إلى:
– استعارة لجسد سياسي جمعي يفقد قدرته على التمثيل المقنع.
– تجسيد لانهيار سردية كاملة قائمة على الخطابة المفرطة والادعاء الرمزي.
لكن كيف تتحول الانفعالات الفردية إلى رموز جماعية؟ وأي دور تلعبه الوسائط البصرية في تضخيم هذه التحولات؟
* الخامس: دبلوماسية الجسد: نحو أنطولوجيا جديدة للفعل السياسي
تفتح هذه الظاهرة الباب أمام أسئلة جوهرية حول:
– إمكانية تدريب الجسد الدبلوماسي على “الانفعال المقنن”.
– حدود الفصل بين الشخصي والرسمي في الأداء السياسي.
– إشكالية “الصدق الجسدي” في فضاء يعتمد على التمثيل والبروتوكول.
لكن السؤال المنهجي، وهو: هل تحتاج الأكاديميات الدبلوماسية إلى تدريس “سيميائيات الجسد” كفرع أساسي من فروع التدريب الدبلوماسي؟
* خلاصة: جسدية السياسة وأخلاقيات الانكشاف
تبقى الـ Grimace وثيقة سياسية صادقة تعلن أن:
– الجسد قد يكون آخر معاقل الصدق في فضاء سياسي مشبع بالتلفيق.
– الانفعال البشري يظل عنصرًا لا يمكن اختزاله بالكامل في معادلات البروتوكول.
– اللحظات الأكثر صدقًا في السياسة هي تلك التي ينكشف فيها التمثيل ليظهر الإنسان خلف القناع.
* تساؤل ختامي: هل يعني هذا أن مصداقية السياسي تقاس بقدرته على التحكم في جسده، أم بقدرة جسده على مقاومة هذا التحكم؟
* خلاصة:
ربما تكون أهم إشكالات العصر السياسي هي هذه الهوة المتسعة بين طموحات الخطاب وإمكانيات الجسد. ففي اللحظة التي يعجز فيها اللسان عن الكلام، ينطق الجسد بحقيقة لا تستطيع كل بلاغات العالم إخفاءها. فهل نستمع؟

إيطاليا تلغراف


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...