مصنع العالم لقطع الغيار البشرية

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

 

*نعيمة عبد الجواد

 

 

إنقاذ حياة إنسان دوماً وأبداً الهدف الأسمى الذي تسعى له البشرية؛ خاصة الأطباء. وأكبر الإنجازات العلمية على الإطلاق هي القدرة على استبدال عضو بشري تالف بآخر سليم؛ لضمان الإبقاء على حياة شخص قد يكون ذا قيمة عالية، ولا يمكن الاستغناء عنه على الساحة السياسية أو الاقتصادية أو العلمية أو الاجتماعية، أو قد يكون ذا قيمة عالية لدى ذويه، إلا أن المعضلة الكبرى تنشأ عندما يتم إزهاق حياة المُتبرِّع من أجل الإبقاء على حياة المريض.

والصين التي أثبتت جدارتها على جميع الصُّعد الاقتصادية والتكنولوجية وتصدَّرت الساحة، لدرجة أنها صارت مصنع العالم الذي لا يمكن الاستغناء عنه، أثبتت أيضا جدارتها في أن تصبح التاجر الرئيسي لقطع الغيار البشرية لجميع أنحاء العالم؛ فالوفرة في أعداد السكان ولَّدت لدى القائمين على تجارة الأعضاء البشرية، الرغبة في تصدُّر هذا المجال، وبذلك أصبحت الصين أكبر موَّرد عالمي لقطع الغيار البشرية.

أما المصدر الأساسي للأعضاء البشرية فهم مساجين الرأي الذين يتم إعدامهم بسبب التعبير عن آرائهم، ناهيك عن العديد من الممارسات اللاخلاقية من أفراد راغبين في الثراء السريع؛ حيث يتم خطف أفراد وأخذ بعض من أعضائهم عنوة، أو قتلهم للاستفادة القصوى من جميع الأعضاء التي تباع بشكل فوري لمستشفيات زراعة الأعضاء، وقد تسبب خطف سيدة لطفل صغير وانتزاع قرنيتي عينيه إلى تصعيد المقاومة ضد سرقة الأعضاء قسريا في الصين، لكن المعضلة الكبرى لا تكمن في الأفراد المتجردين من الضمير والراغبين في الكسب السريع، المشكلة الكبرى أن الدولة ضالعة في الأمر بأكبر حصة على الإطلاق. ففي الصين، تؤخذ أعضاء المساجين المحكوم عليهم بالإعدام، ويتم بيعها بشكل قانوني، ويقال إن التشريع ظهر بسبب زيادة الطلب المحلي على زراعة الأعضاء مع ندرة وجود متبرعين. فالصينيون راغبون عن التبرع حتى بعد الموت؛ فالأعراف تقضي بالحفاظ على الجسد سليما، سواء عند مواراته التراب أو حتى حرقه. في ما بعد، تبيَّن أن عمليات الإعدام الغفير للسجناء في الصين يستهدف بشكل أساسي الحصول على أعضائهم، فحكم الإعدام يتم تنفيذه بسبب قضايا لا تتطلب على الإطلاق حتى ولو السجن لعدة أشهر. ولاحظ المراقبون أن تشجيع سياحة بيع الأعضاء في الصين، جعل الدولة تؤجل تنفيذ حكم الإعدام على أحد الأشخاص لحين وصول المشتري ليحصل على عضوه طازجا.

وبعد إثارة القضية على مستوى دوليّ منذ عام 2010، عقدت محكمة لتقفي آثار هذا العدوان على البشرية من خلال التشجيع على سياحة زرع الأعضاء. ومن الروايات المخيفة كانت ما شهد به طبيب مكلَّف من الحكومة بنزع الأعضاء من المساجين فور الإعدام، وقد روى أنه في إحدى المرات قام بسلخ جلد أحد السجناء وهو لا يزال لم يفارق الحياة بعد. ولكشف الممارسات اللاأخلاقية في تجارة الأعضاء في الصين، تفحصت «محكمة الصين» الأمر؛ ومن الجدير بالذكر أنها محكمة شعبية دولية لا تنتمي لجهة حكومية، ومقرها في لندن. وتحضير التقارير تطلب من المحكمة فحص قدر كبير من الأدلة المكتوبة، وإجراء مقابلات فردية مع أكثر من 50 شاهداً على مدار 12 شهراً تبين منه أن المصدر الرئيسي للأعضاء على الأرجح هم جماعتان دينيتان.. جماعة فالون جونج Falun Gong الروحية التي تطلق عليها الصين جماعة الشر، على الرغم من أن قيمها الروحية تحض على التسامح وحب الخير وطقوس العبادة بها التأملات الروحية، ويبلغ عدد أعضائها 70-80 مليون فرد. وجماعات مسلمي الإيغور، الذين يتعرضون لعملية إبادة عرقية ممنهجة بإخضاعهم لإعدام غير مبرر. ويجب التشديد على أن جميع الشهود في هذه القضية من المتطوعون، دون إجبار أو تحفيز.

ومن المتواتر على الصعيد الرسمي أن الصين شهدت زيادة سنوية في عدد المتطوعين للتبرع بأعضائهم بعد الوفاة في الفترة 2010 ـ 2016 ؛ حيث ازداد الرقم من مجرد 34 متبرعا إلى 4080 ألفاً. وأن عدد زارعي الكبد والكلى ارتفع من 63 عام 2010 إلى 1041 عام 2016، إلا أن المحكمة تعتقد أن تلك الإحصاءات «مفبركة» حيث أن عدد عمليات الزراعة على الأرجح يتراوح ما بين 60 إلى 90 ألفاً في السنة. ودليل المحكمة على تزوير تلك الإحصاءات أن المنظومة الرسمية للتبرع بالأعضاء لم تكن كائنة في ذاك الوقت، أو أنها كانت موجودة بشكل مبدئي لا يسمح بتوافر أعداد غفيرة من المتبرعين كهذا.

وإن كانت تجارة الأعضاء متوافرة بشدَّة في أماكن أخرى في العالم مثل الهند والبرازيل، لكنها لا تقوم على التطهير العرقي، أو إعدام سجناء الرأي على جرائم لم يقترفوها، أضف إلى ذلك، الطلب المحلي في الصين على الأعضاء البشرية يبلغ نحو مليون ونصف مليون تقريبا، إلا أن ما يتم الإيفاء به هو أقل من 1٪ من حجم الطلب المحلي. فالأعضاء موجَّهة للسائحين لدرجة وجود مستشفيات حكومية لنقل وزراعة الأعضاء بجانب السجون لتسهيل نقل الأعضا،ء دون تكبد تكلفة التخزين والنقل، أو المطارات لتسهيل النقل أو الزرع فور أن تطأ قدم السائح القادم، سواء من العالم المتقدم أو الخليج أرض المطار، الذي يدفع الثمن بسخاء، على عكس أفراد الشعب الصيني، الذين لم يطالهم هذا الحد من الثراء. وغالبا يتم الترتيب لتنفيذ حكم الإعدام على سجناء الرأي بالتزامن مع وصول أفواج سائحي زراعة الأعضاء.

والصدمة الكبرى أن تجارة الأعضاء والعمل على ازدهارها – حتى لو بطرق غير شرعية ـ مغلَّفة بمرسوم قانوني أصدرته جهة سيادية. ولا عجب، فإن القوانين والتشريعات في الصين يصيغها أصحاب النفوذ لتكون في صالح ذوي النفوذ. ومن ثم، فإن المواطن العادي لا ينشأ لديه حافز على احترام القانون الذي لا يحترم حقوقه، خاصة في ما يتعلق بالرعاية الصحية؛ لأن الدولة تبذل أقل القليل لتؤمن ظروف أفضل لصحة مواطنيها. وبعد تزايد الأقاويل والاعتراضات الدولية على ممارسات زراعة الأعضاء في الصين، تعهدت الحكومة عام 2014 أن تعمل على إلغاء تلك التجارة بعد خمس سنوات؛ أي بحلول عام 2019. وحتى الآن لم يتبدل الوضع، ولا يزال الفرد في الصين رهينة لأخذ أعضائه في أي وقت.

وللأمر معضلة أخلاقية وأخرى إنسانية، فالإنسان من حقه أن يختار حياته والحفاظ على جسده بالطريقة التي يراها مناسبة، سواء بدفنه معه سليما، أو باستبدال العضو التالف. وفي كلا الحالتين، الجور على هذا الحق تعدِّ سافر على الحرية الشخصية.

*كاتبة مصرية

إيطاليا تلغراف


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...